أكد علماء الأزهر والأوقاف أن الإسلام الحنيف دين مُتجدِّد بذاته وأصوله ويرفض الجمود والرجعية، بل يأمر أتباعه بمواكبة مستجدات العصر وإنزال أحكامه الشرعية على الوقائع الحياتية بمنطقية وفهم. وحذَّروا من حملات التطاول والتهجّم على التراث الإسلامى تحت دعاوى حرية الفكر والتعبير والتجديد، مشيرين إلى أن تلك الحملات تأتي تقليدا للغرب في عصوره الوسطى المُظلمة.

جاء ذلك في المؤتمر العلمي الدولي الأول لفرع جامعة الأزهر بأسيوط، والذي عُقد تحت عنوان ” الفهم الصحيح للتراث الإسلامي وأثره في علاج الانحراف الفكري” واختتم أعماله الأسبوع الماضي بحضور كوكبة من كبار العلماء والدعاة من الأزهر والأوقاف.

وقدّم د. محمد عبدالشافى- نائب رئيس الجامعة السابق، رئيس المؤتمر- شرحا عن أهميته، مؤكدا دور التراث الإسلامى فى تشكيل الأيدولوجيات الفكرية، مستعرضا لما تعرَّض له عبر التاريخ من كوارث كبرى بالعدوان تارة، وإساءة لفهم نصوصه ومحاولة اجتثاثه من جذوره تارة، وتطاول أذناب المستشرقين على رموزه و”شيطنته” واتهامه بإلهام ودعم جماعات العنف والتطرف والإرهاب، تارة اخرى.

مكائد وافتراءات

في كلمته التي ألقاها نيابة عن فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر د. أحمد الطيب- أعرب د. عباس شومان- وكيل الأزهر عن أسفه من أن التراث الإسلامي حُمِّل أكثر مما يحتمل، وجميعنا يتابع ويعرف ما يُدبَّر للتراث من مكائد ليل نهار على الفضائيات، في وقت لا يُلتفت فيه إلى جهود العلماء ودفاعهم عن التراث ودحض أقوال المُغرضين، مشيرا إلى أن تراثنا له الفضل في تجنيب المجتمع الكثير من الكوارث بل والوقوف في وجه الهجمات التي وُجِّهت لبلاد المسلمين.

وأوضح شومان أن المشكلة ليست في التراث حتى نسعى لتصحيحها وإنما في كيفية التعامل معه وفهمه، فالثابت عندنا والمُقدّس هو القرآن الكريم والسنة الصحيحة، والمعصوم من البشر هو رسولنا صلى الله عليه وسلم، أما بقية كتب التراث فهي محل للاجتهاد والنظر، لكن من المؤهّل ومَنْ يقدر على النظر فيها بطريقة علمية وموضوعية وسنسمع له؟ وعلماؤنا من السلف الصالح وأئمة المذاهب بشر، يُصيبون ويُخطئون، ولا مانع من نقدهم، ولكن نقدا بنَّاءً ممن يمتلك الأدوات وباحترام وليس تطاولا لا تعرفه شريعتنا..

مشكلتنا ليست في التراث حتى نسعى لتصحيحها وإنما في كيفية التعامل معه وفهمه 

وأشار إلى  أن المُجدِّدين في الاسلام لا يرتبطون بقرن ولا وقت ولا ينحصرون في مُجدِّد واحد، بل أكثر من مُجدِّد في مختلف التخصّصات، فمن يُجدِّدون للناس أمر دينهم لا ينقطعون، ومن يقف في طريق التجديد لا يتّبع الشرع، فالإسلام دين مُتجدّد حتي في طريقة وصوله للناس، ومعظم الأحكام لم تنزل مرة واحدة بل جاءت متتابعة حتي اكتملت، وهي قابلة للاجتهاد طبقا لأحوال الزمان والمكان.

وأضاف: لا نقول بعصمة التراث، ولكن نطالب بالابتعاد عن كتاب الله وسنة رسوله وشخصه المعصوم وعدم الحديث عنهم، فلن نقبل ذلك كعلماء من أحد، أما ما أنتجه الفقهاء والعلماء من علم فهو قابل للاجتهاد، وهذا رأي الأزهر الذي نُربّي عليه أبناءنا، وعلى منْ لا يملك من العلم شيئا أن يبتعد بجهله عن إضلال الناس، متسائلا: ماذا لو أخذنا بأقوال هؤلاء وحذفنا آيات الجهاد مثلا وجاء الاحتلال، فهل نقول لهم: “ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين” ونستقبلهم بالورود؟!

