من الله تعالى علينا بإنزال القرآن الكريم على خير البشر محمد ﷺ بلسان عربي مبين، وتلقفه جيل الصحابة رضي الله عنهم وفق منهجية قواعدها هي الحفظ والتعلم والعمل، ولأنهم قد تميزوا بصفاء الذهن، مع السليقة العربية، ومعاصرة التنزيل، ومعرفة بأسباب النزول، والتجرد عن الهوى، بالإضافة إلى وجود النبي ﷺ بينهم يفسر لهم ما أشكل عليهم، أو ما احتاجوا إلى بيانه؛ لكل ما سبق، عصم الله تعالى جيلهم من الانحراف في فهم القرآن الكريم، وندر الخطأ في تأويله بين أفرادهم، ومع بعد العهد عن النبوة، وغياب الجيل الأول من الصحابة والتابعين؛ ظهرت اتجاهات في تأويل القرآن الكريم، وتأثر التفسير بالمذاهب العقدية المختلفة، ومن تلك المدارس المدرسة الباطنية التي ظهرت باتجاهات وألوان عدة على مر التاريخ الإسلامي.
وفي عصرنا الحاضر ظهر ما يسمى بالتأويل الروحاني والذي لا يتقيد بقواعد التأويل وأصول التفسير المتعارف عليها لدى السلف والخلف.
وكان هدفنا الإجابة على السؤال الآتي: ما مدى مخالفة التأويل الروحاني المعاصر للقرآن الكريم لقواعد التأويل الصحيح؟
منهج البحث
المنهج الوصفي التحليلي، المنهج الاستقرائي.
وقد تعمدنا ذكر مثال على كل جزء دون الخوض في تفاصيل وأمثلة تطبيقية لاختصار البحث من جهة ومن جهة أخرى فإن ذلك ما تقوم به الباحثة سارة جل محمد في رسالتها للدكتوراه المسجلة بعنوان التأويل الروحاني الباطني المعاصر للقرآن الكريم – دراسة نقدية – جامعة العلوم الإسلامية ماليزيا.
تمهيد
لقد ضبط فهم نصوص الكتاب والسنة وفق قواعد مفصلة قررها أهل العلم قديماً وحديثاً بالأثر والاستقراء تعتمد على مرتكزات رئيسة من أهمها: اعتبار الدلالات اللغوية، واستحضار مناسبة ورود النص، وفهم النص في سياقه الشرعي، واعتماد فهم السلف الصالح كمرجعية قوية لجميع ما سبق.
غير أن التفرق العقدي والمنهجي منذ أزمنة مبكرة من تاريخ الإسلام أدى إلى سوء إعمال النص الشرعي، والتعسف في تفسيره وتأويله، ليتوافق مع مراد كل فرقة منحرفة أو مذهب محدث. ومن ثم برز مصطلح “التأويل” للتعبير عن الطرق المختلفة لصرف النص عن ظاهره وحمله على المعنى الذي يقصده المؤول..
ومن أبرز القراءات المحدثة للنص المقدس، هي تلك التي تقدمها أطروحات الروحانية الحديثة، المتمثلة بتيار ظهر في الغرب كحركة مضادة للتدين التقليدي والإلحاد المادي في ذات الوقت، فقدمت الروحانية تصورات تتجاوز المحسوس للكون والوجود، ولم ترتض التفسيرات الأثرية للنص، بل سلطت عليه سيف التأويل الذي فرغه من مدلوله اللغوي، وجرده من سياقه الديني والتاريخي.[1]
تعريف بالتأويل الروحاني الباطني المعاصر للقرآن الكريم
التأويل في اللغة: ألت الشيء: جمعته وأصلحته، فكأن (التأويل) جمع معان مشكلة بلفظ واضح لا إشكال فيه. وقال بعض العرب: أول الله عليك أمرك، أي جمعه.
والتأول والتأويل: تفسير الكلام الذي تختلف معانيه وأما قوله تعالى: {هَلۡ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأۡوِيلَهُۥۚ يَوۡمَ يَأۡتِي تَأۡوِيلُهُۥ}([2]) . معناه: هل ينظرون إلا ما يؤول إليه أمرهم من البعث.
قيل: وهذا التأويل هو قوله جل وعز: {هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ مِنۡهُ ءَايَٰتٞ مُّحۡكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٞۖ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمۡ زَيۡغٞ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنۡهُ ٱبۡتِغَآءَ ٱلۡفِتۡنَةِ وَٱبۡتِغَآءَ تَأۡوِيلِهِۦۖ وَمَا يَعۡلَمُ تَأۡوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُۗ وَٱلرَّٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلّٞ مِّنۡ عِندِ رَبِّنَاۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ }([3]) ، أي: لا يعلم متى يكون أمر البعث وما يؤول إليه الأمر عند قيام الساعة إلا الله[4].
قال الجوهري: التأويل: تفسير ما يؤول إليه الشيء [5]
تطور مفهوم التأويل
- مفهوم التأويل عند السلف: بالنظر إلى استعمال مصطلح التأويل، نجد أن التأويل عند علماء اللغة والتفسير المتقدمين يدور على معنيين: التأويل بمعنى تفسير الشيء وبيانه، والتأويل بمعنى العاقبة والمرجع والمصير. لكن لو اطلعنا على المعاجم المتأخرة لوجدنا في بعضها – إضافة للمعنيين السابقين – معنى آخر هو أقرب للاصطلاح المتأخر منه لأصول اللغة وقواعدها. يقول الطبري: وأما معنى”التأويل” في كلام العرب، فإنه التفسير والمرجع والمصير.[6] ويقول القرطبي: والتأويل يكون بمعنى التفسير، كقولك: تأويل هذه الكلمة على كذا. ويكون بمعنى ما يؤول الأمر إليه. واشتقاقه من آل الأمر إلى كذا يؤول إليه، أي صار. وأولته تأويلا أي صيرته. وقد حده بعض الفقهاء فقالوا: هو إبداء احتمال في اللفظ مقصود بدليل خارج عنه.[7]
- مفهوم التأويل عند المتأخرين : قد صار اصطلاح المتأخرين في معنى التأويل: أنه صرف اللفظ عن ظاهره، وبهذا تسلط المحرفون على النصوص، وقالوا: نحن نتأول ما يخالف قولنا، فسموا التحريف تأويلاً، تزيينا له وزخرفة ليقبل، وقد ذم الله الذين زخرفوا الباطل، قال تعالى: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّٗا شَيَٰطِينَ ٱلۡإِنسِ وَٱلۡجِنِّ يُوحِي بَعۡضُهُمۡ إِلَىٰ بَعۡضٖ زُخۡرُفَ ٱلۡقَوۡلِ غُرُورٗاۚ وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُۖ فَذَرۡهُمۡ وَمَا يَفۡتَرُونَ} ([8])
والعبرة للمعاني لا للألفاظ. فكم من باطل قد أقيم عليه دليل مزخرف عورض به دليل الحق.[9]
التأويل في العصر الحديث
لم يقف تطور مفهوم التأويل عند تحريف المتكلمين قديماً، ففي الفترة المعاصرة ظهر معنى جديد لهذا المصطلح المشكل يتجاوز تلك المفاهيم المحدثة فضلاً عن تصور السلف؛ فقد أصبح التأويل يطلق على نظرية عامة في آليات الفهم هي أكثر عمقاً وتعقيداً مما سبق، تسمى في الغرب: الهرمنيوطيقا..
