كان إسلام أبي بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ وليد رحلةٍ إيمانيَّةٍ طويلةٍ في البحث عن الدِّين الحقِّ؛ الذي ينسجم مع الفطر السليمة، ويلبي رغباتها، ويتفق مع العقول الراجحة، والبصائر النَّافذة، فقد كان بحكم عمله التِّجاري كثير الأسفار، قطعَ الفيافي، والصحارى، والمدن، والقرى في الجزيرة العربيَّة، وتنقَّل من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها، واتَّصل اتصالاً وثيقاً بأصحاب الدِّيانات المختلفة وبخاصة النَّصرانية، وكان كثير الإنصات لكلمات النَّفر الذين حملوا راية التَّوحيد، راية البحث عن الدِّين القويم،(لماضة، 1993، ص6) فقد حدَّث عن نفسه، فقال: كنتُ جالساً بفناء الكعبة، وكان زيد ابن عمرو بن نُفيل قاعداً، فمرَّ ابن أبي الصَّلْتِ، فقال: كيف أصبحتَ يا باغي الخير ؟ قال: بخير، قال: وهل وجدتَ ؟ قال: لا، فقال: (السيوطي، 1997،ص 52)
كلُّ دينٍ يوم القيامةِ إلا ما مضى في الحنفية بُورُ
أما إنَّ هذا النبيَّ الذي ينتظر منّا، أو منكم، قال: ولم أكن سمعتُ قبل ذلك بنبيٍّ يُنتظر، ويُبعث، قال: فخرجتُ أريد ورقة بن نوفل ـ وكان كثيرَ النَّظَر إلى السَّماء، كثير همهمة الصَّدر ـ فاستوقفته، ثمَّ قصصتُ عليه الحديث، فقال: نعم يأبن أخي! إنّا أهل الكتب والعلوم، ألا إنَّ هذا النبيَّ الذي يُنتظر من أوسط العرب نسباً ـ ولي علمٌ بالنَّسب ـ وقومك أوسط العرب نسباً. قلتُ: يا عمّ! وما يقول النبيُّ ؟ قال: يقول ما قيل له، إلا أنَّه لا يظلم، ولا يُظلم، ولا يُظالم، فلمّا بُعث رسول الله ﷺ امنت به، وصدَّقته، وكان يسمع ما يقوله أميَّة بن أبي الصَّلْت:
في مثل قوله:
ألا نبيٌّ منَّا فيخبرنا ما بعد غايتنا من رأس مجرانا إني أعوذ بمن حجَّ الحجي له والرَّافعون لدين الله أركانا
لقد عايش أبو بكر هذه الفترة ببصيرةٍ نافذة، وعقلٍ نيِّرٍ، وفكرٍ متألِّقٍ، وذهنٍ وقّادٍ، وذكاءٍ حادٍّ، وتأمُّلٍ رزينٍ ملأ عليه أقطار نفسه، ولذلك حفظ الكثير من هذه الأشعار، ومن تلك الأخبار، فعندما سأل الرَّسولُ الكريم ﷺ أصحابه يوماً ـ وفيهم أبو بكر الصِّدِّيق ـ قائلاً: «من منكم يحفظ كلام ـ قسِّ بن ساعدة ـ في سوق عكاظ؟». فسكت الصحابة، ونطق الصِّدِّيق قائلاً: إنِّي أحفظها يراسل الله!
كنت حاضراً يومها في سوق عكاظ، ومن فوق جَمَلِه الأَوْرَق وقف قسٌّ يقول: أيُّها الناس! اسمعوا، وَعُوا، وإذا وعيتم، فانتفعوا، إنَّ مَنْ عاشَ مات، ومَنْ ماتَ فات، وكلُّ ما هو اتٍ ات، إنَّ في السماء لخبراً، وإنَّ في الأرض لعبراً، مهادٌ موضوعٌ، وسقفٌ مرفوعٌ، ونجومٌ تمور، وبحارٌ لن تغور، ليلٌ داجٍ، وسماءٌ ذات أبراج!!
