يسعى الإسلام لكي يبذل أبناؤه أقصى ما يقدرون عليه من جهد في عباداتهم ومعاملاتهم وسائر حياتهم، ويجمع ذلك كله قوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: 16]. وما بلغت الحضارة الإسلامية هذا المستوى غير المسبوق في التاريخ الإنساني خلال هذه المدة الزمنية القصيرة، إلا لسعي أصحابها الدؤوب وعملهم الجاد واجتهادهم بأقصى ما يمكنهم، وكل ذلك يأتي بعد كونهم على المنهج الرباني ما استطاعوا.
ولئن اقتصر مفهوم الاجتهاد عند الفقهاء على بذل أقصى الجهد للوصول للحكم الشرعي، فإن هذا المفهوم يسري – كما قدمنا – في أرجاء الحياة الظاهرة والباطنة والخاصة والعامة؛ فالمسلم يجتهد في تطهير قلبه وإصلاح علاقاته بربه وبالناس من حوله وفي تطوير نفسه وفي تعمير الكون.
ونختار من بين مجالات الاجتهاد – الذي يجب أن يكون ديدن المؤمن – الاجتهاد الفقهي، الذي لم يكن يوماً ترفاً فكرياً يتسلى المجتهدون به في أوقات فراغهم، بل هو دوماً حاجة ماسة وتعبير دقيق عن صلاحية الشريعة وإصلاحها لكل زمان ومكان، ودليل على خصوبة العقلية التي تربت على مائدة القرآن والسنة واتبعت منهج التدبر في القرآن والتفكر في الكون. والغاية من الاجتهاد أن تكون التوجيهات الإلهية في شؤون النفس والمجتمع والكون معروفة للناس مطبقة بينهم.
التربية النبوية على الاجتهاد
وسعياً من النبي – ﷺ – لتكوين المسلم المجتهد، سأل أبا بكر وعمر عن التصرف الملائم مع أسرى غزوة بدر، قائلاً: «مَا تَرَوْنَ فِي هَؤُلَاءِ الْأُسَارَى؟»[1].
وكونه ﷺ نبياً يوحى إليه وقائداً للجيش، يخوله من اتخاذ القرار في الأسرى دون الرجوع لأصحابه، ولكنه ﷺ فتح لهم باب الاجتهاد في هذا الأمر الذي له تعلق بالدين من ناحية وتعلق بالدنيا من ناحية أخرى؛ لكي يتدربوا على بذل أقصى ما يمكنهم من جهد عقلي للوصول إلى أقرب الآراء للصحة.
إن اجتهاد الصحابة بين يديه ﷺ قد يكون صواباً وقد يستحق التعديل، والمنفعة من ذلك أن تتكون لديهم الملكة التي يجتهدون بها في أمر دينهم ودنياهم، حتى إذا ما فارق النبي – ﷺ – الدنيا تمكنوا من السير على منهاج النبوة.
نماذج من اجتهاد الصحابة في حياة النبي ﷺ
في السيرة النبوية العديد من الوقائع التي تثبت فقه الصحابة واجتهادهم – رضي الله عنهم – في حياة النبي – ﷺ – سواء كان هذا الاجتهاد في حضوره – ﷺ – معهم، أو كانوا هم بعيدين عنه – ﷺ – ثم يعودون إليه لكي يحكم بصواب هذا الاجتهاد أو خطأه.
قال ابن الجوزي:
«كَانَ يُفْتِي فِي حَيَاة رَسُول الله ﷺ أَرْبَعَة عشر من أَصْحَابه: أَبُو بكر، وَعمر، وَعُثْمَان، وَعلي، وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَابْن مَسْعُود، وعمار بن يَاسر، وَأبي بن كَعْب، ومعاذ بن جبل، وَحُذَيْفَة، وَزيد بن ثَابت، وَأَبُو الدَّرْدَاء، وسلمان، وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ. وَلِهَذَا لما قَالَ ذَلِك الرجل[2] لرَسُول الله ﷺ: وَسَأَلت رجَالاً من أهل الْعلم فَأَخْبرُونِي أَن على ابْني جلد مائَة، لم يُنكر عَلَيْهِ رَسُول الله ﷺ فَتْوَى غَيره فِي زَمَانه، لِأَنَّهَا عَن الرَّسُول صدرت، وَعَن تَعْلِيمه أُخذت»[3].
ولئن مر بنا أن النبي – ﷺ – كان يدعوهم إلى الاجتهاد فيما يعرض للأمة بأسرها، فقد اكتسبوا الجرأة مع التزامهم حدود الأدب في الاجتهاد بين يديه ﷺ. بل نلحظ هذه الجرأة البالغة في قول الصديق رضي الله عنه: «كَلَّا، لَا يُعْطِهِ أُصَيْبِغَ [رجل ضعيف] مِنْ قُرَيْشٍ وَيَدَعَ أَسَدًا مِنْ أُسْدِ اللَّهِ، يُقَاتِلُ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﷺ. قَالَ: فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَأَدَّاهُ إِلَيَّ»[4]. فقد قَبِل النبي – ﷺ – اجتهاد أبي بكر واستجاب له حين سلم المال لمن قضى له أبو بكر.
