يعد الفقه في عصر الصحابة هو الطور الثاني من أطوار الفقه الإسلامي بعد عصر الرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ( طور التأسيس والنمو) وقد كان الطور الأول له خصائص كلها تتعلق بشخص النبي صلى الله عليه وسلم أولا، ولأنه عصر الوحي والتنزيل ثانيا.

وقد يتصور البعض بأن الصحابة كلهم كانوا فقهاء مجتهدين، وهذا تصور خاطئ عن عصر الصحابة – رضوان الله عليهم-، فالمجتمع المسلم الأول لم يكن أهله من الصحابة متفرغين لطلب العلم والاجتهاد الفقهي، لا في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا عصر الراشدين، فغالب الصحابة لم يدرجوا في طبقة العلماء الفقهاء، لكنهم كانوا – في الغالب الأعم- متدينين صالحين، يميلون إلى تطبيق الإسلام في حياتهم، أكثر من انشغالهم بطلب العلم، ولا يعني هذا أنهم لم يكونوا يهتمون بطلب العلم، بل كانوا يفعلون ذلك، ولكن ليس على سبيل الغلبة، وقد كانت هذه السمة المنهجية مستاقة من القرآن الكريم الذي لم يطلب من المجتمع المسلم أن يتفرغوا جميعا لطلب العلم، بل كانوا يتعلمون (الضروري من الدين)، وكان منهم مجموعة علت همتها وتفرغت لأن يكونوا علماء، وهذا ما عناه القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122].

ومما يدل على عناية الصحابة بالعمل مع العلم القليل أنهم – رغم حبهم للقرآن الكريم، فقد كانوا يكتفون  منه بالآيات القليلة يتعلمونها ولا يطلبون غيرها حتى يعملوا بها، كما ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه قوله: ” كنا إذا تعلمنا من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عشر آيات لم نتجاوز التي بعدها حتى نعلم ما نزلت في هذه. قيل لشريك: والعمل؟ قال: نعم”. رواه أبو يعلى. قال ابن حجر: صحيح الإسناد. [1].

وقد أبان عن ذلك ابن القيم، حين قال: ” والذين حفظت عنهم الفتوى من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مائة ونيف وثلاثون نفسا، ما بين رجل وامرأة، وكان المكثرون منهم سبعة: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعائشة أم المؤمنين، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر”[2]. ثم عدد المتوسطين والمقلين.

اجتهاد الصحابة زمن الرسول:

على أن العناية من بعض الصحابة بالفقه والاجتهاد ظهرت في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدرب بعض أصحابه على الاجتهاد، كما كان يفعل مع أبي بكر وعمر وعلي وعمرو بن العاص وغيرهم.

وكما كانوا يجتهدون في فهم نصوص النبي صلى الله عليه وسلم حين اختلفوا في أمره حين أمرهم بصلاة العصر في بني قريظة، ” فقال بعضهم: لا نصلي إلا في بني قريظة، وإن خرج وقتها، لقول النبي – صلى الله عليه وسلم – «لا تصلوا العصر إلا بها» ، وقال بعضهم: إنما أمرنا بذلك لتعجيل المصير إليها، من غير ترخيص منه في تركها إلى خروج وقتها. ففعل كل فريق منهم ما رأى، ثم ذكروا ذلك للنبي – صلى الله عليه وسلم – فأظهر تصويب الجميع، إذ كانوا فعلوه باجتهاد آرائهم” [3]. وكان هذا بداية ظهور مدرستين في الاجتهاد، الأولى: مدرسة أهل الحديث والأثر وتغليب الأخذ بظاهر النص، والثانية: مدرسة الرأي والتأويل.

اجتهاد الصحابة بعد الرسول:

وكما كان النبي صلى الله عليه وسلم يدرب أصحابه على الاجتهاد الفقهي والاجتهاد في فهم النص، فإنه أمرهم بالاجتهاد من بعده، في الحوادث والنوازل والمسائل التي لن يجدوا فيها نصا صريحا،  كما ورد عن علي بن أبي طالب , قال: قلت: يا رسول الله: الأمر ينزل بنا بعدك لم ينزل فيه قرآن ولم يسمع منك فيه شيء؟ قال: «اجمعوا له العابدين من أمتي , واجعلوه شورى بينكم ولا تقضوه برأي واحد».

وفي الحديث إشارة من النبي صلى الله عليه وسلم لاعتماد أكثر من دليل من أدلة التشريع والاجتهاد، أولا القياس، كما ترجم له الخطيب البغدادي بـ (باب القول في الاحتجاج لصحيح القياس ولزوم العمل به)[4]. كما أن فيه إشارة لدليل ظهر في عصر الصحابة ولم يظهر في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو ( دليل الإجماع)، وإن كان دليل الإجماع من الأدلة النقلية المتفق عليها، لكنه ناشئ عن اجتهاد في عصره، فالإجماع بين الصحابة لم يكن يبدأ باتفاقهم على رأي، بل كان شورى يتداولون الآراء، ويختلفون فيها، ثم يتفقون على رأي بعد تبادل الآراء والشورى.