تعرف الهرمنيوطيقا بأنها: علم وفن التفسير الإنجيلي[10].. لقد نشأت نظريات الهرمنيوطيقا في بيئة نصرانية، وقواعدها مبنية على طبيعة ” الكتاب المقدس” ودوائر الدراسات اللاهوتية، ثم توسعت وتفرعت إلى ما يتجاوز ذلك…
وقد تطور مفهوم الهرمنيوطيقا وتنوعت النظريات التي تندرج تحت هذا المصطلح العام، فكانت هناك نظريات تقليدية، هي أشبه ما تكون بأصول التفسير، تقوم على قواعد منطقية لتفسير النص المقدس، مثل: القواعد اللغوية، وسياق النص، والمناسبة التاريخية لوروده، بالإضافة لتفسيرات اللاهوتيين، مع التأكيد على أن الأصل أن ظاهر النص هو المراد، واستبعاد المعاني الباطنية والإشارية التي لا توجد لها قرائن واضحة في ظاهر النص[11] ونظريات أخرى – وهي التي تم استيرادها في العالم الإسلامي- تعمل على تأويل النص بطريقة خيالية ورمزية، مستبعدة المعنى الحرفي المباشر، ومحاولة اكتشاف المعاني “الخفية” وراء النص المقدس.[12]
لقد أصبحت نظريات الهرمنيوطيقا – في العالم الإسلامي- وسيلة للتحرر من دلالة النص بطريقة تبدو “علمية” تعمل على توظيف مصطلحات مزخرفة مستوردة للتوصل إلى فوضى معرفية، وإعادة قراءة التراث وفقاً لرؤى مؤدلجة وأجندات مسبقة، رغم حملها لشعارات موهمة تنفر من التبعية للسلف والتقليد الأعمى للقرون المفضلة.[13]
الاتجاه الباطني
لغة: الْبَطن: خلاف الظّهْر. والبطن: الغامض من الأَرْض. والبطن من الْعَرَب: دون الْقَبِيلَة. وأفرشني فلَان بطن أمره وظهره أَي سره وعلانيته. وَالْبَاطِن: خلاف الظَّاهِر.[14] قال بعض الأئمة: والملحدون في زماننا هم الباطنية الذين يدعون أن للقرآن ظاهرا وباطنا وأنهم يعلمون الباطن فأحالوا بذلك الشريعة لأنهم تأولوا بما يخالف العربية التي نزل بها القرآن[15] والباطنية في المعاجم اللغوية المعاصرة: مجموعة فرق إسلامية مبتدعة تخفي عقائدها، تعتقد أن للشريعة والقرآن ظاهراً وباطناً وأن لكل ظاهر باطناً ولكل تنزيل تأويلاً.[16]
الروحانية المعاصرة
الروحانية: اسم منسوب إلى رُوح: على غير قياس: من خَلَقه الله رُوحًا بغير جسد كالملائكة والجنّ.
الآباء الرُّوحانِيُّون: علماء النصارى– العِلْم الروحانيّ: علم السِّحر، وهو فنّ يدَّعي الاتصال بالأرواح
والروحانية : مذهب فلسفيّ يقوم على الإيمان بالرُّوح ويقابله المذهب الماديّ .[17]
وبتتبع معنى الروحانية في المعاجم نرى تطور المعنى ، والذي يعنينا تحديداً في هذا البحث هو مفهوم الروحانية في الاصطلاح الحديث، وما تعنيه من تيار فكري عقدي معاصر.
كذلك نلاحظ أن هذا المصطلح نصراني الأصل.. وإن كان المصطلح انتقل استخدامه لكثير من الديانات الأخرى، لا سيما الشرقية منها كالهندوسية والبوذية [18]
أما الاستخدام الحديث لمصطلح الروحانية فكما يقول روبرت شلدريك: ” يتسم بالغموض أحياناً، ويصعب تعريفه بشكل دقيق نظراً لانفصاله المتزايد عن المفهوم الديني، وعن جذوره النصرانية على وجه الخصوص”[19] فهي مزاحمة للطرح الديني، تقدم بدائل لا دينية لتحقيق ذات الأهداف والغايات المرجوة من التدين، بل تعد شكلاً من أشكال الثورة على “الأصولية الدينية” وتتمثل في “حكمة روحانية عالمية” تعمل على تغيير الإنسان من داخله، لا عبر وساطة الأنبياء وقيود الوحي، وتوسيع دائرة المقدس لتشمل كل شيء، فالروحانية الحديثة استكشاف روحي خارج الإطار الديني التقليدي والبحث الذاتي عن المعنى. ..ويرى بعض الباحثين أن الاهتمام بالروحانية الحديثة هو من مظاهر الثقافة الغربية المعاصرة المتمحورة حول الذات، بالإضافة للطبيعة الاستهلاكية لتلك المجتمعات، والتي كانت من أسباب رواج التطبيقات الروحانية المتمثلة بأساليب اللياقة البدنية والحياة الصحية[20]
التأويل الباطني الروحاني المعاصر: التشكيك بالمنهج “التقليدي” للتعامل مع النص، وتقديم المنهج التأويلي القائم على المدلولات الملفقة للباطنية الروحانية المعاصرة .[21]
لماذا يعد التأويل الباطني الروحاني المعاصر من التأويلات المنحرفة؟
من الأسباب التي تجعلنا ندرج التأويل الروحاني الباطني المعاصر للقرآن الكريم من الاتجاهات المنحرفة للتأويل،: مخالفته لقواعد التأويل الصحيح المتفق عليها من علماء الأمة سلفهم وخلفهم .
علامات التأويل المنحرف
لاشك أن علم تفسير وتأويل القرآن الكريم من العلوم التي تحتاج إلى من يكون مؤهلاً لخوض غماره، ومسلحاً بأدواته، وقد أكد النبي -ﷺ – على خطورة التأويل المنحرف للقرآن الكريم بقوله: (إنَّ منكم مَن يُقاتِلُ على تأويلِ القُرآنِ كما قاتَلْتُ على تنزيلِه ) [22]
كما أن من الآثار ما يدل على الحذر من تأويل القرآن بغير علم، وهذا ما حدا ببعض السلف أن يتجنب التفسير خشية أن يلحقه ذلك الذم.
وضح الطيب ابن عاشور المراد من تلك الآثار بأمور، لو تأملناها لوجدنا أن أصحاب اتجاه التأويل الروحاني الباطني قد وقعوا فيها كلها أو جلها
- أولها: أن المراد بالرأي هو القول عن مجرد خاطر دون استناد إلى نظر في أدلة العربية ومقاصد الشريعة وتصاريفها، وما لا بد منه من معرفة الناسخ والمنسوخ وسبب النزول فهذا لا محالة إن أصاب فقد أخطأ في تصوره بلا علم، لأنه لم يكن مضمون الصواب كقول المثل: «رمية من غير رام» .[23]
- ثانيها: أن لا يتدبر القرآن حق تدبره فيفسره بما يخطر له من بادىء الرأي دون إحاطة بجوانب الآية ومواد التفسير مقتصرا على بعض الأدلة دون بعض كأن يعتمد على ما يبدو من وجه العربية فقط، كمن يفسر قوله تعالى:{مَّآ أَصَابَكَ مِنۡ حَسَنَةٖ فَمِنَ ٱللَّهِۖ}([24]) على ظاهر معناها يقول إن الخير من الله والشر من فعل الإنسان بقطع النظر على الأدلة الشرعية التي تقتضي أن لا يقع إلا ما أراد الله غافلا عما سبق من قوله تعالى:{ قُلۡ كُلّٞ مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ }([25]) أو بما يبدو من ظاهر اللغة دون استعمال العرب كمن يقول في قوله تعالى: { وَءَاتَيۡنَا ثَمُودَ ٱلنَّاقَةَ مُبۡصِرَةٗ }([26]) فيفسر مبصرة بأنها ذات بصر لم تكن عمياء، فهذا من الرأي المذموم لفساده.