قصة الأذان واجتهاد الصحابة
بل إنهم ليقدمون اجتهاداتهم للنبي ﷺ قبل أن يطلبها، ففي شأن الصلاة وهي خير موضوع والإعلام بدخول وقتها شعيرة من شعائر الإسلام، روى أبو داود في سننه قَالَ:
«اهْتَمَّ النَّبِيُّ ﷺ لِلصَّلَاةِ كَيْفَ يَجْمَعُ النَّاسَ لَهَا، فَقِيلَ لَهُ: انْصِبْ رَايَةً عِنْدَ حُضُورِ الصَّلَاةِ فَإِذَا رَأَوْهَا آذَنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَلَمْ يُعْجِبْهُ ذَلِكَ. قَالَ: فَذُكِرَ لَهُ الْقُنْعُ، يَعْنِي الشَّبُّورَ وَقَالَ زِيَادٌ: شَبُّورُ الْيَهُودِ [البوق]، فَلَمْ يُعْجِبْهُ ذَلِكَ، وَقَالَ: هُوَ مِنْ أَمْرِ الْيَهُودِ. قَالَ: فَذُكِرَ لَهُ النَّاقُوسُ [خشبة طويلة تضرب بخشبة قصيرة أما الآن فهو الجرس المعروف]، فَقَالَ: هُوَ مِنْ أَمْرِ النَّصَارَى. فَانْصَرَفَ عَبْدُ اللهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ وَهُوَ مُهْتَمٌّ لِهَمِّ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَأُرِيَ الْأَذَانَ فِي مَنَامِهِ، قَالَ: فَغَدَا عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي لَبَيْنَ نَائِمٍ وَيَقْظَانَ إِذْ أَتَانِي آتٍ فَأَرَانِي الْأَذَانَ. قَالَ: وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَدْ رَآهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَكَتَمَهُ عِشْرِينَ يَوْمًا، قَالَ: ثُمَّ أَخْبَرَ النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَ لَهُ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تُخْبِرَنِي؟ فَقَالَ: سَبَقَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ زَيْدٍ فَاسْتَحْيَيْتُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: يَا بِلَالُ، قُمْ فَانْظُرْ مَا يَأْمُرُكَ بِهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ زَيْدٍ فَافْعَلْهُ».
نرى اجتهاد الصحابة في شأن إعلام الناس بدخول وقت الصلاة لم يعجب النبي ﷺ، ومع ذلك لم يمنع رفض النبي – ﷺ – لهذا الاجتهاد من تقديم اجتهاد ثانٍ وثالث حتى أراهم الله تعالى الأذان.
اجتهاد الصحابة وهم بعيدون عن النبي ﷺ (إدراك المقاصد)
تكشف لنا اجتهادات أصحاب النبي ﷺ عن مدى إدراكهم لـ مقاصد الشريعةوقيم الإسلام العليا، ومن ذلك ما فهمه عمرو بن العاص – رضي الله عنه – من أن حفظ النفس له مقام رفيع في الشريعة الإسلامية.
عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ أَمَّرَهُ عَلَى جَيْشِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ، وَفِي الْجَيْشِ نَفَرٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَالْأَنْصَارِ، وَفِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، فَاحْتَلَمَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فِي لَيْلَةٍ شَدِيدَةِ الْبَرْدِ، فَأَشْفَقَ أَنْ يَمُوتَ إِنِ اغْتَسَلَ؛ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ أَمَّ أَصْحَابَهُ. فَلَمَّا قَدِمَ تَقَدَّمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، فَشَكَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ حَتَّى قَالَ: “وَأَمَّنَا جُنُبًا”، فَأَعْرَضَ رَسُولُ اللهِ ﷺ عَنْ عُمَرَ. فَلَمَّا قَدِمَ عَمْرٌو دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَجَعَلَ يُخْبِرُ بِمَا صَنَعَ فِي غَزَاتِهِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَصَلَّيْتَ جُنُبًا يَا عَمْرُو؟». فَقَالَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ، أَصَابَنِي احْتِلَامٌ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ لَمْ يَمُرَّ عَلَى وَجْهِي مِثْلُهَا قَطُّ، فَخَيَّرْتُ نَفْسِي بَيْنَ أَنْ أَغْتَسِلَ فَأَمُوتَ، أَوْ أَقْبَلَ رُخْصَةَ اللهِ عز وجل، فَقَبِلْتُ رُخْصَةَ اللهِ عز وجل، وَعَلِمْتُ أَنَّ اللهَ عز وجل أَرْحَمُ بِي، فَتَوَضَّأْتُ ثُمَّ صَلَّيْتُ[5].
