إسماعيل راجي الفاروقي (1921-1986) من الآباء المؤسسين لمدرسة المنظور الحضاري في قراءة الفكر الغربي ونموذجه المعرفي، تلك القراءة التي تستند إلى استدعاء القوة الوجدانية الدافعة، واستحضار أسس المنهجية المعرفية التوحيدية.

في البدء – عند التعرض لنموذجية الفاروقي في مدرسة المنظور الحضاري – لابد من الإشارة إلى التفاعل الذي تم بين الفاروقي والحضارة الغربية، حيث التقى بها في فترة مبكرة من حياته واهتم باستيعاب النموذج المعرفي الغربي في أصوله وفروعه، حيث درس في الجامعة الأمريكية ببيروت، ثم جامعة إنديانا، ثم جامعة هارفارد، ثم جامعة ماكجل بكندا، وجامعة شيكاغو، ثم جامعة سراكيوز، وأخيراً جامعة تمبل بفلاديفيا.

وقضى سنتين في كلية اللاهوت وتعرف عن قرب على الفكر الديني المسيحي في الغرب، وألف كتاب Christian Ethics  الأخلاق المسيحية، هذا بالإضافة إلى دراسته التأصيلية ودرسه للإسلام والعلوم الشرعية في الأزهر الشريف (1954-1958)، واستيعابه لعلوم الشريعة وفقهها، هذه العوامل مجتمعة شكلت فكر الفاروقي وعقله العلمي، وأثرت بشكل واضح في تصوره الفكري ورؤيته الحضارية ومنهجيته وقراءته المعمقة للفكر الغربي وفلسفته وأصوله ومسلماته وجعلته أكثر اتصالاً ومعرفة بحقيقة ما يحمله النموذج المعرفي الغربي من قضايا وطروحات وتناقضات وإشكالات متباينة نعرض لبعض منها في هذه الدراسة من خلال وقوفنا على أدواته في التعامل مع النموذج الغربي.

وقد أثر ذلك التفاعل على التكوين العقلي والمنهجي للفاروقي حيث جمع بين بعدين رئيسين الأول: البعد الفلسفي، حيث حصل على درجة البكالوريوس في الفلسفة عام 1941 من كلية الآداب والعلوم بالجامعة الأمريكية ببيروت، ثم حصل على ماجستير “الفلسفة” عام 1949 من جامعة إنديانا ثم درجة الماجستير في “الفلسفة” أيضاً من جامعة هارفارد عام 1951. أما رسالته للدكتوراه فكانت بعنوان “نظرية الخير، الجوانب الميتافيزيقية والقيم الابستمولوجية للقيم” حيث حصل بها على درجة الدكتوراه عام 1952 من جامعة إنديانا.

حضارتنا الإسلامية مفتوحة غير منغلقة. ولا شك أننا مكلفون بتحصيل العلم أنى وجد والاستفادة منه في تعزيز الأمة وتنمية مواردها وازدهارها

أما المكون الثاني لعقل الفاروقي فهو: البعد الشرعي والذى تمتد جذوره إلى نشأته العائلية (المسجد ووالده)، ثم أراد أن يكون هذا التكوين الشرعي على علم ودراسة، فاتجه إلى مصر للحصول على دراسات ما بعد الدكتوراه في الأزهر لمدة أربع سنوات (1954– 1958) حيث قام بدراسة العلوم الشرعية بطريقة مكثفة خلال هذه الفترة والتى ساهمت بشكل أساسي في تحديد رؤيته الفكرية التى جمعت بين ثلاثة رؤى أساسية استوعبها الفاروقي ورسم من خلالها تصوره الفكري الحضاري.

وفي ضوء هذا التكوين المنهجي المتعدد للفاروقي بين درسه المنهج الغربي، والمنهج الفلسفي التحليل التأملي، ومنهج الدراسات الشرعية الإسلامية، هذا بالإضافة إلى تمرسه في علم مقارنة الأديان ودراسته وتدريسه للعلوم اللاهوتية المسيحية. كل هذه العناصر شكلت ما يمكن أن نطلق عليه في لفظه ومعناه “العقل الفاروقي”، الذى انشغل بالهم الإسلامي من خلال أفق يتسم بالرحابة والتأمل الصادق والإنجاز الإيجابي الملموس والبصيرة الحضارية.