- ثالثها: أن يكون له ميل إلى نزعة أو مذهب أو نحلة فيتأول القرآن على وفق رأيه ويصرفه عن المراد ويرغمه على تحمله ما لا يساعد عليه المعنى المتعارف، فيجر شهادة القرآن لتقرير رأيه ويمنعه عن فهم القرآن حق فهمه ما قيد عقله من التعصب، عن أن يجاوزه فلا يمكنه أن يخطر بباله غير مذهبه حتى إن لمع له بارق حق وبدا له معنى يباين مذهبه حمل عليه شيطان التعصب حملة وقال كيف يخطر هذا ببالك، وهو خلاف معتقدك؟…. وجمود الطبع على الظاهر مانع من التوصل للغور. كذلك تفسير المعتزلة قوله: {إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٞ ٢٣}([27]) بمعنى أنها تنتظر نعمة ربها على أن إلى واحد الآلاء مع ما ذلك من الخروج عن الظاهر وعن المأثور وعن المقصود من الآية…
- رابعها: أن يفسر القرآن برأي مستند إلى ما يقتضيه اللفظ ثم يزعم أن ذلك هو المراد دون غيره لما في ذلك من التضييق على المتأولين. [28]
وإذ قد تقصينا مثارات التفسير بالرأي المذموم وبينا لكم الأشباه والأمثال، بما لا يبقى معه للاشتباه من مجال، فلا تجاوز هذا المقام ما لم ننبهكم إلى حال طائفة التزمت تفسير القرآن بما يوافق هواها، وصرفوا ألفاظ القرآن عن ظواهرها بما سموه الباطن، وزعموا أن القرآن إنما نزل متضمنا لكنايات ورموز عن أغراض، وأصل هؤلاء طائفة من غلاة الشيعة عرفوا عند أهل العلم بالباطنية فلقبوهم بالوصف الذي عرفوهم به”…[29]
أبرز إشكالات التأويل الباطني الروحاني المعاصر من حيث مخالفة قواعد التفسير
- مخالفة فهم السلف للنص يقول أحمد عمارة : إن شدة عبادة الناس للموروث أوقفوا عقولهم عن التدبر والتفكر، من شدة عبادة الناس للبشر أوقفوا عقولهم عن الفهم والإدراك، من شدة عبادة الناس لقصص التاريخ التي لا يفهمون تسلسلها الصحيح أوقفوا عقولهم عن الوعي والفقه تحدث الكارثة للشخص عندما يبدأ في تفسير آيات القرآن وفق النقاط الثلاث بالأعلى ، هذا يعتبر تفسيرا مبني على الظن . وهذا التفسير يؤدي لانهيار الشخص وانهيار كل من يتبعه هل فهمت الآن لماذا سيقول النبي يوم القيامة : إن قومي اتخذوا القرآن مهجورا ؟ فقد أصبحوا يعبدون التراث والموروث والبشر والعلماء السابقين (المحترمين الذي كان فكرهم يتناسب مع وقتهم وزمانهم)[30]. من أبرز انحرافات أهل البدع أنهم يفسرون القرآن برأيهم ومعقولهم، وما تأولوا من اللغة، ولهذا لا تجدهم يعتمدون على أحاديث المصطفى – ﷺ -، ولا على آثار الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين، ولا على إجماع السلف وآثارهم،. بل إنهم يعادون النصوص المخالفة لعقولهم وآرائهم، ويودون أنها لم تكن جاءت، وإذا سمعها الواحد منهم وجد لها على قلبه من الثقل والكراهة بحسب حاله، واشمأز منها قلبه . ومن طرائق المبتدعة أنهم يزعمون، أن ما جاء به الرسول هو الحق، وأنهم يلتزمون شريعته، ولكنهم ربما ضلوا الطريق … “وكل فريق من المبتدعة إنما يدعي أن الذي يعتقده هو ما كان عليه رسول الله – ﷺ -؛ لأنهم ملتزمون في الظاهر بشعائر الإسلام … إلا أنهم طلبوا الدين، لا بطريقة من الكتاب والسنة، بل رجعوا إلى عقولهم وخواطرهم وآرائهم، فطلبوا الدين من قبلها، فإذا سمعوا شيئا من الكتاب والسنة عرض على معيار عقولهم، فإن استقام قبلوه، وإن لم يستقم ردوه، فإن اضطروا إلى قبوله حرفوه بالتأويلات البعيدة، والمعاني المستكرهة، فحادوا عن الحق، وزاغوا عنه، ونبذوا الدين وراء ظهورهم [31]
- الخلل في منهج التلقي والاستدلال: فخلَلُهم يبدأ من الاستقلالية في استنباط الأحكام الشرعية دون ضابط محدد ومنهج حق من كتاب الله وسنة رسوله – ﷺ – ومستند السلف الصالح واللغة العربية، وفي الوقوف على الأدلة ودلالتها وأقوال أهل الفقه والبصيرة فيها، وكل ذلك يؤدي إلى الزيغ والهلاك
والواقع والملاحظ أن التمسك بنصوص الكتاب والسنة، وفهمها فهماً صحيحاً، يعتبر عند هؤلاء …غلواً وتطرفاً، أو جموداً وانغلاقاً، وذلك بالنظر إلى ما هم عليه من تفريط ظاهر،في التزام منهج الحق[32]
ومقتضى الخروج عن منهج القرون المفضلة وتجهيلهم في معاني الوحي؛ أن النبي -ﷺ- لم يؤد أمانة تعليم الكتاب والحكمة وإنما أدى وظيفة تلاوة الألفاظ فقط، وكلاهما أمانتان أداهما رسول الله -ﷺ- على أتم وجه، وقد عرض الله ذلك في معرض الامتنان على هذه الأمة، كما قال: {لَقَدۡ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذۡ بَعَثَ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ}([33])
وحتماً يتضح أنه يستحيل أن يكون النبي ﷺ رأى أصحابه يمارسون مناهج قاصرة لفهم النص فأهملهم ولم ينبههم…والواقع أن الله سبحانه وتعالى أثبت أن أصحاب النبي ﷺ الذين اتبعوه قد اهتدوا بالعلم، كما قال: {قُلۡ هَٰذِهِۦ سَبِيلِيٓ أَدۡعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِيۖ وَسُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ }([34] )
وكانت النتيجة استجهال السابقين الأولين واستبلاههم واعتقاد أنهم كانوا قوما أميين بمنزلة الصالحين من العامة؛ لم يتبحروا في حقائق العلم بالله ولم يتفطنوا لدقائق العلم الإلهي وأن الخلف الفضلاء حازوا قصب السبق في هذا كله.
