العلم متاعٌ لا يُثمن، وثروة لاثروةَ فوقها، وحليةٌ لا نظير لها. من تحلى بها بات منقطع النظير، صاحب العلم ضَيْفٌ في هذه الدنيا الفانية لأيام عديدة، ولكن حليته هذه تجعله يحيى ما اختلف المَلَوَانَ وكَرَّ الجديدان في بطون الكتب التي تُغَذِّيْهِ غذاءً يصمد به أمام النكبات كصخور الجبال السود.والجمال الحقيقي ليس بألبسة مبرقشة كما يظنه الكثير، بل بالعلم والأدب، والمحروم عن هذين الفَذَّيْنِ يتيم ومسكين طوال عمره، وإن عاش تحت ظل أبويه الظليل ألف سنةٍ.ولله در على بن أبي طالب ــ رضي الله عنه وكرَّم وجهه ــ.

لَيْسَ الجَمَال بأَثْوابٍ تُزَيِّنُنَـــــــا                    إن الجمال جمال العلم والأدب

ليس اليتيم الذي قد مات والده                       إِنَّ اليَتيمَ يَتيمُ العِلْمِ والأَدَب

ولأهمية التعليم وخطورته زَيَّنَ الله تعالى به أبا البشرآدم ــ عليه السلام ــ إثر خلقه، وبه شَرَّفه وفَضَّلَه على الملائكة المقربين أسرهم. قال تعالى : ” وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ۞ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ۞ قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ۞ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ۞ {البقرة: 34،33،32،31}” كما أثبت الله تعالى خطورة التعليم لكافة الناس إلى ما تعاقب العصران بإنزال وحيه الأخير على خاتم الأنبياء ــ عليه وعليهم الصلوات والتسليمات ــ المبدوءِ بكلمة “اقرأ” فقال : “اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَق”{العلق: 1}

إن للانتفاع من كل شيئ لقواعدَ وضوابطَ متينةً، لولا اتخذت تلك القواعد بالجِدِّيَّة لعاد ذلك الشيئ بالخسران بدلا من العوائد مهما كان مفيدا في ذاته.ومن الأسف الشديد أن التعليم الذي هو متاعٌ باقٍ قد تعرض لذلك في مجتمعنا. ومن جَرَّاء ذلك سادت الهَمَجِيَّةُ بدل الإنسانية، والتَنَزُّلُ نحو الأسفل موضعَ الترقية إلى الأعلى، والسيئاتُ مكان المكارم، والمجتمع السوء عوض المجتمع الصالح، والتكاثرُ بالمال مسدَّ المُواساة.

لِمَ؟ وكيف صارت نتائج ماهو ناجعٌ سيئةً لهذه الدرجة؟ لوأجيبَ، فجوابه بكلمتين لا أكثر، أن منهج تعليمنا قد يُوْجَدُ في أساسه نقائصُ يعلمُها كُلُّ صغيرٍ وكبيرٍ، ولكن لايلتفتُ إليها أحدٌ، حتى الذين يهتفون صباح مساء أن شعارهم الاِزْدِيَانُ بالعلم والأدب، ونشره إلى أقصى بقاع الأرض، ولا من بيده زمام الأمور. وإن كان هناك من يخطر بباله ذلك فهو مكفوف الأيدي. والمسؤولون التنفيذِيُّونَ قد اتخذوا مقاعد المتفرجين، وينتظرون المصير النهائي الوخيم لأجيالهم الناشئة. ــ لاسمح الله ــ

من أكبرنقائص التعليم نظامُ التعليم الطبقي. لدينا مدارسُ خاصةٌ لأطفال الأثرياء على منوال “الكيمبردج وآكسفورد”، وأدوات التعليم هنا مُوَفَّرَةٌ بالوفرة، ومدارس أخرى لتعليم أطفال متوسطي الثراء، ومدراء هذه المدارس يهتمون بتوفير أدوات التعليم حسب الرسوم. ومدارس حكومية لأطفال المدقعين في الفقر التي لاتُتاحُ فيها مُقَوِّماتُ الحياة كالماء والكهرباء فضلا عن الأدوات الفاخرة للتعليم. ومدارس دينية يلتحق فيها الأيتام والمساكين الذين لاوارث لهم إلا ماشاء الله.

