اتصل المسلمون بالغرب في العصور الإسلامية الباكرة، فعرفوا حضارته واستوعبوها، دون أن يتأثروا بها في تصوراتهم ورؤاهم الأساسية، وذلك بفضل القوة النفسية من ناحية، وامتلاك القدرة المعرفية والمنهجية المستمدة من الرؤية الكلية المستقلة والمتفردة والتصور الحضاري الشامل من ناحية أخرى. ثم تجاوز المسلمون حضارة الغرب، وأسسوا حضارة عرفت في التاريخ الإسلامي ونسبت إلى عقيدتهم ودينهم وهي “الحضارة الإسلامية“.

ثم كان اللقاء الثاني على “خوف من الغرب وفكره وعمله”، والذى تزامن مع التراجع الحضاري للعقل المسلم وإصابته بالجمود والذبول الفكري، وفقدانه لقوته النفسية وقدراته المعرفية والمنهجية الذاتية الدافعة – والذى تجاوز في خطورته فقدان مؤسسة الخلافة ذاتها – هذا مع بروز التفوق الغربي في مجال العلوم والاكتشافات العلمية، أو ما يمكن أن نسميه بـ”الأرصدة المادية للحضارة”، وتزامن ذلك – أيضًا – بالاحتلال الغربي العسكري للعالم الإسلامي المفكك سياسياً وفكرياً، فكان “الاستدراج” الفكري والثقافي أداة الغالب، والاستتباع حيلة المغلوب وحالته.

تحرك العقل المسلم إزاء هذا الاتصال الثاني بالغرب حركتين: الأولى، حركة الخائف والمتوجس من “الانصهار” و”الذوبان” في نهر التفوق الغربي، وسارت هذه الحركة في مسارين أساسيين:

الأول : تمثل في اتجاه التعبئة والتحذير للعقل المسلم من “الاستلاب” و”الغزو الفكري والثقافي” و”التغريب” كما عند رشيد رضا ومحب الدين الخطيب ومصطفى صبري وجلال آل أحمد.

والمسار الثاني: تبنى دعوة “المقاومة” و”استعادة الهوية” في مقابل “الآخر”، فظهرت في صورة ردود تحمل عناوين “الإسلام والمدنية”,”الدين والعلم” كما عند محمد عبده ومصطفى الغلاييني وأحمد عزت باشا أو في دعوات تجديدية كما عند محمد إقبال .

أما الحركة الثانية للعقل المسلم، فهي حركة يبدو فيها طابع “التسليم” بتفوق الحضارة الغربية وتفوق حضارته ونهضته، وسارت هذه الحركة – أيضاً – في مسارين:

الأول – حاول التوفيق بين عناصر الذات الأصيلة وما أنتجه الفكر الغربي من نظريات واكتشافات تحت عنوان “التوفيق” بين منجزات هذه الحضارة وبين المبادئ الإسلامية كما عند الطهطاوي ، أما المسار الثاني – فاتخذ من منهجية “النقل والاقتباس” طريقًا لاستعادة الدور والمكانة، وهو ما عرف بمسار “التغريب” ويظهر جليًا عند طه حسين وإسماعيل مظهر ونامق كمال ومدحت باشا ورضا خان.

وفي النصف الثاني من القرن العشرين ظهر مسار آخر في تناول وقراءة الفكر الغربي، يقوم على الانطلاق من الذات، ومن استحضار القوة الدافعة الوجدانية، مع امتلاك المنهجية المعرفية الذاتية، وذلك بهدف تحقيق الاستيعاب القائم على التبصر والبصيرة الحضارية. ومن الذين أسسوا لهذه “المدرسة الحضارية”  مرتضى مطهري ومحمد حسين الطباطبائي في “أسس الفلسفة والمذهب الواقعي”، ومحمد باقر الصدر في “فلسفتنا” و”الأسس المنطقية للاستقراء”، وعلي شريعتي في “العودة  إلى الذات”، وعلي عزت بيجوفيتش في “الإسلام بين الشرق والغرب”, ومراد هوفمان في “الإسلام كبديل”، وغيرهم ممن ساهموا في تأسيس قراءة معاصرة للفكر الغربي لا تقوم على “الخوف” أو “التعبئة” أو “الاستلاب” أو ” التلفيق”، بل تقوم على تأسيس منظور حضاري قائم على الانفتاح على الآخر واستيعابه، انطلاقًا من الثوابت الحضارية التي قامت عليها للشخصية المسلمة، واستهدافًا  لاستعادة الدور والمكانة وفقًا لهذه الثوابت الحضارية.