ولقد أعمل الصحابة اجتهادهم عقب وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة، حتى إنهم اجتهدوا في اختيار خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يدفنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها اجتهادهم في جمع القرآن زمن أبي بكر الصديق بمشورة عمر بن الخطاب– رضي الله عنهما.

مصادر الفقه في عصر الصحابة:

وقد اتسعت مصادر الفقه في عصر الصحابة رضوان الله عليهم، فبجوار الكتاب والسنة، ظهر عدد من الأدلة، من أهمها:

الإجماع:

و: “إجماع الصحابة حجة بلا خلاف بين القائلين بحجية الإجماع، وهم أحق الناس بذلك”[5].

ولهذا اختلفوا في إجماع من بعدهم، بعد اتفاقهم على إجماع الصحابة، وذلك: “لأن الإجماع إنما يكون عن توقيف، والصحابة هم الذين شهدوا التوقيف”[6].

ومن أمثلة الإجماع زمن الصحابة:

  1. توريث الجدة في حال غياب الأم.
  2.  الإجماع على وجوب تنصيب خليفة للمسلمين.
  3.  الإجماع على قتال مانعي الزكاة.
  4. الإجماع على تقديم قضاء دين الميت قبل نفوذ وصيته.
  5.  الإجماع على حرمة شحم الخنزير كلحمه.

ومن الكتب التي تعرف بمسائل الإجماع: مراتب الإجماع لابن حزم، والإجماع لابن المنذر، والإفصاح لابن هبيرة.

القياس:

” فالصحابة – رضي الله عنهم – مثلوا الوقائع بنظائرها، وشبهوها بأمثالها، وردوا بعضها إلى بعض في أحكامها، وفتحوا للعلماء باب الاجتهاد، ونهجوا لهم طريقه، وبينوا لهم سبيله”[7]. وقد ورد في كتاب عمر  بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري قوله: “اعْرِفِ الأشبَاهَ والأمثال، وقِسِ الأمور”[8].

ومن أمثلة القياس عندهم:

  1. قياس قتل الجماعة بالواحد على قطع الجماعة إذا اشتركوا في السرقة.
  2. قياس اختيار أبي بكر الصديق خليفة للرسول صلى الله عليه وسلم على تولية الرسول صلى الله عليه وسلم له إمامة الصلاة فيهم.
  3. قياس الصحابة في الجد مع الإخوة.

فتاوى الصحابة:

وتمثل فتاوى الصحابة مصدرا من مصادر الثراء الفقهي، وامتازت فتواهم بأنها: “لم تكن فتواهم تقليدا لرأي فلان وفلان وإن خالفت النصوص؛ فهم لم يكونوا يقلدون في فتواهم، ولا يفتون بغير النصوص، ولم يكن المستفتون لهم يعتمدون إلا على ما يبلغونهم إياه عن نبيهم فيقولون: أمر بكذا، وفعل كذا، ونهى عن كذا”[9].

أقوال الصحابة في تفسير القرآن:

كما كانت أقوال الصحابة – رضوان الله عليهم- في تفسير القرآن الكريم مصدرا من مصادر فهم الشريعة، وذلك أنهم أفهم لقول الله تعالى من غيرهم، حتى إن بعض العلماء جعلوا تفسيرهم في حكم المرفوع، لا من جهة نسبته للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكن قربهم من النبي صلى الله عليه وسلم ووجودهم في زمن التنزيل.

وقد نبه الشاطبي أن من أدوات فهم القرآن الكريم أن يفهم وفق قاموس العرب زمن التنزيل، فإن القرآن الكريم نزل بلغتهم التي كانت مشتهرة ومستعملة في عصورهم.

وساق قول عمر: “يا أيها الناس! تمسكوا بديوان شعركم في جاهليتكم؛ فإن فيه تفسير كتابكم”[10].

ومن أمثلة اجتهادهم في تفسير النصوص: تفسير الكلالة: ما ورد عن السميط قال: كان عمر يقول: الكلالة ما خلا الولد والوالد.[11]ولفظه: أتى علي زمن وما أدري ما الكلالة وإذا الكلالة من لا أب له ولا ولد. وعن الشعبي قال: سئل أبو بكر عن الكلالة فقال: إني أقول فيها برأيي، فإن كان صوابا فمن الله وحده لا شريك له وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان والله منه بريء أراه ما خلا الوالد والولد؛ فلما استخلف عمر قال: الكلالة ما عدا الولد – وفي لفظ: من لا ولد له – فلما طعن عمر قال: إني لأستحيي الله أن أخالف أبا بكر، أرى أن الكلالة ما عدا الوالد والولد[12].