الاصطفاف والمواجهة

من جانبه طالب د. محمد مختار جمعة- وزير الاوقاف- بضرورة الاصطفاف لمواجهة ازدراء الأديان والتطاول على المُقدّسات بقراءة وفهم التراث الإسلامى الفهم الصحيح لمواكبة مُستجدَّات العصر والتطرّف والانحراف الفكرى، مُطالبا علماء المسلمين بالتمسِّك بالمنهج الوسطى، مؤكدا أن الوسيلة الوحيدة لمواجهة الانحراف الفكري هي الفهم الصحيح لتراثنا الاسلامي فالمشكلة ليست في التراث ولكن في التعامل معه، وأننا بحاجة لقراءة جديدة وعصرية لتراثنا مُتفتّحة تراعي ظروف العصر، مشيرا الى أن اهل الباطل لا يعملون إلا في غياب اهل الحق، واذا تحركنا جميعا تحرّكا مدروسا فإننا نُغلق الباب أمام المُغرضين والمنحرفين والمتطرفين الذين يُمثّلون قنابل موقوتة ستنفجر فى وجه المجتمع بأسره.

أما د. شوقى علام- مفتى الجمهورية- فقد أوضح أن البداية بتحرير وتحديد مفهوم التراث الذي هو نتاج العقل وحلقة الوصل بين التراث والشرع، والعلماء بذلوا جهودا كبيرة ولم يُقصّروا عن إدراك الواقع أو فهم الأدلة وتطبيقها على أرض الواقع ونحن نفخر بهم ونعتز بتراثنا، مؤكدا ان دورهم لم يقتصر على العلم الشرعى فقط بل فى جميع العلوم، مُطالبا بالمنهجية فى الاستفادة من التراث الاسلامى ومن سماحة الشريعة.

مناقشات المؤتمر

وعن جلسات المؤتمر فقد تم مناقشة عدة أبحاث تسير في اتجاهين، الأول: يخص اللغة العربية والتاريخ وتمت مناقشة 25 بحثا، والثاني: البحوث الشرعية وتضمنت 15 بحثا.

ففي اللغة والتاريخ بحث “إشكالية النحو العربي دواعيها ودور النحاة المتقدمين فيها”  د. البسيوني عطية عبدالكريم، وكانت من نتائجه الإقرار أن في تحصيل النحو والإلمام بقواعده وتوظيفها في النطق والكتابة صعوبات تواجه الدارس وتعيق تحصيله، لكن هذه ليست مسئولية النحاة الذين يسعون دوما لتسهيل النحو وتيسيره.

وبحث “طوائف قراء التراث الإسلامي.. أهداف ومناهج” د. محمود حسن مخلوف، وصنّف طوائف قراء التراث الإسلامي  حسب أحوال القارئين ودرجاتهم  وأهدافهم ومناهجهم إلي أربعة نماذج عالم راسخ، محصل مقلد، مستشرق خبير، مستغرب ناقل .

الاصطفاف سبيلنا لمواجهة ازدراء الأديان والانحراف الفكري

وجاءت مناقشة رسالة بعنوان “استلهام التراث التاريخي في المسرح الشعري ( ثأر الله : الحسين ثائر والحسين شهيدا لعبد الرحمن الشرقاوي نموذجا ) إعداد داود لطفي حافظ، وفيها يري أن الشرقاوي عمل على إبراز الصراع الطبقي فجعل الحسين ورفاقه يمثلون القوى المستضعفة ، أما ابن زياد وأصحابه فيجسدون القوى المستغلة المالكة التي تستعبد الناس بالمال.

ونوقش بحث “إتقان العربية وعلاقتها بالفهم الصحيح للتراث” د. محمد أحمد أبونبوب، ودار في أربعة عناصر: عصمة المجتمع للغة في الماضي، ارتباط العربية ببقية العلوم عند الأوائل، الآثار الناتجة عن فقدان العربية أو التسطح فيها عند القدماء، والانحراف الفكري في معالجة القضايا المعاصرة.

