الإنسان في أبرز فعالياته كائن منتج للرموز، ولا يزال أسير هذه الرموز وفي قبضتها تأخذه حيث تشاء وتوجهه أنى تريد في زحام العلوم والفلسفات بتلوناتها. فما عليه إذن سوى هتك حجاب اللغة ورفع ستار المعنى خاصة وأن الإبداع المعرفي والحضاري في الأمة العربية الإسلامية التي تعيشه هي لحظة من الغفلة والهمة القعساء لوضعها المعرفي الإستهلاكي للمفاهيم الوافدة إليها دون نقد،مما ولدت أزمة معنى آلت إلى قلق في المفاهيم ناتجة عن تكديس المفاهيم .
إذ نجد أول إشتياقات الإنسان في ذاكرته الروحية هي البحث عن المعنى ،فلابد للمفكر أن يبدع مفهوما جديدا يحمل حقيقته لفظا ومعنى بحسب قول أبو الحسن العامري في كتابه الإعلام بمناقب الإسلام “أن المعاني الحقيقية لن يتهيأ تصويرها إلا بالألفاظ الشهية”،ويقصد بها الألفاظ الإبداعية المتجددة التي تخترق الأنفس لتترك أثرا وجدانيا ومعرفيا لا الألفاظ الراكدة والجامدة المغلقة .
ولا يمكن للأمة الإسلامية أن تتحرر من هذه الفوضى المصطلحية التي فرضت على اللسان العربي، فكان فكره مكبلا ومقيدا ولن يكون التحرر من هذا الإستعمار المفاهيمي إلا بالإبداع في مفاهيمنا وأفكارنا والخروج من آفة التقليد ومن الشرود والتيه الفكري الذي أصاب هذه الأمة ،خاصة لما نقله الفلاسفة العرب من المعارف من الحضارات الغربية لكن هذا النقل لم يستقم وعرف العديد من الأسقام دون البحث عن دواء لهذا الفكر المعلول .
فكان أول مفكر عالج هذه الأزمة هو المفكر المغربي طه عبد الرحمن في مشروعه الفلسفي بكتاب فقه الفلسفة بجزئين الأول الفلسفة والترجمة والثاني القول الفلسفي المفهوم والتأثيل جامعا بين الفقه والفلسفة أي بين النظر والعمل مبررا عمله بمقولته الشهيرة كل مفهوم منقول إلينا نعترض عليه حتى يقوم الدليل على صحته وكل مفهوم من عندنا مقبول حتى يقوم الدليل على بطلانه،والمقصد هو التحقق لما يرد إلينا من أقوال ومفاهيم والتحرر من التقليد .
أما من الناحية القيمية المقصد هو بناء شخصية فلسفية مستقلة قادرة على العطاء والنماء والتجديد بلغة طه إلى الإنسان الكوثر بدل أن يكون الإنسان مبتورا ،ويقصد بالإنسان الكوثر هو المنشغل بإحياء روحه إحياء لا يفصل بين العقل والقلب ، لتكون الأخلاقية هي التي تثبت العقلانية وتوسع نظرها .فيصبح كل فيلسوف له تقنية خاصة أو ورشة تحتوي مجموعة أدوات لصناعة مفاهيم تداولية دون نقل وتقليد وهذه التقنية في تكوثر دائم ويصبح الفيلسوف متمكنا من آليات مفهومية للخطاب الفلسفي العربي إذن فكان سؤال المفهوم سؤال ومسؤولية لكل مفكر مسلم لإعادة التأمل في الفكر العربي الإسلامي وتشخيص آفات الفلسفة العربية ،لتكون مفاهيم متكوثرة منبجسة من العقل المتكوثر لا تعرف الجمود.
والفيلسوف ليس كائنا منعزلا عن التربة التي نشأ في أحضانها ،فلا بد أن يفكر بلسان قومه والكلام أشبه بالشجرة الثابتة التي يصعب إجتثاثها حسب قول طه عبد الرحمن “فالمفهوم الثابت من التداول الثابت” إذن طه يدعو إلى حداثة جوانية قبل أن تكون حداثة برانية فانطلق طه من نقد القول الفلسفي العربي لكونه قول مستغرق في آفة التقليد، بسبب هيمنة المفاهيم المستوردة من دوائر الفكر الفلسفي الغربي، والعيب هنا ليس فيها وإنما العيب فينا سببه الجهل بالآليات التي يشتغل عليها الفيلسوف الغربي، والأهم من ذلك لا بد إدراك والعودة إلى معرفتنا التراثية لتجديد فكرنا ولتحقيق حوارية التواصل قولا وفعلا ،فالمفهوم إبن تراثه فالجمود على النصوص الفلسفية والتمسك بحرفيتها هو كذلك التمسك بالبراديغم المعرفي والأخلاقي الحاكم لأنه السلطة الخفية الماورائية للنص الفلسفي ،ثم يأتي المفكر العربي منقادا نحو العقل الغربي الحداثي المجرد والعاري من لباس الأخلاق .
هدف طه عبد الرحمن من فقه الفلسفة
أولا: لتحقيق التكاملية من أجل النظر في النصوص الفلسفية والأقوال الفلسفية وذلك يتطلب الإستناد بآليات من علوم مختلفة منطق،علم اللسان، وعلم البلاغة،…..والتأمل في الأسباب ومضامين هذه الأقوال لابد التوسل بعلوم مختلفة كعلم التاريخ وتاريخ العلم ….إن فقه الفلسفة كنسيج لتلاحم الفعل والقول، فلابد النظر أيضا في الأفعال مما يستوجب استناد إلى علم الإجتماع وعلم النفس وعلم الأخلاق لدراسة وتفسير الظواهر السلوكية.
ثانيا :من الناحية العملية ما ساد في تاريخ الفلسفة هو إغفال الجانب العملي والحكم على الأقوال لا الأفعال فوقعت الفلسفة قي قفص التجريد لا العمل فكان من ثمارها العقل المجرد لا العقل العملي.
ثالثا : العلمية يقول طه لابد أن ننظر للفلسفة كما ينظر العالم في الظاهرة بالرصد والوصف والشرح.
فكان التأثيل روح الممارسة التقويمية لمعالجة اعوجاج الفكر العربي الإسلامي ذلك بشحن المفاهيم بالقيم لأنها هي التي تمنح الوجود إستقامة ومعنى لقد أبدع طه عبد الرحمن في نحت مفاهيم جديدة الحاملة للخطاب القيمي الإسلامي بدل من حبسها في لغة اليونان من أمثلة لهذه المفاهيم الدهرانية ، فقه الفلسفة ،التأثيل، العقل المؤيد،المروق،السدومية، لفتح إشكالات جديدة وقراءات جديدة للنصوص وتقويم التراث بمفاهيم مؤيدة.