إن مفردة “الغرب” والموقف منه، ومنهجية التعامل معه تعد أحد أهم العوامل في مسار الإصلاح الحضاري، ولا ينبغي تجاهله، أو الارتماء في أحضانه والتماهي مع مشروعه المادي، ومن ثم فلابد لمراكز التفكير والبحوث في أمتنا أن تتابع جهود الإصلاح المعرفي لاسيما في هذا المحور (التعامل مع الغرب) ومتابعة المنهجيات المطروحة التي تنطلق من رحم هذه الأمة، ومن مصادرها الأصيلة، ومراكز تفكيرها وهي في ذلك عليها أن تمتلك معرفتين أساسيتين.

الأولى: معرفة الذات الإسلامية (عقيدتها، حضارتها، ثقافتها) حق المعرفة من خلال العلم والدراسة بهذه الذات.

الثانية: إدراك الثقافة العلمية المعاصرة وروح العلم الحديث، والاستفادة بكافة منجزات الحضارة الغربية المعاصرة.

      ويطرح عبد الوهاب المسيري (1938-2008م) رؤية معرفية لدرس الفكر الغربي تحت عنوان (مشروع رؤية نقدية للفكر الغربي) والذي أكد فيه أن كل من يود أن يطور مشروعًا معرفيًّا مستقلًا عليه أن يبدأ شاء أم أبى بنقد المشروع الغربي نظرًا لذيوعه وهيمنته ويمكن لهذه العملية النقدية أن تُنجز بالبحث والدرس المعرفي في مراكز التفكير كما يلي:

أ_ تأكيد نسبية الغرب.

ب_ تراجع المركزية الغربية.

ج_ أزمة الغرب.

 وهذه العمليات تنجز من خلال إدراك الفكر الغربي الاحتجاجي أو المضاد، وعلم الأزمة، والدراسات النقدية في خصوصية الحضارة الغربية.

         ويقدم _أيضًا_ علي شريعتي خطة علمية وفكرية تتحدد من خلالها مسارات معرفية وبحثية في درس الفكر الغربي الحديث والمعاصر، تتمثل في العناصر التالية:

أ – دراسة تاريخ الغرب مع العناية أكثر بالتطور الاجتماعي وتطور الحضارة الأوروبية.

ب – مسيرة الحركة الفكرية في الغرب، مع العناية بعصر النهضة حتى عصرنا الحاضر، والتركيز على الموضوعات الكلية الجامعة التالية:

– معرفة عصر النهضة، والأبعاد الاقتصادية (والطبقات البرجوازية ونموها، والتجارة العالمية وعلاقتها بالشرق الإسلامي أي جذورها الثقافية والفكرية).

– معرفة البروتستانتية عند (لوثر وكلفن) مع مقارنتها بالإسلام، والدور الذي لعبته في تنمية الحضارة الصناعية والنضج العلمي والمادي في أوروبا.

– معرفة أسس البنية الفكرية والثقافية للغرب المعاصر (بيكون، وكانت، وديكارت، وهيجل، وفيتشه، ونيتشه، واشبنجلر، واسبينوزا، وباسكال، وهايدجر، وسارتر، …).

– معرفة الأحداث الاجتماعية والمفكرين السياسيين الاجتماعيين في الغرب: (الثورة الفرنسية الكبرى، الثورة الصناعية في إنجلترا، …). (إبراهيم الدسوقي، الثورة الإيرانية، القاهرة، الزهراء للإعلام العربي، ط2، 1988م، ص182).