قلنا في مقالات سابقة إن أي إنسان منا عنده القابلية لأن يكون فرعوناً بدرجة وأخرى، أو صالحاً راشداً مثل عمر بن عبدالعزيز. أي أن الإنسان منا يحمل بذرة فرعونية أو عمرية، تنتظر التنشيط أو التفعيل، وأن ما يدعو الإنسان لسلوك النهج الفرعوني أو العمري، إنما عوامل ثلاثة، لو توافرت لدى أي أحد منا، بغض النظر عن وضعه الاجتماعي أو الإداري أو القيادي، فإنه قاب قوسين أو أدنى أن يكون فرعونياً أو عُمرياً، سواء في بيته، عمله، مجتمعه، دولته، أو أمته.
من العوامل المؤدية للفرعونية: وفرة المال، وضعف الإيمان، وآخرها البطانة، السيئة منها بالطبع، وتلك العوامل مع التعديل عليها، ستؤدي إلى العمرية، وهي: وفرة المال، قوة الإيمان، والبطانة الصالحة. وحولها سيكون حديثنا اليوم.
في اللغة، البطانة داخل الثوب وجمعها بطائن، وظاهر الثوب يسمى الظِهارة. وبطانة الرجل: خاصته – كما جاء في زهرة التفاسير- الذين ” يعرفون خفايا أمره، ومكنون سره، ويستبطنون ما يخفى على غيرهم، فيعرفون موضع قوته وضعفه، ويتخذ منهم مستشاريه الذين يستشيرهم، ويستنصحهم إن احتاج إلى نصيحة”.
بطانة الرجل منا قد تتكون من زوجته مثلاً وبعض أبنائه وأخلص أصدقائه. وبالمثل تكون بطانة المدير أو الرئيس أو الزعيم. مجموعة من المقربين إليه، الأكثر أمانة وإخلاصاً وصدقاً، أو هكذا المفترض أن تكون بعض أهم معايير اختيار أفراد البطانة، والتي سنذكرها بشكل أوضح لاحقاً.
القرآن الكريم أشار إلى أهمية هذه الفئة، وضرورة الاعتناء بمسألة الاختيار كما في قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا } ( آل عمران : 118) حيث ينهى الله المؤمنين بهذه الآية – كما يقول القرطبي – أن ” يتخذوا من الكفار واليهود وأهل الأهواء دخلاء وولجاء، يفاوضونهم في الآراء ويسندون إليهم أمورهم”. ويضيف القرطبي قائلاً:”… وقد انقلبت الأحوال في هذه الأزمان باتخاذ أهل الكتاب كتبة وأمناء، وتسودوا بذلك عند الجهلة الأغبياء من الولاة والأمراء .
لكل مسؤول بطانتان
روى البخاري عن أبي سعيد الخدري عن النبي – صلّى الله عليه وسلّم – قال: “ما بَعَثَ اللَّهُ مِن نَبِيٍّ، وَلَا اسْتَخْلَفَ مِن خَلِيفَةٍ، إِلَّا كَانَتْ له بِطَانَتَانِ: بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بالمَعروفِ وَتَحُضُّهُ عليه، وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بالشَّرِّ وَتَحُضُّهُ عليه، فَالْمَعْصُومُ مَن عَصَمَ اللَّهُ تَعَالَى” (صحيح البخاري).
لاحظ أن في الحديث إشارة مهمة إلى مدى وعظمة تأثير البطانة على صاحب القرار. بطانة صالحة وأخرى طالحة. الأولى تأمر بالخير والأخرى بالشر. والمعصوم – كما في الحديث – من عصمه الله.
