لقد كان للنبي عليه الصلاة والسلام الحظُّ الأوفر من الرحمة، وقد ورد ذلك في عدد من الآيات، منها:

1- قال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } [الأنبياء: 107]. قال ابن كثير رحمه الله: وقوله تعالى: (يُخبر تعالى أن الله جعل محمدًا رحمة للعالمين، أي: أرسله رحمة لهم كلهم، فمن قبل هذه الرحمة وشكر هذه النعمة، سعد في الدنيا والآخرة، ومن ردها وجحدها خسر في الدنيا والآخرة؛ كما قال تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ } [ إبراهيم: 28، 29 ]، وقال الله تعالى في صفة القرآن: ﴿ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ﴾، [فصلت: 44]؛ اهـ.

قلت: وما ذهب إليه ابنُ كثير رحمه الله هو قول كثير من المفسرين إلا أن العلامة الفخر الرازي رحمه الله له تفصيلات مهمة حول الآية الكريمة؛ حيث يقول: قوله تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [الأنبياء: 107]، فيه مسائل:

إن النبي كان رحمة في الدين وفي الدنيا:

  • أما في الدين، فلأنه عليه السلام بعث والناس في جاهلية وضلالة، وأهل الكتابين كانوا في حيرة من أمر دينهم؛ لطول مُكثهم وانقطاع تواترهم، ووقوع الاختلاف في كتبهم، فبعث الله تعالى محمدًا – – حين لم يكن لطالب الحق سبيل إلى الفوز والثواب، فدعاهم إلى الحق، وبيَّن لهم سبيل الثواب، وشرَع لهم الأحكام، وميَّز الحلال من الحرام، ثم إنما ينتفع بهذه الرحمة من كانت هِمته طلب الحق، فلا يركن إلى التقليد ولا إلى العناد والاستكبار، وكان التوفيق قرينًا له؛ قال الله تعالى: { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } [فصلت: 44].

وأما في الدنيا، فلأنهم تخلَّصوا بسببه من كثيرٍ من الذل والقتال والحروب، ونُصروا ببركة دينه، فإن قيل: كيف كان رحمة وقد جاء بالسيف واستباحة الأموال؟

قلنا: الجواب من وجوه:

  • أحدها: إنما جاء بالسيف لمن استكبر وعاند، ولم يتفكَّر ولم يتدبر، ومن أوصاف الله الرحمن الرحيم، ثم هو منتقم من العصاة، وقال: { وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا } [ق: 9]، ثم قد يكون سببًا للفساد.
  • وثانيها: أن كل نبي قبل نبينا كان إذا كذبه قومه أهلك الله المكذبين بالخسف والمسخ والغرق، وأنه تعالى أخَّر عذاب من كذب رسولنا إلى الموت أو إلى القيامة؛ قال تعالى: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ﴾ [الأنفال: 33]، لا يقال: أليس أنه تعالى قال: ﴿ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ } [التوبة: 14]، وقال تعالى: { لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ} [الأحزاب: 73]؛ لأنا نقول: تخصيص العام لا يقدح فيه.
  • وثالثها: أنه عليه السلام كان في نهاية حسن الخلق؛ قال تعالى: { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ } [القلم: 4]، وقال أبو هريرة رضي الله عنه: قيل لرسول الله – – ادعُ على المشركين، قال: إنما بُعثت رحمة ولم أبعث عذابًا، وقال في رواية حذيفة: إنما أنا بشرٌ أغضب كما يغضَب البشر، فأيما رجل سببته أو لعَنته، فاجعلها اللهم عليه صلاة يوم القيامة)؛ ا هـ.

وتأمَّل ذلك الموقف البديع لنبي الرحمة ، وقد كذبه أهل الطائف، وآذوه أذًى بالغًا، وهو إنما كان يدعوهم إلى أن يوحِّدوا الله، ولا يريد منهم شيئًا سواه، ففي الحديث أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ ، قَالَتْ لِلنَّبِيِّ : هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ قَالَ: (لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ!! وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ؛ إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ!! فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ، فَسَلَّمَ عَلَيَّ ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ، وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ؛ فَمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمْ الْأَخْشَبَيْنِ!! فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ : بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا)؛ رواه البخاري (3231)، ومسلم (1795).

وقد بيَّن العلامة ابن القيم رحمه الله في جلاء الأفهام كيف بلغت رحمته العالمين؛ حيث يقول: (إنَّ عموم العالمين حصل لهم النفع برسالته:

أما أتباعه: فنالوا بها كرامة الدنيا والآخرة.