عن عبد الله بن مسعود: والذي لا إله غيره ما من كتاب الله سورة إلا أنا أعلم حيث نزلت، وما من آية إل أنا أعلم فيما أنزلت، ولو أعلم أحداً هو أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لركبت إليه.[35]
وهل يتوهم عاقل أنهم كانوا إنما يأخذون منه مجرد حروفه وهم لا يفقهون ما يتلوه عليهم ولا ما يقرؤونه ولا تشتاق نفوسهم إلى فهم هذا القول ولا يسألونه عن ذلك ولا يبتدىء هو بيانه لهم هذا مما يعلم بطلانه أعظم مما يعلم بطلان كتمانهم ما تتوفر الهمم والدواعي على نقله.
قال أحمد : ” واعلم رحمك الله أن الخصومة في الدين ليست من طريق أهل السنة، وأن تأويل من تأول القرآن بلا سنة تدل على معنى ما أراد الله منه، أو أثر عن أصحاب رسول الله ﷺ، ويعرف ذلك بما جاء عن النبي ﷺ، أوعن أصحابه، فهم شاهدوا النبي ﷺ وشهدوا تنزيله، وما قصه الله له في القرآن، وماعني به، وما أراد به أخاص هو أم عام، فأما من تأوله على ظاهره بلا دلالة من رسول الله ﷺ ولا أحد من الصحابة، فهذا تأويل أهل البدع؛ لأن الآية قد تكون خاصة ويكون حكمها حكمًا عامًا، ويكون ظاهرهاعلى العموم، وإنما قصدت لشيء بعينه، ورسول الله ﷺ هو المعبر عن كتاب الله وما أراد، وأصحابه أعلم بذلك منا، لمشاهدتهم الأمر وما أريد بذلك، فقد تكون الآية خاصة، أي معناها مثل قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء: 11] وظاهرها على العموم، أي من وقع عليه اسم ولد فله ما فرض الله، فجاءت سنة رسول الله ﷺ ألا يرث مسلم كافرًا.
وروي عن النبي ﷺ وليس بالثبت إلا أنه عن أصحابه أنهم لم يورثوا قاتلاً، فكان رسول الله ﷺ هو المعبر عن الكتاب أن الآية إنما قصدت للمسلم لا للكافر، ومن حملها على ظاهرها لزمه أن يورث من وقع عليه اسم الولد كافرًا كان أو قاتلا، وكذلك أحكام الوارث من الأبوين وغير ذلك مع آي كثير يطول بها الكتاب، وإنما استعملت الأمة السنة من النبي ﷺ ومن أصحابه، إلا من دفع ذلك من أهل البدع والخوارج وما يشبههم، فقد رأيت إلى ما خرجوا.”[36]
وإن إحداث منهج لقراءة النصوص يصادم منهج القرون المفضلة مؤداه : مسخ المأثور، وتسلسل المحدثات والدلالات المخترعة.
وما أكثر ما أشار القرآن الكريم إلى هذين النوعين من الضلال: إما إعراض عن شيء من مضامين الوحي، أو زيادة مضامين لم ترد فيه ، كما قال تعالى: ( ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بالحق لما جاءه)
ومنهج القراءة هو الواسطة بين اللفظ والمحتوى، فإذا بدلنا منهج القراءة عما كان عليه النبي -ﷺ- وأصحابه وأئمة القرون المفضلة أنتج لنا محتوى مختلفاً عن هديهم.
وبالتالي: فإن منهج القرون المفضلة في التلقي والاستدلال حجة …ومما يدل على ذلك أمور كثيرة منها أن النبي – ﷺ – بين معلم النجاة، فقال: (هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي) وفي حديث (إنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا ….) وليس يخفى على من له أدنى بصيرة أن هدي الخلفاء الراشدين لا يقتصر على مراعاة ألفاظ النصوص، بل يدخل في ذلك دخولاً أولياً منهجهم في التلقي والاستدلال وفهم النصوص الشرعية وتنظيم العلاقة بينها.
وقد أثنى الله عز وجل على من بعد السابقين من الصحابة بكونهم “اتبعوا” السابقين { وَٱلسَّٰبِقُونَ ٱلۡأَوَّلُونَ مِنَ ٱلۡمُهَٰجِرِينَ وَٱلۡأَنصَارِ وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحۡسَٰنٖ رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُ وَأَعَدَّ لَهُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي تَحۡتَهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۚ ذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ } ([37])
وفي الحديث الصحيح ( سيكون في آخر أمتي ناس يحدثونكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم)[38]
وإن كان من أسباب انتقاص هؤلاء المبتدعة للسلف ما حصل في المنتسبين إليهم من نوع تقصير وعدوان وما كان من بعضهم من أمور اجتهادية الصواب في خلافها فإن ما حصل من ذلك صار فتنة للمخالف لهم: ضل به ضلالاً كبيراً[39]
عدم الالتزام بقواعد التفسير وأصوله
يقول محمد الدحيم لقراءة للنص الديني – من دون إحاطة التراث التفسيري بالقارئ – تمنحه فضاءً فكرياً يتمثل في الوعي الوجداني الذي لا يمكن وصفه بأكثر من إشارات أو رموز على صعيد الذهن، وهو على صعيد السلوك ليس أكثر إبداعاً من كونه تجربة، كل ذلك حين يتمثل في تركيب أو تراكيب جديدة للمعنى، أو في الدخول إلى فضاءات ضلال المعنى، وذلك أقوى وأنقى وأتقى…
مثلت أزمة الفهم التديني للنص الديني في الخلود إلى استدلالات تأريخية تحولت بفعل التلقي اللاواعي ـ في أفضل التعابير ـ إلى توجيه معياري وتفسير نهائي لنص غير قابل لفكرة النهائية، كما أسلفت، الأمر الذي أدى إلى تكوين بدهيات فهمية يتم استحضارها للحكم والمحاكمة – على ومع – أي رؤية أو تفسير يخالف تلك البدهيات، التي غالباً ما تقدم بالوصف الذي يضفي عليها المهابة ويمنحها السلطة، كالوصف بـ «العقيدة أو الإجماع أو المنهج!!»[40]
وفي موضع آخر يدعو لقراءة القرآن الكريم بأدوات غربية مستحدثة.
أستكمل الحديث بالإشارة إلى مشروع تأويلي له تجربته وفاعليته وحضوره العلمي عالمياً، وهو ما اصطلح عليه بـ”الهرمنيوطيقا”، ولا أريد أن أتحدث عن تاريخيته وتطوره. ولكن إشارتي إلى راهنيته وأهمية أن يكون للعقل الذي يتعامل مع القرآن وعي وإلمام به.
فالهرمنيوطيقا تحتل اليوم الصدارة في ميدان الأبحاث المنهجية والنفسية والاجتماعية والتاريخية والإنسانية. والمكتبة العالمية تشهد زخماً من الأبحاث والدراسات الفلسفية حول الهرمنيوطيقا، كما تشهد المكتبة العربية القليل من ذلك ما بين مترجم منقول وأقل منه ما تم تأليفه ودراسته، وهذا القليل هو ما يبعث الأمل لإنتاج أكثر وأعمق ومشاركة فهمية تفتح آفاق المعنى في ظل سقوط مفهوم العقل الكلاسيكي القديم وأدواته، ولما يتشكل العقل الجديد وآلياته.