يدعو الفاروقي في رؤيته الحضارية إلى التثاقف الحضاري مع الحضارات القائمة بصفة عامة ومع الغرب بصفة خاصة، انطلاقاً من الموقف الحضاري الإسلامي القادر على الانفتاح والاستيعاب ثم التجاوز في ظل ثوابته ورؤاه الأصيلة “… إن حضارتنا الإسلامية مفتوحة غير منغلقة. ولا شك أننا مكلفون بتحصيل العلم أنى وجد والاستفادة منه في تعزيز الأمة وتنمية مواردها وازدهارها. فقد حثنا الله تعالى على العلم وتلقيه وفضل الذين يعلمون على الذين لا يعلمون، وفرض رسول الله صلى الله عليه وسلم طلب العلم على كل مسلم ومسلمة، من المهد إلى اللحد. ودل على أن الحكمة ضالة المؤمن يأخذها أنى وجدها. وما من دين ولا ثقافة في الدنيا رفعت شأن العلم والتعلم وحثت الناس على طلبه كما فعل الإسلام”.[1]

ويطرح الفاروقي عدة شروط للتثاقف الحضاري مع الغرب لاسيما فيما يتعلق بدرس العلوم التي يتفوق فيها في اللحظة الحالية  “… أولها إتقان العلم والهيمنة عليه أي الإلمام التام والتفهم الكامل لكل ناحية من نواحيه. فالتعرف السطحي بالعلم لا يكفي ولا يغني والاكتفاء به جرم ، على المسلم الذى يطلب العلم عند الغرب أن ينفذ إلى كافة الحقول والمكامن، ويحيط بتاريخ العلم ومنجزاته، ويدرك مناهجه النظرية ومسالكه العملية، ويعرف مشاكله وآماله حتى يقف على نشأته وحاجاته وإمكانياته”.[2]

التعرف السطحي بالعلم لا يكفى ولا يغنى والاكتفاء به جرم

يرى الفاروقي أن هناك نموذجين معرفيين يشغلان العقل المسلم أحدهما بحكم العصر والتقدم وهو النموذج الغربي المهيمن، والثاني بحكم الضرورة الحضارية وهو النموذج الحضاري التوحيدي، ومن هذا المنطلق الذاتي الحضاري درس الفاروقي الفكر الغربي، وكان كتابه “التوحيد ومضامينه على الفكر والحياة[3] من أهم الدروس المعرفية المقارنة بين النموذجين، وكان مشروعه التأسيسي “إسلامية المعرفية” هو مرحلة التجاوز للفكر الغربي المعاصر.

  إن نموذجية الفاروقي في مدرسة المنظور الحضاري تجعلنا نقف أمام عدة دروس معرفية بنائية لدرس الفكر الغربي منها:

1 – الدرس الأول: هو ذلك التكوين المنهجي المتميز لإسماعيل الفاروقي، والذي استطاع أن يجمع فيه بين إدراك النموذج المعرفي الغربي من واقع الدرس والدراسة  من ناحية ومن واقع الخبرة المعاشة من ناحية أخرى، وعلى الرغم من معايشته لهذا النموذج إلا أنه لم يقع في أسره؛ بل نظر إليه نظرة نقدية من واقع نموذجه المعرفي التوحيدي الذي اتخذه ميزانًا يمكن أن يزن به أي نماذج أخرى.

وهو ما يلفت الفاروقي نظرنا إليه بضرورة التكوين المنهجي للباحث المسلم إزاء العلم الغربي فمع تأكيده على انفتاح ثقافتنا وحضارتنا الإسلامية على التراث والمنجزات العلمية البشرية، إلا أنه يحدد طبيعة هذا الانفتاح وشكله بأنه انفتاح واع لا انفتاح المنبهر المأسور وهذا الانفتاح الواعي يتطلب “…إتقان العلم والهيمنة عليه أي الإلمام التام والتفهم الكامل لكل ناحية من نواحيه. فالتعرف السطحي بالعلم لا يكفى ولا يغنى والاكتفاء به جرم. على المسلم الذى يطلب العلم عند الغرب أن ينفذ إلى كافة الحقول والمكامن، ويحيط بتاريخ العلم ومنجزاته، ويدرك مناهجه النظرية ومسالكه العملية، ويعرف مشاكله وآماله حتى يقف على نشأته وحاجاته وإمكانياته… والتمكن منه والهيمنة الكاملة عليه”. ومن ناحية أخرى يتطلب أن يعي المسلم رسالته وذاته وينطلق منهما نحو الآخر، ويتحقق ذلك عن طريق الوعي بالتوحيد ومعطياته في الإنسان والكون والحياة.

2 – الدرس الثاني: هو الحاجة إلى درس النموذج المعرفي الغربي لتفنيد المقولات التى أطلقها الغرب على نفسه وروج لها بقوة، واستقرت في أذهان بعض من وقعوا في أسر الوافد في الأمة المسلمة، وأهم هذه المقولات هو “عالمية” الغرب و”مركزيته” الكونية و” حيادية ” علومه و”موضوعيتها”، ومطلقية طريق نهضته وتقدمه، و”أحادية” ميزان التأخر والتقدم كما صورها هو..