الروح والحضارة

ودار نقاش حول “دور القيم الروحية في النهضة الحضارية” د. محمود عبده نور الدين، وأكد اهتمام الدين بالحضارة قياما وتطورا، وحذر من سقوطها وانهيارها.

هذا كما نوقش “موقف الإسلام من آثار الأمم السابقة” د. إمام الشافعي محمد حيث ظهر أن القرآن الكريم يحث علي أخذ العبرة والعظة من آثار الأمم السابقة والمحافظة عليها بكل ثقافتها وتنوعها وأشكالها .

وعرض د. إبراهيم عمر حسين “التعويل على التأويل في رد قول المخالفين والاحتجاج بالدليل” وكان من أهم نتائجه أن اختلاف المذاهب النحوية ورغبة كل فريق للانتصار لمذهبه من أهم أسباب التأويل عند النحاة.

أما د. جمال عبد الحفيظ هاشم فقد عرض “دعاوي تجديد النحو في العصر الحديث ” عرض وتقديم “، وفيه وضح الصعوبات التي تواجه النحو ومنها المبالغة في الاهتمام بنظرية العامل والإغراق في التعليل والتأثر بالفلسفة والمنطق وغيرهم.

وتم عرض “استدعاء الشخصية التراثية” في شعر نزار قباني – عمر بن الخطاب ” نموذجا ” للدكتور مصطفي أحمد عبد اللاه جابر، وأكد الباحث اعتماد نزار قباني علي أسلوب المفارقة وهو يتحدث عن شخصية سيدنا عمر ليبين تكاسل وخمول طوائف الأمة وخطورة ذلك عليها.

كما ناقش د. محمود شعلان “المؤسسات الثقافية ودورها في حفظ التراث الإسلامي وتجديده دراسة لنموذج ” معهد المخطوطات العربية “، وتم تقسيم البحث لعدة عناصر منها نشأة معهد المخطوطات العربية وتطوره وخطته في جمع التراث، وأهم إصدارات المعهد عبر رحلته الزمنية، ودوره في إعداد الكوادر اللازمة لحفظ وترميم المخطوطات وخطته لرقمنة التراث وطموحات وتحديات المعهد .

التراث حلقة الوصل بين العقل والشرع

وشارك د. يونس الصيني ببحث “الإسلام في الصين بين الماضي والحاضر : رؤية موضوعية لواقع المسلمين وتحدياتهم وكيفية مواجهتها” وأكد أنه على يقين بضرورة العودة إلي الله حتى يتحقق كون الإسلام خير أمة أخرجت للناس لهداية الجميع، وتحدث د. عبدالغني زهرة عن “منهج أبي بكر بن العربى في فهم كتب التراث”.

الأبحاث الشرعية

أما عن الأبحاث الشرعية فتم مناقشة “أثر التراث الفقهي الرصين في نبذ وعلاج التعصب اللعين” من موضوعات المحور التاسعللدكتور سيد حسن عبدالله ،وتم عرض عدة توصيات منها اتخاذ التدابير اللازمة لتنمية الوعي بخطورة التعصب لمناقشة موضوع التعصب، الضرب بيد من حديد علي يد العابثين بالثوابت الشرعية بمعرفة ولي الأمر الشرعي حماية للدين وصونا للأوطان.

كذلك تم مناقشة “تفكيك التراث العقدي عند محمد أركون بين السداد والانحراف” للدكتور صلاح حسن محمد علي، واشتمل على ثلاثة مباحث وهي أركون وتفكيك التراث بوجه عام، أركون وتفكيك مفهوم الاعتقاد، وأركون ومسألة وجود الله تعالي.

هذا وتم مناقشة بحث د. ناهد الضبع “المفاهيم الخاطئة لنصوص السنة النبوية المطهرة ودورها في الانحراف الفكري” وأجملت ذلك في عدة أسباب منها الجهل بالدين، الجهل باللغة العربية، الإعراض عن العلماء وعدم التلقي عنهم، التوسع في التأويل في فهم السنة، والتعصب في فهم السنة النبوية ومظاهره.