الهرمنيوطيقا مغامرة في دروب المعرفة الإنسانية، هي مغامرة بمعنى كونها اكتشافا في بحر النص، اكتشاف لا يعني التيه والضلال والحيرة! ولكنه اكتشاف لما يسميه (رولان بارت) بـ”لذة النص” وبذلك سمى كتابه الذي ترجمه الناقد منذر عياشي الذي يقول عن لذة النص:
اللذة تأتي هكذا، إنها حضور من غير سؤال، ووجود يعم كل شيء، دون أن يتموضع في شيء. وليس شيء أقتل للذة من سؤال يستفسر عن موضوعها. اللذة ليست موضوعاً. إنها هي. وإنها لتكتشف دائماً من غير سؤال. وسعادة الملتذ كالنور. تأتي بقدح زناد الروح، فلا يدركها إلا من تحرر من نفسه جسداً ودخل في نفسه نصاً. (انتهى كلام العياشي). وهو وعي بجمالية النص التي يفتقدها الكثير من التفاسير التي كتبت حول القرآن!! والجمالية أساس في مخرجات الهرمنيوطيقا.[41]
ثم يدعو لاستباحة ميدان التأويل لغير أهله مسمياً الالتزام بقواعد المفسرين وضوابطهم (احتكاراً)!
هل يصح للفيلسوف وهل يصح منه تشكيل علاقة فهمية للنص القرآني؟! وما هي خصائص هذا الفهم الفلسفي للقرآن؟ قد يبدو هذا الأمر غير مقبول عند من ارتسمت لديهم ذهنية ترفض الفلسفة جملة وتفصيلا باعتبار مناقضتها للدين! كما سيكون هذا الأمر محل الاستغراب عند قوم آخرين أقل حساسية ضد الفلسفة باعتبارها نمطا من الحكمة.
ويأتي طرح هذا الموضوع لكسر احتكار الفهم القرآني في شكل معين من العلوم وأصحابها، باعتبار فاعلية النص القرآني وتعاليه عن الاحتكار، وإذ قد سمح الفقهاء للأطباء بفهم القرآن عن ظهور ما سُمي بالإعجاز العلمي في القرآن، فلأن تكون الفلسفة من أقوى الحاضرين والفاعلين في الفهم أمر يجب أن يكون مرحبا به.
ولا شك أن الفلسفة لها خصائصها ومميزاتها التي تقدمها في فهم النص القرآني، وهي تختلف عن التفسير الفقهي ـ بمفهومه الواسع ـ والذي يعتمد آليات وقواعد شبه محددة. …
تقتضي الفلسفة ضرورة التأويل لفهم القرآن، والذي أصبح منقصة في الفهم وانحرافا عقائديا عند البعض، مع أن الله تعالى يقول (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) وقد دعا النبي ﷺ لابن عباس (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل) فكان ابن عباس ترجمان القرآن.[42]
عندما سعت الروحانية الحديثة لإسقاط دور السلف في توجيه مفهوم النص، ولم تقدم مرجعية سواهم تضبط هذا المفهوم؛ أسندت الفهم لخصائص ذاتية، غير قابلة للقياس ولا الضبط، كالذوق والوعي والتأمل، وهي خصائص نسبية غير موضوعية، لا تتوفر فيها أدوات فهم النص على مراد قائله، وإنما هي محاولات لتحريف النص على مراد قارئه….فحيث كان فهم النص الشرعي متعلقاً بالذوق الفردي والوعي الشخصي، أمكن تعدد المفهوم بتعدد الأشخاص… وينتج عن هذه المنهجية المستحدثة فوضى تأويلية لا حد لها ولا زمام، وتظهر لا نهائية الدلالة التي تفرغ النص من محتواه كلياً، فلا يكون ثمة فرق بين وجوده وعدمه وذلك ما يسمى بالقراءة المفتوحة للنص، أو النظرية الحداثية القائلة بموت المؤلف .[43]
وقد بين العلماء أنواع العلوم التي يجب توافرها في المفسر فقالوا هي اللغة والنحو والصرف وعلوم البلاغة وعلم أصول الفقه وعلم التوحيد ومعرفة أسباب النزول والقصص والناسخ والمنسوخ والأحاديث المبينة للمجمل والمبهم وعلم الموهبة وهو علم يورثه الله تعالى لمن عمل بما علم ولا يناله من في قلبه بدعة أو كبر أو حب دنيا أو ميل إلى المعاصي قال تعالى: { سَأَصۡرِفُ عَنۡ ءَايَٰتِيَ ٱلَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّ وَإِن يَرَوۡاْ كُلَّ ءَايَةٖ لَّا يُؤۡمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوۡاْ سَبِيلَ ٱلرُّشۡدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلٗا وَإِن يَرَوۡاْ سَبِيلَ ٱلۡغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلٗاۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا وَكَانُواْ عَنۡهَا غَٰفِلِينَ } ([44])إن لم يظفر بالمعنى في الكتاب والسنة ومأثورات الصحابة وجب عليه أن يجتهد وسعه متبعا ما يأتي:
- البدء بما يتعلق بالألفاظ المفردة من اللغة والصرف والاشتقاق ملاحظا المعاني التي كانت مستعملة زمن نزول القرآن الكريم.
- إرداف ذلك بالكلام على التراكيب من جهة الإعراب والبلاغة على أن يتذوق ذلك بحاسته البيانية.
- تقديم المعنى الحقيقي على المجازي بحيث لا يصار إلى المجاز إلا إذا تعذرت الحقيقة.
- ملاحظة سبب النزول فإن لسبب النزول مدخلا كبيرا في بيان المعنى المراد كما سبق تحقيقه في مبحث أسباب النزول.
- مراعاة التناسب بين السابق واللاحق بين فقرات الآية الواحدة وبين الآيات بعضها وبعض.
- مراعاة المقصود من سياق الكلام.
- مطابقة التفسير للمفسر من غير نقص ولا زيادة.
- مطابقة التفسير لما هو معروف من علوم الكون وسنن الاجتماع وتاريخ البشر العام وتاريخ العرب الخاص أيام نزول القرآن.
- مطابقة التفسير لما كان عليه النبي ﷺ في هديه وسيرته لأنه هو الشارح المعصوم للقرآن بسنته الجامعة لأقواله وأفعاله وشمائله وتقريراته.
- ختام الأمر ببيان المعنى والأحكام المستنبطة منه في حدود قوانين اللغة والشريعة والعلوم الكونية.
- رعاية قانون الترجيح عند الاحتمال [45]
مخالفة قواعد اللغة العربية
لا يختلف اثنان على أهمية فهم اللغة العربية والتمكن من علومها عند تفسير القرآن الكريم. قال تعالى في كتابه العزيز {إِنَّا جَعَلۡنَٰهُ قُرۡءَٰنًا عَرَبِيّٗا لَّعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ} ([46]). وفي آية أخرى: {فَإِنَّمَا يَسَّرۡنَٰهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمۡ يَتَذَكَّرُونَ } ([47]) لكن أرباب التأويل الروحاني المعاصر لهم رأي آخر!