أي أن من يقوم بتشكيل بطانته، لابد أن يستعين بالله، يسأله الهداية والتوفيق في الاختيار، لأنه لن يكون يسيراً، إلا على من يسّره الله عليه، وبالتالي فإن أي تقصير أو تهاون في الاختيار، من شأنه إتاحة المجال لعناصر ربما تكون نواة لبطانة سيئة، ستتشكل بعد حين، وتكون وبالاً وخبالاً، أي فساداً واضطرابا، للرئيس أو القائد، ومن يكونون تحت إمرته وفي أمانته. وبالتالي سيتحمل هو المسؤولية في المقام الأول، ولن تكون البطانة هي الملامة عند أي تقصير أو مشكلة، لأنه هو من قام بتشكيل الفريق المحيط به، أو البطانة.
أي إنسان منا، مهما كان وضعه الوظيفي أو القيادي، وقبل ذلك الإيماني، يتأثر بمن حوله من الأصدقاء والخلان. فإن كانوا صالحين أصلحوه، وإن كانوا فاسدين أفسدوه. هكذا بكل اختصار، دونما حاجة لكثير شروحات وتفصيلات، والمرء على دين خليله، “فلينظر أحدكم من يخالل” كما قال ﷺ (صحيح أبوداود).
من هنا تظهر أهمية قيام صاحب المسؤولية، أو من يحمل أمانة إدارة كيان ما، من أصغر وحدة في وزارة ما مثلاً، مروراً بالقسم والإدارة والوزارة نفسها، وانتهاء بالدولة – بحسن اختيار بطانته – أو إن صح وجاز لنا التعبير، يقوم هو بنفسه على صناعة بطانته.
هذه صفات البطانة
من يرغب في النهج العمري، تكون بطانته مكونة من راشد رشيد، وناصح أمين، وصادق صدوق، وحفيظ عليم، ومستشار مؤتمن. يجمعهم إيمان وتقوى من الله. يستشعرون ثقل المسؤولية والأمانة. ولن يكون مستغرباً كذلك وجود خل وفي، أو عدد منهم ضمن البطانة. خلة أو صداقة من تلك المبنية على الحب في الله، وليس على الانتهازية والاستغلال والمصالح الشخصية. مستذكرين قوله تعالى { الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين } (الزخرف :67) على اعتبار أن الصداقة الحقيقية في الدنيا، هي التي تكون مبنية على الحق والعمل الصالح، والمرجو ثوابها في الآخرة.
إنّ بطانة مكونة من أولئك النفر، وتلك هي صفاتهم أو ما يميزهم، فلا ريب أن العواقب والمآلات ستكون محمودة طيبة. ستكون بطانة معينة للمسؤول على الخير وما فيه صالح الأمة، ومانعة عنه الشر وما فيه فساد للأمة. قال ابن كثير وهو يصف نموذجاً للمسؤول ودور البطانة وقوتها في توجيهه – وهو هاهنا يعني الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز– الذي “كان في هذه المدة من أحسن الناس معاشرة، وأعدلهم سيرة. كان إذا وقع له أمر مشكل: جمع فقهاء المدينة عليه، وقد عين عشرة منهم، وكان لا يقطع أمراً بدونهم، أو من حضر منهم وكان لا يخرج عن قول سعيد بن المسيب“.
بطانة عمر بن عبد العزيز رحمه الله، لا شك أنها لعبت دوراً في الرخاء والعدل والأمن الذي حدث للأمة في عامين هي مدة خلافة عمر. فلم يكن عمر يتحرك وفق أهواء وأمزجة متقلبة، بل وفق علم وفقه وإيمان، تسانده بطانة صالحة كانت أكثر كفاءة وعلماً منه، وليس في ذلك ما يعيب المسؤول، فإن قوة وكفاءة البطانة هي في صالحه قبل صالح الأمة. وليس شرطاً – حسب ما أرى – أن تكون البطانة جيشاً من الخبراء والمستشارين، فقد تكون البطانة رجلاً واحداً، لكنه بألف رجل. ولنا في موسى عليه السلام النموذج. فقد كان هارون عليه السلام هو البطانة، وهو المستشار. ولنا كذلك في سيرة رسولنا الكريم – ﷺ – وخلفائه الراشدين، القدوة الحسنة في هذا الأمر.. والله دوماً كفيل بكل جميل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.