ارتكز التعليم والتدريس في المعاهد والجامعات الإسلامية منذ ما بعد منتصف القرن العشرين إلى يومنا هذا بنظرية “إسلامية المعرفة”، وقد تولدت النظرية من مفكرين ذوي الاطلاع على العنصر الغربي للعلم والانتماء للروح الإسلامية في العلم، إلا أنه ثمة وقفات وفجوات بين دعوى العِلمين؛ علما أن زمام العلم الحديث وتطوره بيد الآخرين، وكرسي التلمذة بيد المسلمين حيث تربع الآخرون على كرسي المعلمية.

نبتت الفكرة حين لاحظ مثقفو المسلمين الذي درسوا في الغرب خاصة، أن العالم الإسلامي يرسل أبناءه النابعين والمتفوقين إلى الغرب لتعلم الطب وعلم النفس والهندسة والمحاماة وما إلى ذلك من صنوف العلم.. فيتعلمون العلم في تخصصهم على أحسن وجه؛ إلا أن ثمة عناصر تدمج في جوهر العلم أو أثناء التحصيل العلمي مما لا يتماشى مع روح الإسلام أو الثقافة العربية! وذاك أن العلم قائم على المنهج العلماني، فيركز على المادة دون الروح، أو الجوهر الكامن أمامهم دون المثالية النابعة من التقديس الديني. وفي سبيل تخطي هذه العقبة في العالم الإسلامي هتف بعض الناس بأن إسلامية المعرفة هي الحل.. وهي الجدير أن يقود سلم أولويات أجندة التعليم في العالم الإسلامي فتولدت فكرة النظرية واتجهت الجهود إلى بيان ذلك كما وكيفا! وبدأ الأخذ والرد في كل جزئية من جزئيات النظرية! هذا ما يعرف بـ: إسلامية المعرفة أو إسلامية العلوم، أو أسلمة المعرفة، أو أسلمة العلوم، أو أسلمة العلوم الإنسانية، أو التكامل المعرفي..كل هذا كان منصبا على العلوم غير النقلية، ثم تولد دعوى أسلمة العلوم النقلية، أو أسلمة علوم معارف الوحي، وأطلق على ذلك بالإحياء Revivalism أو الربطية Relevantization أو السياقية Contextualization وما إلى ذلك!

اعتراف واتفاق

لتحرير محل النزاع يرى الكاتب بأن كنه وحقيقة إسلامية المعرفة ناتج من روح الإسلام وفلسفته، بل هي الإسلام بنفسه بتعبير أقوى، بعبارة أكثر جرأة! وما ذاك إلا أن إسلامية المعرفة أو إسلامية العلوم الإنسانية ليس إلا النظر إلى العلوم ومناهجها بنظرة إسلامية؛ فهي فلسفة ورؤية ذات منظارين اثنين، بهما تكتمل الصورة، وهما:

  • إنتاج العلم أو المنهج العلمي بما يتوافق مع الإسلام، أو إعادة صياغة العلم أو المنهج العلمي بما يتوافق مع المنظور الإسلامي.
  • وتبعا لذلك، يكون إخراج الكفر، أو الطابع الكفري، أو النظرة الغربية للعلم–مما لا تتماشى مع الإسلام- من دائرة العلم.

فليس إسلامية المعرفة حسب علم الباحث أكثر من هذا، ولعل هذه الحقيقة يدرك في تعريف كبار الدعاة إليها؛ أقصد العطاس، والفاروقي، والعلواني، ومحمد كمال حسن، إلى آخرين..

فلا عجب أن نقول إن إسلامية المعرفة: هي أن يتحدث العلم بلغة الإسلام، وأن تنزع المبادئ اللاإسلامية من دعوى العلم القائم! فنحن معترفون ومتفقون ضمنيا! إذ لا يرى مسلم أن يتماشى العلم بما يخالف الإسلام، ولا ينازع مسلم في إخراج العنصر الفاسد من بنية العلم؛ فها هنا اعتراف واتفاق.

إشكالات النظرية

إن كانت إسلامية المعرفة هي أن يدرس الواحد منا العلم كما يريد الإسلام، وأن يتخلى عن ما لا يريده الإسلام مما أقحم في بنية العلم باسم العلم، -وذاك أمر يفتخر به كل مسلم-، إن كان ذاك كذلك، وإذا كان المسلمون متفقين من البدء؛ بأن اعترفوا بأن إسلامية العلوم مطلب إسلامي، ومتفقون على ذلك؛ فلم الضجة والضجيج، وأين يكمن عنصر الأخذ والعطاء، وما المشكلة في الأواسط العلمية يا ترى؟! لعل ثمة إشكالات تخللت النقطة المتفقة عليها، ويمكن سرد ذلك كالآتي:

إشكالات داخلية

المصطلح وإيصال الفكرة: لعل أولى إشكالية تواجهها نظرية “إسلامية المعرفة” في العالم الإسلامي، هي في قبولها، وفي إبدائها. فما عهدنا هذا المصطلح، ولم نشهد هذه النظرية في آبائنا الأولين! وهنا كان بدء الإشكالات، كعادتنا في مواجهة كل جديد! فتجد طائفة تشجع بما أوتيت من قوة، وأخرى تقف بالمرصاد بكل قواها؛ وقد يكون ذلك قبل إدراك صورة المسألة وحقيقة النظرية!