يقول أحمد عمارة : أما الشاب الذي تم حشو رأسه بمعلومات توارثها عن الآباء والأجداد وهو لا يدري ستجده فورا يقول (ماهذا التخريف) حكم ،، (أنت تضع السم في العسل) حكم ،، (أنت تبرمج الناس على اتباعك أنت) حكم ،، كل من يصدر أحكام فورية فليعلم أن هذا بسبب تأثره بالموروث وعبادته له ، لو لم تكن تعبده لما فعلت ذلك أبدا لأن ربك أخبرك في القرآن أن الحكم لله وحده ولا يحق لأحد أن يحكم على أحد إلا القاضي .. والقاضي لابد أن يكون رجلين ذوي عدل منكم . ولأن الله أمرك أن (تتبين) فكان ينبغي أن تسأل ماذا تقصد قبل أن تتهم بأنك تفعل كذا وكذا .
ترى هل يصح أن تقول (كذبا) على الله أنه شيء ؟ أم أن الله ليس شيئ ؟ وأنه أرفع وأعلى مكانة من الشيء بكثيييير ؟ وترى ما معنى شيء أصلا ؟ هل هو المعنى في اللغة العربية التي ضيعت الناس عندما تم تفسير القرآن بها ؟ أم أن معناه في القرآن مختلف تماما عن اللغة العربية التي أقنعنا الموروث أنها حاكمة على معاني ألفاظ القرآن ؟ [48]
ولو لم نحتكم للغة العربية فإلى أي لغة نحتكم؟
هكذا يميع هؤلاء فهم النص، ويجعلون تفسيره حقاً لكل عابث!
وأما التزام قواعد اللغة فلأن القرآن نزل بلسان عربي مبين ويقول منزله جل شأنه: :{إِنَّا جَعَلۡنَٰهُ قُرۡءَٰنًا عَرَبِيّٗا لَّعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ }([49])
وقضية عروبته هذه أن يفهم على قوانين لغة العرب وإلا فلا يرجى أن يعقل ما فيه ولا أن يفهم ما يحويه وذلك معنى قوله: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} بعد قوله: {عَرَبِيّاً}
ولعلك تلاحظ معي أن بعض الناس قد فتنوا بالإقبال على دراسة تلك الإشارات والخواطر فدخل في روعهم أن الكتاب والسنة بل الإسلام كله ما هي إلا سوانح وواردات على هذا النحو من التأويلات والتوجيهات وزعموا أن الأمر ما هو إلا تخييلات وأن المطلوب منهم هو الشطح مع الخيال أينما شطح فلم يتقيدوا بتكاليف الشريعة ولم يحترموا قوانين اللغة العربية في فهم أبلغ النصوص العربية كتاب الله وسنة رسول الله ﷺ.
والأدهى من ذاك أنهم يتخيلون ويخيلون إلى الناس أنهم هم أهل الحقيقة الذين أدركوا الغاية واتصلوا بالله إتصالا أسقط عنهم التكليف وسما بهم عن حضيض الأخذ بالأسباب ما داموا في زعمهم مع رب الأرباب وهذا لعمر الله هو المصاب العظيم الذي عمل له الباطنية وأضرابهم من أعداء الإسلام كما يهدموا التشريع من أصوله ويأتوا بنيانه من قواعده. [50]
ومن المفترض عدم إسقاط الاصطلاحات الحادثة على نصوص الشارع كما فعل أحمد عمارة.
فمعرفة أوضاع اللغة العربية وأسرارها، تعين على فهم الآيات التى لا يتوقف فهمها على غير لغة العرب. ومعرفة عادات العرب تعين على فهم كثير من الآيات التى لها صلة بعاداتهم، فمثلاً قوله تعالى: {إِنَّمَا النسياء زِيَادَةٌ فِي الكفر} [التوبة: 37] .. وقوله: {وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا} [البقرة: 189] . لا يمكن فهم المراد منه، إلا لمن عرف عادات العرب فى الجاهلية وقت نزول القرآن.[51]
ولا بد في فهم الشريعة من اتباع معهود الأميين، وهم العرب الذين نزل القرآن بلسانهم، فإن كان للعرب في لسانهم عرف مستمر، فلا يصح العدول عنه في فهم الشريعة، وإن لم يكن ثم عرف، فلا يصح أن يجرى في فهمها على ما لا تعرفه. وهذا جار في المعاني والألفاظ والأساليب[52]
قال الشاطبي:” كون الظاهر هو المفهوم العربي مجردا لا إشكال فيه؛ لأن الموالف والمخالف اتفقوا على أنه منزّل بلسان عربي مبين” ” فإذن .. كل معنى مستنبط من القرآن، غير جار على اللسان العربي؛ فليس من علوم القرآن في شيء، لا مما يستفاد منه، ولا مما يستفاد به، ومن ادعى فيه ذلك؛ فهو في دعواه مبطل”
ثم قال:” وكون الباطن هو المراد من الخطاب قد ظهر … ، ولكن يشترط فيه شرطان:
- أحدهما: أن يصح على مقتضى الظاهر المقرر في لسان العرب، ويجري على المقاصد العربية.
- ثانيهما: أن يكون له شاهد- نصّا أو ظاهرا- في محل آخر يشهد لصحته من غير معارض”.[53]
ثم قال:” وبهذين الشرطين يتبين صحة ما تقدم أنه الباطن؛ لأنهما موفوران فيه، بخلاف ما فسّر به الباطنية؛ فإنه ليس من علم الباطن، كما أنه ليس من علم الظاهر”[54]
ويحذر الزرقاني من عدم الانضباط بتلك الأمور قائلاً: وأحب ألا يفهم القاريء الكريم أنني أريدها فوضى لكل متأول في القرآن متلاعب بالنصوص عابث بتعاليم الدين بل الذي أريده وأرجوه أن نفرق بين متأول ومتأول ثم ننظر أهذا التأويل سائغ أم غير سائغ أي تساعد عليه قوانين اللغة العربية ومقررات الإسلام المقطوع بها المعلومة من الدين بالضرورة وبراهين العقل والمنطق أم لا.