وأما أعداؤه المحاربون له، فالذين عجَّل قتْلهم، وموتهم خير لهم من حياتهم؛ لأن حياتهم زيادة في تغليظ العذاب عليهم في الدار الآخرة، وهم قد كتب الله عليهم الشقاء، فتعجيل موتهم خير لهم من طول أعمارهم، وأما المعاهدون له، فعاشوا في الدنيا تحت ظله وعهده وذمَّته، وهم أقل شرًّا بذلك العهد من المحاربين له.

وأما المنافقون، فحصل لهم بإظهار الإيمان به حقنُ دمائهم وأموالهم وأهليهم واحترامها، وجريان أحكام المسلمين عليهم في التوراة وغيرها، وأما الأمم النائية عنه، فإن الله رفع برسالته العذاب العام عن أهل الأرض، فأصاب كل العاملين النفع برسالته)؛ ا هـ.

وقال بعض أهل العلم: إِذَا تَأَمَّل العبدُ النَّفْع الْحَاصِل لَهُ مِنْ جِهَة الرَّسُول الَّذِي أَخْرَجَهُ الله به مِنْ ظُلُمَات الْكُفْر إِلَى نُور الْإِيمَان، عَلِمَ أَنَّهُ سَبَب بَقَاء نَفْسه الْبَقَاء الأَبَدِي فِي النَّعِيم السَّرْمَدِي، وَعَلِمَ أَنَّ نَفْعه بِذَلِكَ أَعْظَم مِنْ جَمِيع وُجُوه الانْتِفَاعَات، فَاسْتَحَقَّ لِذَلِكَ أَنْ يَكُون حَظّه مِنْ مَحَبَّته أَوْفَر مِنْ غَيْره، وَلَكِنَّ النَّاس يَتَفَاوَتُونَ فِي ذَلِكَ بِحَسَبِ اِسْتِحْضَار ذَلِكَ وَالْغَفْلَة عَنْهُ، وكلّ مَنْ آمَنَ بِالنَّبِيِّ إِيمَانًا صَحِيحًا لا يَخْلُو عَنْ وِجْدَان شَيْء مِنْ تِلْكَ الْمَحَبَّة الرَّاجِحَة، غَيْر أَنَّهُمْ مُتَفَاوِتُونَ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَ مِنْ تِلْكَ الْمَرْتَبَة بِالْحَظِّ الأَوْفَى، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَ مِنْهَا بِالْحَظِّ الْأَدْنَى، كَمَنْ كَانَ مُسْتَغْرِقًا فِي الشَّهَوَات مَحْجُوبًا فِي الْغَفَلات فِي أَكْثَر الأَوْقَات، لَكِنَّ الْكَثِير مِنْهُمْ إِذَا ذُكِرَ النَّبِيّ اِشْتَاقَ إِلَى رُؤْيَته، بِحَيْثُ يُؤْثِرهَا عَلَى أَهْله وَوَلَده وَمَاله وَوَالِده، غَيْر أَنَّ ذَلِكَ سَرِيع الزَّوَال بِتَوَالِي الْغَفَلَات، وَاَللَّه الْمُسْتَعَان)[1].

2- قوله تعالى: { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } [التوبة: 128].

ونحن سنتحدث عن الشاهد في الآية فيما يتعلق برحمته قوله تعالى في ختامها { بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ }؛ لأن الكلام على الآية كاملة يطول ويخرجنا عما نحن فيه.

قال في التفسير الوسيط: قوله: بالمؤمنين رؤوف رحيم؛ أي: شديد الرأفة والرحمة بكم – أيها المؤمنون – والرأفة عبارة عن السعي في إزالة الضرر، والرحمة عبارة عن السعي في إيصال النفع، فهو يسعى بشدة في إيصال الخير والنفع للمؤمنين، وفي إزالة كل مكروه عنهم.

3- قول الله عز وجل: { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } [الأحزاب: 6]. قال ابن كثير رحمه الله: (قد علِم الله شفقة رسوله على أمته، ونصحه لهم، فجعله أَولى بهم من أنفسهم، وحكمه فيهم مقدمٌ على اختيارهم).

وقال الشيخ ابن سعدي رحمه الله: (يُخبر تعالى المؤمنين خبرًا يعرفون به حالة الرسول ، ومرتبته، فيعاملونه بمقتضى تلك الحالة، فقال: { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } : أقرب ما للإنسان، وأولى ما له نفسه، فالرسول أَولى به من نفسه؛ لأنه عليه الصلاة والسلام بذل لهم من النصح والشفقة والرأفة، ما كان به أرحم الخلق وأرأفهم، فرسول الله أعظم الخلق منة عليهم من كل أحد، فإنه لم يصل إليهم مثقال ذرة من خير، ولا اندفع عنهم مثقال ذرة من الشر، إلا على يديه وبسببه، فلذلك وجب عليه أنه إذا تعارض مراد النفس، أو مراد أحد من الناس مع مراد الرسول أن يقدم مراد الرسول ، وألا يعارض قول الرسول بقول أحد كائنًا من كان، وأن يفدوه بأنفسهم وأموالهم وأولادهم، ويقدموا محبته على محبة الخلق كلهم، وألا يقولوا حتى يقول، ولا يقدموا بين يديه)؛ ا هـ.