من شأن إدراك حتمية التحيز الوعي بأن كل سلوك إنساني يعبر عن نموذج معرفي كامن. واكتشاف النموذج الكامن لا يمكن أن يكون عملية فردية

والقراءة المعمقة للنموذج الغربي وعناصره ومكوناته وتجلياته توضح بما لا يدع مجالًا للشك تهافت هذه المقولات وردها، وهذا ما جعل المسيري يقرر أن أي مشروع معرفي حضاري لابد وأن يبدأ بنقد المشروع الغربي معرفيًا وتفنيد مقولاته الفكرية وتفكيكها، وهو ما تعرض له الفاروقي في كتاباته لا سيما في سفره القِّيم” التوحيد ومضامينه على الفكر والحياة ” والتي اعتمد فيها على تفكيك النموذج المعرفي الغربي ورصده من منظور توحيدي، ولهذا التفكيك دور مهم في ” التخلص من وهم النموذج المعرفي الغربي، وبناء الوعي بتهافته لافتقاره إلى ثابت، بل تحويل ما حقه أن يكون متغيرًا إلى ثابت، وما حقه أن يكون ثابتًا إلى متغير، في مقابل تميز البديل المعرفي الإسلامي بامتلاك نواة جامعة ناظمها التوحيد”. [4]

3الدرس الثالث: هو ما قدمه الفاروقي من إدراكه لمسألة “التحيز” في الفكر الغربي ونموذجه المعرفي، وهذا الوعي الذي تشكل لدى الفاروقي انتبه إليه لاحقًا بعض المفكرين وقدموا له جهودهم مثل عبدالوهاب المسيري- الذي دعا إلى تأسيس علم التحيز- ورجال المعهد العالمي للفكر الإسلامي* ، ويرى السيد عمر أهمية إدراك التحيز في الوعي الإسلامي ” باعتباره الخطوة الأولى للتمكن من تجاوزه… ومن شأن إدراك حتمية التحيز الوعي بأن كل سلوك إنساني يعبر عن نموذج معرفي كامن. واكتشاف النموذج الكامن لا يمكن أن يكون عملية فردية بل عملية جماعية تفاعلية متكاملة تتم على مستويات الرصد والتصنيف والنقد وبناء الأنماط مع ربط البُعد المعرفي بالبُعد الديني “.[5]

4الدرس الرابع: الذي قدمه الفاروقي هو الاهتمام بعلم اجتماع المعرفة عند درس وقراءة النموذج المعرفي الغربي، من خلال التعرف على السياقات الاجتماعية المختلفة التي أدت إلى نشأة هذا النموذج بعناصره المختلفة والمتناقضة -أيضًا-، وهو ما يساهم في تفسير كثير من مكونات ذلك النموذج وعناصره، فاستبعاد الدين وتحديداً (دين الكنيسة) كان ناتجا عن ذلك الصراع الطويل بين (دين الكنيسة) وبين العقل الغربي، والذي انتهى بالقضاء ليس فقط على دين الكنيسة، ولكن على فكرة الدين ذاتها في الإنسان والحياة،كما يفسر –أيضًا- درس هذه السياقات غرق النموذج الغربي في “حوسلة الطبيعة والإنسان والعقل، مع إلغاء النموذج العلماني الشامل لمفهوم الإله أو تهميشه، ونسف مفهوم الإنسان الكوني ، وتوظيف ذلك لصالح ترسيخ مركزية الإنسان الغربي، وتحويله إلى مستغل لبقية البشر ولكل ما بالكون، وذلك بإحلال العقل الأداتي محل العقل النقدي.[6] في ضوء تغييب الدين والقيم الروحية، وهيمنت الوضعية والتي يكمن وراءها نموذج مادي أحادي النظرة للإنسان والكون ، والذي يعترف فقط بكل ما يخضع للحس والمشاهدة والتجربة ، وينكر ما دون ذلك من ظواهر ترتبط بالمرجعية المتجاوزة .

5 – الدرس الخامس: إذا كان النموذج المعرفي بنية تصورية يجردها العقل البشري، وأنه عبارة عن مجموعة من المعتقدات والفروض و المفاهيم والمسلمات، إلا أنه يبدو ملموسًا في تجلياته وتمثلاته، لذا حرص الفاروقي على ذكر تمثلات النموذج المعرفي الغربي في: الحياة العقلية والاجتماعية والاقتصادية الغربية، وهو ما يجعل العقل المسلم يقظًا وراء دعوات العالمية للمذاهب الفكرية والاجتماعية ومجالات الفنون المختلفة، لأنها في حقيقتها ليست إلا مُعَبِرًا عن نموذج مادي له خصوصياته الاجتماعية والفكرية وأسسه الفلسفية؛ بل تكمن نتاجات ذلك النموذج-أيضًا- في مجالات العلوم الرياضية والطبيعية. *