فالسائغ نقبله ونرحب به وإن خالف رأينا وغير السائغ نرده في غير تردد ونحاربه في غير هوادة لأن تاريخ الإسلام لم يشهد أعداء كانوا أخطر عليه من أولئك العابثين الذين تلاعبوا بنصوصه وعبثوا بمقرراته سواء منهم من ذهب به الماضي كالباطنية ومن برم به الحاضر كالبهائية وقد تسمع قريبا شيئا عن أمثالهم.[55]
تحميل النص ما لا يحتمل
يفسر أحمد عمارة قوله تعالى وأنت حل بهذا البلد : ونفسك تسكن هذا الجسد من أجل اختبار الدنيا، ووالد وما ولد : وهذا الجسد تسكنه كل الأنفس وكل الأولاد في كل بقاع الأرض …بتفسير معنى البلد على أنه جسمك، والأصنام على أنها أفكراك المعرقلة، تتماشى الآية مع كل البشر، وتشرح أسباب ضياع الناس في الحياة بسبب أمراض أجسامهم وأفكارهم التي يمشون وراءها ويعبدونها كالأصنام أشد عبادة من الله [56]
وليس خفياً ما قام به من تحميل النص ما لا يحتمله، وهو من الأخطاء التي نبه عليها علماء الأمة قديماً وحديثاً
ومن ذلك كل علم يعزى إلى الشريعة لا يؤدي فائدة عمل، ولا هو مما تعرفه العرب؛ فقد تكلف أهل العلوم الطبيعية وغيرها الاحتجاج على صحة الأخذ في علومهم بآيات من القرآن، وأحاديث عن النبي -ﷺ-[57]
ومن ذلك بعض المقلدين يفهم النصوص على ما يوافق هواه فتجده يحمل النصوص من الدلالات ما لا تحتمل، كذلك أيضاً بعض العصريين يحملون النصوص ما لا تحتمله حتى توافق ما اكتشفه العلم الحديث في الطب والفلك وغير ذلك، كل هذا من الأمور التي لا يحمد الإنسان عليها، فالإنسان يجب أن يفهم النصوص على ما هي عليه، ثم يكون فهمه تابعاً لها، لا أن يخضع النصوص لفهمه أو لما يعتقده، ولهذا يقولون: استدل ثم اعتقد، ولا تعتقد ثم تستدل، لأنك إذا اعتقدت ثم استدللت ربما يحملك اعتقادك على أن تحرف النصوص إلى ما تعتقده كما هو ظاهر في جميع الملل والمذاهب المخالفة لما جاء به الرسول – ﷺ – تجدهم يحرفون هذه النصوص لتوافق ما هم عليه، والحاصل أن الإنسان إذا كان له هوى، فإنه يحمل النصوص ما لا تحتمله من أجل أن توافق هواه[58]
ومن ذلك بعض المقلدين يفهم النصوص على ما يوافق هواه فتجده يحمل النصوص من الدلالات ما لا تحتمل، كذلك أيضاً بعض العصريين يحملون النصوص ما لا تحتمله حتى توافق ما اكتشفه العلم الحديث في الطب والفلك وغير ذلك، كل هذا من الأمور التي لا يحمد الإنسان عليها، فالإنسان يجب أن يفهم النصوص على ما هي عليه، ثم يكون فهمه تابعاً لها، لا أن يخضع النصوص لفهمه أو لما يعتقده، ولهذا يقولون: استدل ثم اعتقد، ولا تعتقد ثم تستدل، لأنك إذا اعتقدت ثم استدللت ربما يحملك اعتقادك على أن تحرف النصوص إلى ما تعتقده كما هو ظاهر في جميع الملل والمذاهب المخالفة لما جاء به الرسول – ﷺ – تجدهم يحرفون هذه النصوص لتوافق ما هم عليه، والحاصل أن الإنسان إذا كان له هوى، فإنه يحمل النصوص ما لا تحتمله من أجل أن توافق هواه
عدم مراعاة السياق في المعنى
يقول أحمد عمارة : خلقنا الإنسان في كبد = خلقنا الإنسان في أحسن تقويم، كبد معناها أحسن تقويم، بالله عليكم تدبروا القرآن، وانتبهوا لمن يريد أن يوهمكم بأن الحياة صعبة ومشقة وضيق[59]
ونلاحظ كيف يوهم بعبارته أن من حق المرء أن يفسر القرآن كما يحلول له دون أن يراعي السياق ، فالآيات السابقة واللاحقة في سياق تحذير الإنسان وتنبيهه لا في سياق الامتنان وذكر النعم ، هذا عدا مخالفته لمفسري الأمة سلفهم وخلفهم كما ذكر سابقاً!
والمراد بسياق القرآن هنا: (الآيات التي تسبق موضع الشاهد وتتبعه) ولدلالة السياق أثر كبير في فهم المعنى المنشود من الآية من حيث الموضوع، والخطاب، والأسباب التي أدت إليه، والآثار المترتبة عليه. ذلك لأن مقتضى البلاغة ارتباط الكلام بسابقه ولاحقه ارتباطاً يحوي المعنى ويضمه دون انفصال أو تشتت، بل مع حسن انتقال وتدرج في مراقي المباني والمعاني.
ولكتاب اللَّه وكلامه من هذه المعاني أسماها وأوفاها، كيف لا واللَّه قد قال: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ … ) الآية.
وهذه الدلالة لا تختص بأسباب النزول، بل هي جوهرية لفهم أيِّ نص كان سواءٌ أكان النص إلهياً أم نبوياً أم من سائر الكلام، إلا أن دلالة السياق القرآني أبلغ أثراً من كل سياق؛ لأن القرآن العظيم لا يطرقه احتمال الخطأ والوهم بخلاف غيره فقد أصابه حظه من ذلك[60]
وقد نبه الشاطبي على ضرورة مراعاة سياق الكلام (سباقا ولحاقا)، بحيث تتآخى وتترابط أجزاؤه كافة، ويأخذ أوله بحجزة آخره. وفي ذلك .. لا بدّ من تجلية المناسبات بين الآيات، بل بين السور كذلك.[61]
فالحاصل أن العموم إنما يعتبر بالاستعمال، ووجوه الاستعمال كثيرة، ولكن ضابطها مقتضيات الأحوال التي هي ملاك البيان؛ فإن قوله: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيۡءِۢ بِأَمۡرِ رَبِّهَا } ([62]) لم يقصد به أنها تدمر السموات والأرض والجبال، ولا المياه ولا غيرها مما هو في معناها، وإنما المقصود تدمر كل شيء مرت عليه مما شأنها أن تؤثر فيه على الجملة، ولذلك قال: { فَأَصۡبَحُواْ لَا يُرَىٰٓ إِلَّا مَسَٰكِنُهُمۡۚ كَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡمُجۡرِمِينَ } ([63])
وقال في الآية الأخرى: {مَا تَذَرُ مِن شَيۡءٍ أَتَتۡ عَلَيۡهِ إِلَّا جَعَلَتۡهُ كَٱلرَّمِيمِ ٤٢}([64])
إن إهمال النظر في كامل السياق الذي ورد فيه الحديث قاد إلى زلل الأقدام، وضلال الأفهام في فهم النصوص الشرعية.
فكم من خطأ ينشأ في فهم المعاني، وتحديد الأسباب حين يجتث الكلام من وسطه دون نظر أو تأمل في أوله ومنتهاه.
والخطأ هنا لا يقتصر على مجرد اللفظ، بل تنسحب آثاره على الممارسة والعمل إذا كان محلُّ الخطأ نصوصَ الأعمال.