ولقد دفع ذلك إلى توزيع المجتمع في ثلاث طبقات مختلفة الألوان، فلايوجد إنسانٌ يشعر بآلام وأحزان أحد، وهي تتساقط عليه كالصخور الضخمة ليلَ نهارَ. والمناصب الرئيسية العالية نيلها صار حلماً لم يكتشف تعبيره لأهلها الحقيقيين؛ فالثري يزداد ثروةً ويترف في النعم كأنه الوحيد المستحق لها دون منافس، والمفلسي ذوالتراب يزداد إفلاساً يوما فيوماً، ولايمكن إصلاح مجتمعنا هذا إلا بتحطيم هذا النظام الطبقي الذي تَجَذَّرَ منذ سبعة عقود.

ومن الأفضل أن يزْدانَ بحلية التعليم الزاهية الزاهرة أطفالُ الأثرياء والفقراء تحت أديم مدرسة واحدةٍ؛ لكونهم سواسية كأسنان المشط في نظر الإسلام. و ليس ذلك من واجب الأفراد وحدهم الذين من الصعب أن يقوموا بخطوات جَبَّارَةٍ وسريعة لكَبْحِ التدهور هذا، وإنما من وَاجِبِ كل من يسكن على وجه المعمورة في صَعِيْدٍ واحدٍ. فعلى قادة الشعب أن ينشؤا حركاتٍ وَظِيْفَتُها إعداد توصيات تُحَسِّنُ مستوى منهج تعليمنا، وثَمَّةَ على الحكومات أن تَدْرُسَ هذه الكارثة بالجِدِّيَّةِ من جوانبها الأربعة، وتنفذ التوصيات المفيدة الهامة دون اكتراث بالضغوط السياسية الداخلية والخارجية.

ومن مثالب منهج تعليمنا أيضا أنه صارت المدارس والجامعات الكبرى مرتزقاً لمدرائها، فهي تمثل دورالمصانع والشركات أكثر من دورها في تحسين وضع الشعب العلمي، وترقيتهم في العلم والأدب. فالتعليم والتعلم ليس هدفهما السامي في الزمن الراهن إنشاءَ المجتمع المثالي، وإعدادَ رجال مخلصين يضحون أنفسهم لأجل الوطن والأمة، بل هدف العالقين بهما جَلْبُ المال وتنمية وضعهم الاقتصادي عمْداً أو غير عمْدٍ، وذلك أدَّى إلى حرمان ذوي القدرات الموهوبة والكفاءات العالية من حلية التعليم التي هي أغلى مما يمتلك الإنسان في حياته.

ومن القبائح التي جلبت لنا الكثير من المشاكل المستعصية، وَضْعُ منهج التعليم على خطوط مُعادية لِديننا الحنيف، وطقوسنا الَّذَيْنِ بهما وجودنا، ولاسيما المنهج المسموم الذي وضعته المؤسسات الأجنبية، ثم فرضته في المدارس التي تُدارُ تحت إشرافها؛ لتوعية أفكار أطفالنا المعصومين الأبرياء ضدَّ دينهم حيث غير متاح لهم فيها تعليم القرآن والسنة حتى مبادئ الإسلام، فالمتخرجون منها يحملون أفكاراً معارضة لدينهم ووطنهم الذَّين آوياهم في مهدهما، وذلك لأن المنهج كالعمود الفقري للبلد. وكيان الوطن والأمة رهين إشارته، والأجيال الناشئة ترتوي من هذا المعين المتدفق؛ فالخير والشرفي المستقبل يكون حَظُّ الأمم من أحدهما على هذا الأساس.

لِـخُطُوْرَةِ منهج التعليم ومدى تأثيره في تطوير الأمم وتدميرها لَفَتُّ أنظاركم إلى أقبح قبائح منهجنا التعليمي التي هززت كياننا. ودونكم الآن بعض التوصيات الأساسية التي من الممكن أن تكون قواعد أساسية لتشكيل المنهج المُحكم الذي يُساعدنا على إعداد رجال مخلصين لدينهم ووطنهم.