وحاصل ما ذكره أهل العلم في بيان ذلك أن غضب الله والنار هما أعظم مرهوب للعبد، ولا نجاة منها إلا على يد الرسول ، ورضا الله والجنة هما أعظم مطلوبه، ولا فوز بهما إلا على يد الرسول .

وأما الأحاديث النبوية الشريفة، فمنها:

1- عن أبي هريرة قال: قيل: يا رسول الله، ادع على المشركين، قال: (إني لم أُبعث لعَّانًا، وإنما بُعثت رحمة)؛ انفرد بإخراجه مسلم.

2- عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله : (مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَوْقَدَ نَارًا، فَجَعَلَ الْجَنَادِبُ وَالْفَرَاشُ يَقَعْنَ فِيهَا وَهُوَ يَذُبُّهُنَّ عَنْهَا، وَأَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ عَنْ النَّارِ، وَأَنْتُمْ تَفَلَّتُونَ مِنْ يَدِي)؛ رواه مسلم 2285 من حديث جابر، ونحوه في البخاري 3427.

الفَراش: َقَالَ الْخَلِيل: هُوَ الَّذِي يَطِيرُ كَالْبَعُوضِ، وَأَمَّا (الْجَنَادِب)، فَجَمْع جُنْدُب، وَالْجَنَادِب هَذَا الصِّرَار الَّذِي يُشْبِهُ الْجَرَاد، أَمَّا (التَّقَحُّم)، فَهُوَ الإِقْدَامُ وَالْوُقُوعُ فِي الأُمُور الشَّاقَّة مِنْ غَيْر تَثَبُّت، وَ(الْحُجَز) جَمْع حُجْزَة وَهِيَ مَعْقِد الإِزَار وَالسَّرَاوِيل.

وَمَقْصُود الْحَدِيث أَنَّهُ شَبَّهَ تَسَاقُط الْجَاهِلِينَ وَالْمُخَالِفِينَ بِمَعَاصِيهِمْ وَشَهَوَاتهمْ فِي نَار الآخِرَة، وَحِرْصهمْ عَلَى الْوُقُوع فِي ذَلِكَ، مَعَ مَنْعه إِيَّاهُمْ، وَقَبْضه عَلَى مَوَاضِع الْمَنْع مِنْهُمْ، بِتَسَاقُطِ الْفِرَاش فِي نَار الدُّنْيَا، لِهَوَاهُ وَضَعْف تَمْيِيزه، وَكِلاهُمَا حَرِيصٌ عَلَى هَلَاكِ نَفْسه، سَاعٍ فِي ذَلِكَ لِجَهْلِهِ)؛ شرح مسلم للنووي.

3- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي : (كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ أَبَى، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ يَأْبَى، قَالَ: مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى)؛ رواه البخاري 7280.

4- وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي تلا قول الله عز وجل في إبراهيم: { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي } [إبراهيم: 36]، وقال عيسى عليه السلام: { إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [المائدة: 118]، فرفع يديه وقال: اللهم أمتي أمتي وبكى، فقال الله عز وجل: يا جبريل، اذهَب إلى محمد – وربك أعلم – فسله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل عليه السلام، فسأله فأخبره رسول الله بما قال – وهو أعلم – فقال الله: (يا جبريل، اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نَسوءك)؛ رواه مسلم.

ويقول دكتور محمد حسن قسام: أما كون النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يُوصف مرة بأنه رحمة للعالمين، وأخرى بأنه رحمة للذين آمنوا، فلأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم رحمة عامة ورحمة خاصة، أما الرحمة العامة فهي للعالمين، وأما الخاصة فهي للمؤمنين، فالمؤمنون داخلون إذًا في رحمة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لهم مرتين.