فمن العلماء الذين بيّنوا أهميتها، أو جعلوها عمدة لهم في هذا الباب:
- ترجمان القرآن عبد اللَّه بن عبَّاسٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا – حين اعترض على من فهم قوله تعالى: {لَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَفۡرَحُونَ بِمَآ أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحۡمَدُواْ بِمَا لَمۡ يَفۡعَلُواْ فَلَا تَحۡسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٖ مِّنَ ٱلۡعَذَابِۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ } ([65]) على غير معناها لأنه لم يراع الآيات قبلها فقد أخرج مسلم وأحمد والبخاري والترمذي والنَّسَائِي أن مروان قال: اذهب يا رافع (لبوابه) إلى ابن عبَّاسٍ، فقل: لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبًا لنعذبن أجمعون، فقال ابن عبَّاسٍ: ما لكم ولهذه الآية؟ إنما أُنزلت هذه الآية في أهل الكتاب. ثم تلا ابن عبَّاسٍ: {وَإِذۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَٰقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ لَتُبَيِّنُنَّهُۥ لِلنَّاسِ وَلَا تَكۡتُمُونَهُۥ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمۡ وَٱشۡتَرَوۡاْ بِهِۦ ثَمَنٗا قَلِيلٗاۖ فَبِئۡسَ مَا يَشۡتَرُونَ }([66])[67]
- إمام المفسرين محمد بن جرير الطبري فقد اعتبر السياق فيصلاً في تحديد سبب النزول، وترك الحديث في سبب النزول مع صحة إسناده لما خالف السياق فقد أخرج أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنَّسَائِي وابن ماجه عن عروة بن الزبير أن الزبير كان يحدث أنه خاصم رجلاً من الأنصار قد شهد بدرًا إلى النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في شراج الحرة كانا يسقيان بها كلاهما فقال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – للزبير: (اسق ثم أرسل إلى جارك) فغضب الأنصاري وقال: يا رسول اللَّه، أن كان ابن عمتك فتلون وجه رسول اللَّه – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ثم قال للزبير: (اسق ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر) … الحديث. قال عروة: قال الزبير: واللَّه ما أحسب هذه الآية أُنزلت إلا في ذلك: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَرَجٗا مِّمَّا قَضَيۡتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسۡلِيمٗا } ([68]) قال الطبري: وذكر أنها نزلت فيمن ذكرهم الله بقوله: {أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزۡعُمُونَ أَنَّهُمۡ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوٓاْ إِلَى ٱلطَّٰغُوتِ وَقَدۡ أُمِرُوٓاْ أَن يَكۡفُرُواْ بِهِۦۖ وَيُرِيدُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَن يُضِلَّهُمۡ ضَلَٰلَۢا بَعِيدٗا }([69]) وهذا القول أولى بالصواب لأن قوله: { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) في سياق قصة الذين أسدى الله الخبر عنهم بقوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ) ولا دلالة تدل على انقطاع قصتهم فإلحاق بعض ذلك ببعض ما لم تأتِ دلالة على انقطاعه أولى.[70]
- أبو بكر ابن العربي فقد اعتمد عند ترجيحه المراد بقوله تعالى: (لَيْسُوا سَوَاءً) على السياق فقال: (وقد اتفق المفسرون أنها نزلت فيمن أسلم من أهل الكتاب وعليه يدل ظاهر القرآن، ومفتتح الكلام نفي المساواة بين من أسلم منهم وبين من بقي منهم على الكفر).وأهمل ما أخرج أحمد والنَّسَائِي عن ابن مسعود – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قال: أخَّر رسول اللَّه – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – صلاة العشاء، ثم خرج إلى المسجد فإذا الناس ينتظرون ْالصلاة، قال: (أما إنه ليس من أهل هذه الأديان أحد يذكر اللَّه هذه الساعة غيركم) …وهذا يدل على اعتباره السياق أصلاً، ولهذا قدم دلالته على دلالة الحديث.
- ابن عطية فإنه لما ذكر قوله تعالى: (لَيْسُوا سَوَاءً) قال: (لما مضت الضمائر في الكفر والقتل والعصيان والاعتداء عامة في جميع أهل الكتاب، عقَّب ذلك بتخصيص الذين هم على خير وإيمان، وذلك أن أهل الكتاب لم يزل فيهم من هو على استقامة، فمنهم من مات قبل أن يدرك الشرائع فذلك من الصالحين، ومنهم من أدرك الإسلام فدخل فيه). اهـ ثم أشار إلى حديث ابن مسعود باختصار شديد. وقوله هذا يلاحظ فيه السياق، ولو اعتبر حديث ابن مسعود ما قال هذا الكلام.
- القرطبي حيث اعتبر السياق في قوله تعالى:{إِنَّمَا جَزَٰٓؤُاْ ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَيَسۡعَوۡنَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوٓاْ أَوۡ يُصَلَّبُوٓاْ أَوۡ تُقَطَّعَ أَيۡدِيهِمۡ وَأَرۡجُلُهُم مِّنۡ خِلَٰفٍ أَوۡ يُنفَوۡاْ مِنَ ٱلۡأَرۡضِۚ ذَٰلِكَ لَهُمۡ خِزۡيٞ فِي ٱلدُّنۡيَاۖ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } ([71]) وضعّف قول من قال: إنها نزلت في المشركين، فقد أخرج أبو داود والنَّسَائِي عن ابن عبَّاسٍ – رضي الله عنه – قال: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ … ) الآية. نزلت هذه الآية في المشركين فمن تاب منهم قبل أن يقدر عليه لم يمنعه ذلك أن يقام فيه الحد الذي أصابه.واستدل لتضعيف هذا القول بقوله تعالى: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) ثم قال: قال. أبو ثور محتجاً لهذا القول: وفي الآية دليل على أنها نزلت فى غير أهل الشرك وهو قوله جل ثناؤه: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ). اهـ وهذه الآية تتلو آية الحرابة مباشرة.
- شيخ الإسلام ابن تيمية: فقد قال: (فمن تدبر القرآن، وتدبر ما قبل الآية، وما بعدها، وعرف مقصود القرآن تبين له المراد، وعرف الهدى والرسالة وعرف السداد من الانحراف والاعوجاج). [72]
خاتمة
وإن المتابع للتأويل الروحاني الباطني المعاصر للقرآن الكريم، يمكنه أن يلاحظ الارتباط الواضح بينه وبين أنواع أخرى من التأويل المنحرف مثل التأويل الباطني وبعض التأويلات البدعية من التفسير الإشاري الصوفي، وتلفيق بعض المفاهيم المخالفة للعقيدة الإسلامية والمقتبسة من ثقافات وثنية شرقية، أو مفاهيم حداثية وروحانية تخالف قواعد التأويل المتعارف عليها عند أئمة التفسير والأصول، وإن مآلات هذا النوع من التأويل خطيرة إن لم يتم تداركها والتصدي لها، حيث تؤول إلى الاستغناء عن الوحي بتفريغه من معانيه وروحه ولي أعناق الآيات لتحميلها مفاهيم دخيلة مغلوطة وتسور علم التفسير والتأويل دون استخدام قواعده وأدواته التي اتفق عليها علماء السلف والخلف في الأمة، كما تؤول إلى هتك المقدس وتقديس المدنس بما يسمى لدى بعض من يتبنى هذا الاتجاه بـنسف الموروث، عن طريق فوضى التأويل وإلباس النصوص أفكار ما يسمى بالأساتذة الروحانيين المعاصرين في الشرق والغرب.
وذلك الأمر يقتضي من أصحاب الاختصاص في مجالي العقيدة والتفسير استفراغ الوسع والجهد للتصدي لهذا النوع من التأويل. وإن كانت هناك محاولات مشكورة من بعض المختصين في العقيدة، فلا زالت جهود المختصين في التفسير وأصول الفقه نادرة في هذا المجال، وقد جاءت هذه الدراسة في مجال التفسير وعلوم القرآن محاولة من الباحثة للتوعية بأخطاء وأخطار التأويل الروحاني المعاصر للقرآن الكريم، وإضافة للمتخصصين في مجال مواجهة التأويلات المنحرفة للقرآن الكريم.
ورقة بحثية مقدمة للمؤتمر العالمي السابع للتراث النبوي سوان 2020 (محور : الروحانية Spirituality ) بمشاركة :د. محيي الدين هاشم أستاذ في جامعة العلوم الإسلامية كلية القرآن والسنة – ماليزيا5>