  1.  تفسير  عمر بن الخطاب قوله تعالى {أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم} [الطلاق: 6] بأنها للبائنة والرجعية، حتى قال: ندع كتاب ربنا لقول امرأة، مع أن السنة الصحيحة في البائن تخالف هذا التفسير.
  2.  تفسير علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قوله تعالى {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا} [البقرة: 234] أنها عامة في الحامل والحائل، فقال: تعتد أبعد الأجلين والسنة الصحيحة بخلافه
  3. تفسير ابن مسعود قوله تعالى {وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن} [النساء: 23] بأن الصفة لنسائكم الأولى والثانية؛ فلا تحرم أم المرأة حتى يدخل بها، والصحيح خلاف قوله، وأن [أم] المرأة تحرم بمجرد العقد على ابنتها، والصفة راجعة إلى قوله: {وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن} [النساء: 23] وهو قول جمهور الصحابة.

وهذا يعني أن الصحابة كان لهم اجتهاد في فهم وتفسير النصوص.

المصالح المرسلة:

ومن الأدلة التي ظهرت جلي في عصر الصحابة، المصالح المرسلة، وهي المصالح التي ليس فيها نص، فيجتهد الصحابة فيها،

وقيل: هي حكم لا يشهد له أصل من الشرع اعتبارا وإلغاء[13].

” قال الخوارزمي: والمراد بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع، بدفع المفاسد عن الخلق.

قال الغزالي: هي أن يوجد معنى يشعر بالحكم، مناسب عقلا، ولا يوجد أصل متفق عليه.

وقال ابن برهان: هي ما لا تستند إلى أصل كلي ولا جزئي”[14].

ومن أمثلة إعمال المصالح المرسلة عند الصحابة ما يلي:

  1.  جمع الصحابة المصحف زمن أبي بكر وزمن عثمان.
  2.  حكم الصحابة بتضمين الصناع.
  3.  اتفاق الصحابة على حد شارب الخمر.
  4.  التعزير بأخذ المال في بعض الجنايات.
  5. قتل الجماعة بالواحد.
  6.  القول بجواز ضرب المتهم واختلافهم فيه.

مزايا الفقه في عصر الصحابة

امتاز الفقه في عصر الصحابة بعدد من المزايا، من أهمها:

  1.  أنه فقه اعتمد فيه على النصوص من القرآن والسنة.
  2. أنه فقه اعتمد فيه على الشورى، وظهور الاجتهاد الجماعي في وقت مبكر، فقد كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما يجمعان فقهاء الصحابة فيما يستجد من نوازل، وقد منع عمر رضي الله عنه الصحابة من مغادرة المدينة المنورة، عاصمة الخلافة.
  3.  أنه فقه قائم على المصلحة الشرعية في المسائل المجتهد فيها.
  4. أنه فقه واقعي، لم يعرف الترف ولا الافتراض، بل كان تلبية للواقع وحاجة المجتمع المسلم.
  5.  أنه فقه امتاز بالمرونة، فلم يكن فقه الرأي الواحد، فقد شهد الصحابة خلافا فقهيا، أثرى عمل الفقهاء فيما بعدهم، وأعطى للفقه مرونته وصلاحيته الدائمة.
  6.   أنه فقد يدور في خدمة نصوص الكتاب والسنة، ونقل اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم وفتاويه.
  7.  أنه مهد لظهور المدارس الفقهية المتنوعة، من مدرسة الحديث والأثر ومدرسة الرأي والقياس، وأسس لظهور أصول ظهور المذاهب بناء عليه فيما بعد.

وإنه مما يؤسف له أنه ليس هناك موسوعة جامعة لكل آراء الصحابة الفقهية، وإن وجدت بعض الدراسات والأعمال التي تعنى بفقه الصحابة.


[1] – إتحاف المهرة لابن حجر (10/ 280)

[2] – إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 10)

[3] – الفصول في الأصول، للجصاص (4/ 304)

[4] – الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي (1/ 467)

[5] – البحر المحيط في أصول الفقه، للزركشي (6/ 438)

[6] – البحر المحيط في أصول الفقه (6/ 439)

[7] – إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 166)

[8] – أخرجه الدارقطني والبيهقي وغيرهما

[9] – إعلام الموقعين عن رب العالمين (2/ 178)

[10] –  الموافقات (1/ 58)

[11] – أخرجه البيهقي

[12] –  أخرجه البيهقي والدارمي والطبري

[13] – بيان المختصر شرح مختصر ابن الحاجب (3/ 286)

[14] – إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، للشوكاني (2/ 184)