ومن الإشكالات الداخلية كذلك إشكالات منهجية: ويقصد الكاتب بهذا؛ أن معظم ما تدور قضايا “إسلامية المعرفة” حولها هي قضايا عهد الناس الكلام عنها في نظرية العلم، فالعلم هو إدراك الشيء على ما هو عليه، فإذا لم يدرك الشيء على ما هو عليه، أو أدرك على غير ما هو عليه، فهو ليس بالعلم، والعكس بالعكس!

ولعل هذا باب طويل في حسم حقيقة الأمر الخارجي؛ لقصور الإنسان عن الإحاطة بكل شيء، وكما ذكرت قبل هنيهة؛ عهد الكلام حول هذه القضايا في دائرة ما يسمى بـ “نظرية العلم” فإذا تم دعوى العلم من زيد؛ قابله عمرو وبكر بأن هذا صحيح وذاك باطل، ومن هنا عُني الكندي والرازي والفارابي وابن سينا والغزالي وابن رشد إلى آخرين، في إخراج جوهر وإضافة عنصر بنقد وقدح في مسمى الحكمة أو العلم أو الفلسفة! فلعل موضوع التسمية خلق إشكالات داخلية في العالم الإسلامي! فهل مسار العلم والكلام في نظرية العلم وما هو بعلم وما ليس بعلم شأنُ فلسفة أو نظرية العلم أم شأنُ إسلامية المعرفة؟!

 

إشكالات خارجية

هذا، وإن نظرية: “إسلامية المعرفة” قوبلت ببعض التساؤلات والإشكالات خارج العالم الإسلامي، ومن ذلك:

الدين أمر روحي وأخلاقي، لا علاقة له بالعلم وحقيقته، 1 + 1 = 2، فلم دعوى إسلامية المعرفة، وما علاقة الأديان عموما، والإسلام خصوصا بقضايا العلم، علما أن مهمة الأديان بما فيها الإسلام –كما يرى العلم الغربي الحديث- البحث عن قضايا “الإيمان” أو “الغيبيات” أو ما وراء الطبيعة.

يضاف إلى هذا أن الوحي وقضايا المعجزات أمر خارج الموازين العلمية الحديثة، وهذا أمر مفروغ منه في الحضارة الغربية، فلا كلام عن قال الله وقال الرسول حين يتحدث الناس عن العلم، ولا مكان لعنصر الوحي والقداسة في المناهج الغربية الحديثة! فلم دعوى إسلامية المعرفة!

علاوة على هذا وذاك، إذا افترضنا جدلا أن الدين والإسلام خصوصا قد يبحث عن قضايا العلم بموازين عقلية ومنطقية؛ وبموازين غربية بحتة، فنفترض أن المسلم يضع الإسلام (قال الله، قال رسول الله) جانبا وهو يبحث عن حقيقة أمر ما، فلم تسمية النظرية بـ “إسلامية المعرفة”؟! فلعل التسمية نفسها خارج إطار المنهج العلمي الغربي؛ فضلا عن مضمون ومحتوى النظرية!

وآخر ما سأذكر من الإشكالات الخارجية هو فقدان عنصر القاسم المشترك بين الغرب والشرق، وبين المسلمين وغيرهم، فما القاسم المشترك بين البشر جميعا؛ حتى يقبلوا نظرية “إسلامية المعرفة”، أهو الإسلام؟ فهم يدينون بدين غير الإسلام، فلا داعي لاتباع أي شيء آخر أدرج تحت الإسلام بعد رفض الإسلام نفسه. والمثال التقريبي لهذا؛ إن صح محتوى النظرية أن يقال: “يهودية العلم” أو “نصرانية العلم؛ أو تنصير العلم”، أو “هندوسية العلم”، و”بوذية العلم” و”سيخية العلم” وهكذا.

في النهاية..مجال البحث مفتوح.. وفي الختام، نرى أن نظرية إسلامية المعرفة من النظريات التي تحتاج مزيد بحث وكتابة، فإلى المبادرة وإلى المزيد من المبادئ والقواعد الشارحة، فكل طالب علم مسلم يفترض أن يكون سفيرا حاملا الرؤية الكاملة والواضحة لهذه النظرية، فهي تكاد تكون أقوى فلسفة ورؤية لتأسيس أهم الجامعات الإسلامية المعاصر؛ بما في ذلك الجامعة الإسلامية في المدينة – السعودية-، وفي نيامي –النيجر- وفي إسلام آباد –باكستان- وفي كوالا لمبور -ماليزيا. فكيف تزودك بها، وما ذا تعرف عنها؟!