أدرك عمرو أن الله تعالى أرحم بعباده فلا يكلفهم ما يهلكهم، وعلى العباد أن يتقوا الله تعالى ما استطاعوا، وقد أثنى النبي ﷺ على اجتهاد عمرو رضي الله عنه بقوله: «أَحْسَنْتَ، مَا أُحِبُّ أَنَّكَ تَرَكْتَ شَيْئًا صَنَعْتَهُ، لَوْ كُنْتُ فِي الْقَوْمِ لَصَنَعْتُ كَمَا صَنَعْتَ»[6].
شروط وأدوات الاجتهاد
لابد من توافر أدوات الاجتهاد؛ فلا يمكن لإنسان أن يجتهد في إصلاح عطل كهربائي دون سابق معرفة بالدوائر الكهربائية والتوصيلات والسمك المناسب لكل سلك يسري فيه التيار؛ لأن كل خطأ مهما كان صغيراً يترتب عليه ضرر محقق أو وفاة سريعة وهو ما يحذره كل عاقل.
وإذا قسنا الخطر الذي ينتج من التعامل مع الدوائر الكهربائية بدون علم، بالخطر الذي ينتج عن التعامل مع النصوص الشرعية بلا علم، أدركنا كم يهلك الإنسان نفسه حين يقتحم لجة بحر لا يعلم كيف يخوضه. ومن عجب أن تجد من يعجز عن قراءة كلمة بشكل صحيح فلا يفرق بين كلمة “جَمَعَه” أي قام بجمعه، و”جُمُعَة” الذي هو أحد أسماء أيام الأسبوع ويتسمى به الإنسان كذلك، ثم يقف مجتهداً في مسائل دقيقة يتوقف فيها كبار العلماء.
بين المتخوفين وأهل الجرأة في الفتوى
قد يدفع الخوف من الله أو من العلماء أو حتى العامة من إطلاق حكم في مسألة جديدة لم يسبق البحث فيها؛ تقديراً لخوف الناس من الإقدام على حكم لم يسمعوا به، وتخوفاً من الاتهام بالابتداع أو اتقاء لموقف الحساب بين يدي رب العالمين. وفي المقابل، تجد من يملك جرأة كبيرة وجهلاً أكبر وعدم تقدير للعواقب أو عدم مبالاة بها، من يطلق الأحكام في أخطر المسائل التي تتعلق بالدماء والأعراض والتكفير والتفسيق والتبديع.
والحق أقول، أن الخوف من الله تعالى يقتضي من العالم ألا ينطق بحكم شرعي قديم أو جديد دون أن يجري البحث اللازم في المسألة، وأن يبذل جهده في تحرير المسألة مما يشتبه بها، وفي تتبع أقوال العلماء فيها وفي العودة للنصوص الشرعية وإجراء القواعد العلمية للاستنباط، كل ذلك يحيط به تقوى الله وسؤال التوفيق. وقد دعا النبي ﷺ إلى الاجتهاد حين بيّن أن المصيب له أجران والمخطئ له أجر.
ضوابط قبول الاجتهاد
ومن الأمور التي تطمئن المتخوفين من فتح باب الاجتهاد لمن توافرت فيه الشروط، أن اجتهاد عالم مهما بلغت منزلته في العلم يتعرض للنقاش والأخذ والرد والقبول والرفض. وها هي اجتهادات أئمة المذاهب الفقهية تناقش من قبل أتباع المدرسة قبل غيرهم، بل ترفض من التلامذة الذين تلقوا العلم عن هذا الإمام الكبير دون أن ينتقصوا من اجتهاده. وثانياً، لا يتجاوز الاجتهاد مرتبة العمل العقلي الذي تتوافر فيه الشروط للتعامل مع النص الشرعي، ولا يمكن أن يحل محل النص القرآني أو النبوي.
وحتى يكون لهذا الاجتهاد منزلته لا بد أن يتدارسه علماء العصر ويقدموا مبررات لقبوله أو رفضه، ويبقى اجتهاداً مقدراً إذا تم على وفق الضوابط العلمية؛ قد لا يأخذ به علماء عصره وقد تتجدد الحاجة إليه في العصور التالية. وربما يكون أحد الأمور التي نقلل بها العجز – الذي هو صفة البشر – أن ينتقل الاجتهاد من الفردية إلى الجماعية في عصر تتشابك فيه المسائل، بل تتعقد وتحتاج كل مسألة إلى العديد من التخصصات لكي تتضح الصورة، فالحكم على الشيء فرع عن تصوره.