ولكن لا بد أن نتأمل معنى “العالمين” لندرك مدى عمومية رحمة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فالعالمين جمع عالم، وهذا يعني أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليس رحمة لعالم واحد وهو عالم البشر، بل هو رحمة لكل العوالم، وإنما استنبطنا أنه رحمة للكل من كون العالمين جمعًا وقد دخلت عليه لام الاستغراق والجمع ولام الاستغراق من ألفاظ العموم، فنستنبط من هذا أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم رحمة لكل عالم يَصدُق عليه لفظُ عالم، فهو رحمة لعالم الإنس ورحمة لعالم الجن ورحمة لعالم الملائكة، ورحمة لعالم الحيوان ورحمة لعالم النبات، وغيرها من العوالم، وهذا لا مبالغة فيه، وليس إشارة غامضة، بل هو صريحُ نصٍّ قرآني، فليت شعري ماذا يقول من يتهمنا بالزيادة في تعظيم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟ ماذا يقول عما يدل عليه هذا النص القرآني؟

حقًّا إن ما في هذه الآية هو قمة تعظيم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والبيان الواضح في مدى عُلو قدره ؛ لأنه يوضح أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد بلغ في صفة الرحمة العظيمة منتهاها، فكان رحمة لكل العوالم عمومًا ورحمة للمؤمنين خصوصًا.

وأما وصفه صلى الله عليه وعلى آله وسلم بأنه رحيم، فلقد ورد في قوله تعالى: ﴿ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾ [التوبة: 129]، وقد تقدم تفسير بعضها وسيأتي تفسير باقيها في الفصل التالي إن شاء الله تعالى.

ولدى التأمل في وصف “رحيم” نجد أنه جاء مشتقًّا على وزن “فعيل”، وهو أحد صيغ المبالغة، ويفيد الوصف بصفة من أمثلة المبالغة شيئين رئيسين: هما المبالغة والتكرار، فوصف الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم بصفة رحيم؛ يعني أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد بلغ منتهى صفة الرحمة وأعلى درجاتها، وكذا يعني أنها هي الصفة الغالبة عليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم في كل أحواله، ولقد استنبطنا كونها الصفة الغالبة عليه من كون صيغة المبالغة تفيد التكرار، وهذا يعني أن الرحمة تتكرر منه صلى الله عليه وعلى آله وسلم كثيرًا، وهذا يعني بالتالي أنها الصفة الغالبة عليه في أحوله وأخلاقه صلى الله عليه وعلى آله وسلم[2].

يقول الشيخ زيد بن مسفر البحري[3]: قال تعالى في وصف النبي في مقام الرسالة: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107]، انظروا: (لِلْعَالَمِينَ)، ما العالَم؟ كل ما سوى الله من الإنس والجن والطير والبهائم والحشرات.

كيف تكون النبوة رحمة حتى بالبهائم؟ أوَما علمت حديث النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (دخلت امرأة النار في هرة: حبَستها لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض).

ونهى النبي عليه الصلاة والسلام أن تُصَبَّر البهائم؛ أي: تحبس ثم تُرمى بالنبل؛ لأن هذا من باب التعذيب لها، ولذا فالإسلام سبق الأمم كلها في الرحمة بالحيوان؛ لما رأى النبي عليه الصلاة والسلام بعيرًا قد ضمر بطنه، فإذا به عليه الصلاة والسلام يأتي إليه، وإذا بهذا البعير يبكي؟ فقال: من صاحب هذا البعير؟ قالوا: إنه لغلام قال: إنه يشكو إليَّ أنه يُجيعه ويُكلفه[4].

وهو عليه الصلاة والسلام لما رأى أناسًا يركبون على ظهور دوابهم بالساعات الطوال، قال: (اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة، فاركبوها صالحة وكلوها صالحة).

ولا تعجب أن تكون النبوة رحمة حتى بالكفار تكون رحمة بالكفار، ولذا فالكافر يدخل ضمن العالمين: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107].

النبي عليه الصلاة والسلام ضرب أروع أمثلة الرحمة حتى مع أعدائه في شدة الحرب؟ ماذا كان يقول عليه الصلاة والسلام؟ قال – كما عند مسلم -: (لا تقتلوا وليدًا)، نهى عن قتل النساء والأطفال من العدو، أليست هذه رحمة بالكفار؟ بلى قال عليه الصلاة والسلام: (لا تُمثلوا)، بمعنى: أنه لا يُؤتى إلى كافر بعد ما قُتل ويُجدع أنفُه، أو تُقطَع أُذنُه، أو يُشوَّه، نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن ذلك كله بمن؟ بالكفار، فهي رحمة من الله.

والصور متعددة: لكن الإنسان عند التأمل يجد أنواعًا وأطرافًا من رحمة الله بهم أن جعل لهم هذه النبوة، ولذا قال تعالى: { وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [القصص: 47].

{ وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى } [طه: 134]، فجاء النبي لكي يُدحض حجتهم وقولهم.