– إن هدف التعليم الأساسي تنشئةُ القِيَمِ الرُّوْحِيَّة والثقافية وإحياءُ تقاليد المذهب والوطن، وقد كان وُضِعَ منهجُ تعليمنا في السابقِ على هذا الأساس القويم الذي خَوَّلنا الحُكْمَ على سائر الدنيا من مشارقها إلى مغاربها زهاءَ ألف سنة. ولَمَّا عجز الاستعمار المحتل البريطاني من السيطرة على عقول الأقوام المستعبدة بعد أن استولى على بلادهم وممتلكاتهم ، قَدَّم أحدُ دُهاتِهم “لارد ميكالا” ــ قَبَّحَه الله ــ اقتراحاً مسموماً إلى مجلسِ النُوَّاب قائلاً: إن أردنا استمرار حكمنا على شبه القارة الهندية يجب علينا أن نُغَيِّرَ منهج تعليم أهالى الهند، ونضع لهم منهجاً جديداً يُبْعِدُهم عن دينهم وتقاليدهم، ويستعبد عقولهم وطموحاتهم كما استعبدتْ سيوفنا أجسادهم …. لقد فاز “ميكالا” في حلمه، واستَغَلَّ منهج التعليم شَرَّ استغلالٍ، ولكن المؤسف أننا مَنْ ساعدناه في تدميرنا، وتكاتفناه في هذا العمل المشؤوم؛ باختيارمنهجه المسموم الذي جُرِّبَ سُمُّه الزُّعافُ لتربية أجيالنا بعد الاستقلال من براثن الاستعمار، وكان علينا وضع منهج جديدٍ حُرٍّ يليق بأقوام حرة. لا، ولن يحدثَ ذلك مهما بقيت عقولنا وطموحاتنا مستعبدةً.فكان من الأفضل أن نسعى وراء تحريرأفكارنا قبل تحرير أجسادنا.

– ومن أعظم أهداف التعليم إعدادُ رجال أمينين، موثوقين، متفادينَ مالَهُم، وأَنْفُسَهُم، وأَهْلَهُم في سبيل دينهم ووطنهم، ودائِبِيْنَ جهودهم المكثفة لحماية شرف القوم والوطن، غير منحنين أمام السيول المتدفقة المجرفة، مقاومين الخطر مهما عظم.

أما منهج تعليمنا التقليديُّ الموضوع على فكرة “ميكالا”  الرائج في المدارس العصرية ففيه إهمال عن هذه الأهداف السامية الأصيلة، وفيه اعتناء بما لا يجلب النفع في الدارين لأجيالنا الناشئة، فنحن اليوم نمسك أطفالنا بعَجُزِهم، ونقيمهم على شَفاجرف هار أعده أعدائنا اللدود ــ رحمتك يارب ــ ولاندرس خطورة الوضع حتى بشكل خاطفٍ.

ومناهج المدارس الدينية فَقَدَتْ الاعتدال؛ لتزويدها إيانا بديننا فقط، وليس فيها اعتناء شديد بالعلوم المعاصرة الرائجة التي لا محيص عنها للعيش في هذا الكوكب، مع أن ديننا يأمرنا بالاعتدال والوسطية في كل شيئ، وهو يأمرنا أن نهتم بدنيانا كما نهتم بديننا، ونسلك طريقا معتدلة لا إفراط ولا تفريط فيها. قال الله تعالى:” رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ۞ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ۞”{البقرة: 202،201}

فالواجب تجاه كلنا أن نبذل أقصى جهودنا لتنفيد منهج تعليمي بديلٍ خالٍ عن النقائص المتقدمة ذكرها؛ كي تترع أجيالنا القادمة على روح دينهم المستقيم الغالية، وليكونوا مطلعين على مآثر أسلافهم ومفاخرهم وتراثهم الإسلامي القومي، و متخلقين بأخلاق فاضلة : الأخوة الإيمانية والمواساة، والثقة بأنفسهم، والأمانة والديانة والصداقة، وليثبتوا أنهم مسلمون مخلصون، وفِيُّونَ للقوم والوطن.