يُقسم قسٌّ أنَّ لله ديناً هو أحبُّ إليه من دينكم الذي أنتم عليه. ما لي أرى النَّاس يذهبون، ولا يرجعون، أرضوا بالمقام فأقاموا، أم تركوا فناموا، ثمَّ أنشد قائلاً: (لماضة، 1993، ص8)
في الذَّاهبين الأوَّليـ ـنَ من القرون لنا بصائر كما رأيتُ موارداً للموت ليس لها مصادر ورأيت قومي نحوها يسعى الأكابر والأصاغر أيقنت أنِّي لا مَحَا له حيثُ صار القومُ صائِرْ
وبهذا التَّرتيب الممتاز، وبهذه الذَّاكرة الحديديَّة ـ وهي ذاكرةٌ استوعبتْ هذه المعاني ـ يقصُّ الصِّدِّيق ما قاله قسُّ بن ساعدة على رسول الله، وأصحابه.(لماضة، 1993، ص9)
وقد رأى رؤيا لمّا كان في الشام، فقصَّها على بحيرا الرَّاهب، فقال له: من أين أنت ؟ قال: من مكَّة، قال: من أيِّها ؟ قال: من قريش: فأيُّ شيءٍ أنت ؟ قال: تاجر، قال: إن صدَّق الله رؤياك؛ فإنَّه يبعث بنبيٍّ من قومك، تكون وزيره في حياته، وخليفته بعد موته، فأسرَّ ذلك أبو بكرٍ في نفسه.(شاكر، 1990، ص 34)
لقد كان إسلام الصِّدِّيق بعد بحثٍ، وتنقيبٍ، وانتظارٍ، وقد ساعده على تلبية دعوة الإسلام معرفته العميقة، وصلته القويَّة بالنَّبيِّ ﷺ في الجاهلية، فعندما نزل الوحي على النبيِّ ﷺ، وأخذ يدعو الأفراد إلى الله، وقع أوَّل اختياره على الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ فهو صاحبه الذي يعرفه قبل البعثة بدماثة خلقه، وكريم سجاياه، كما يعرف أبو بكرٍ النبيَّ ﷺ بصدقه، وأمانته، وأخلاقه، التي تمنعه من الكذب على الناس، فكيف يكذب على الله ؟!.(هاني، 1996، ص 44)
فعندما فاتحه رسول الله ﷺ بدعوة الله وقال له: «.. إني رسول الله ونبيه، بعثني لأبلغ رسالته، وأدعوك إلى الله بالحقِّ، فوالله إنه للحقُّ، أدعوك يا أبا بكر إلى الله وحده لا شريك له، ولا تعبد غيره، والموالاة على طاعته ».(ابن كثير، 1988، ج 13، ص31)
فأسلم الصِّدِّيق، ولم يتلعثم، وتقدَّم، ولم يتأخَّر، وعاهد رسول الله على نصرته، فقام بما تعهَّد، ولهذا قال رسول الله ﷺ في حقِّه: «إن الله بعثني إليكم، فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدق، وواساني بنفسه، وماله، فهل أنتم تاركون لي صاحبي؟» مرَّتين.
وبإسلام أبي بكرٍ عمَّ السُّرور قلبَ النبيِّ ﷺ حيث تقول أمُّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها: فلمّا فرغ من كلامه ـ أي: النبيُّ ﷺ ـ أسلم أبو بكر، فانطلق رسول الله ﷺ من عنده، وما بين الأخشبين أحدٌ أكثر سروراً منه بإسلام أبي بكرٍ. لقد كان أبو بكر كنزاً من الكنوز اذخره الله تعالى لنبيِّه، وكان من أحب قريشٍ لقريشٍ، فذلك الخُلُق السَّمح؛ الذي وهبه الله تعالى إيّاه جعله من الموطَّئين أكنافاً، من الذين يألفون، ويُؤلَفون، والخُلُق السَّمح وحدَه عنصرٌ كافٍ لألفة القوم، وهو الذي قال فيه عليه الصلاة والسلام: « أرحم أمَّتي بأُمَّتي أبو بكرٍ» .
المراجع
علي محمد الصلابي، الإنشراح ورفع الضيق في سيرة أبو بكر الصديق، شخصيته وعصره، دار ابن كثير، 1424ه-2003م صص30-33
أبو الفداء الحافظ بن كثير الدِّمشقي البداية والنِّهاية، ، دار الرَّيَّان، القاهرة، الطَّبعة الأولى 1408هـ 1988م.
عاطف لماضة، مواقف الصِّدِّيق مع النَّبي في مكَّة، دار الصَّحابة للتُّراث بطنطا، مصر، الطَّبعة الأولى 1413هـ 1993م.
جلال الدِّين السُّيوطي، تاريخ الخلفاء عُني بتحقيقه إِبراهيم صالح، دار صادر، بيروت، الطَّبعة الأولى 1417هـ 1997م
محمود شاكر، التَّاريخ الإِسلاميُّ، الخلفاء الرَّاشدون، المكتب الإِسلاميُّ، الطَّبعة الخامسة 1411هـ 1990م.
يسري محمَّد هاني، تاريخ الدَّعوة إِلى الإِسلام في عهد الخلفاء الرَّاشدين، الطَّبعة الأولى، جامعة أمِّ القرى، معهد البحوث العلميَّة، وإِحياء التراث.1418هـ-1996