كثيراً ما قرأنا سورة يوسف، ومررنا على آياتها دون أن نستشعـر بعض حكمها ومغازيها، وربما نتلمس بعض الحكم من بعد قراءات عديدة، وربما أحياناً لا نتلمس شيئاً لسنوات طوال من القراءة والحفظ.. ومن تلك الآيات العظيمة التي تحدثت عن مشهد يوسف مع ساقي الملك: ” وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين”..
فماذا أريد أن أصل إليه اليوم عبر هذه الآية الكريمة؟
المسألة ستتضح على الفور لمن يتأمل الآية ليجد المعنى الحقيقي للاستعانة بغير الله، وهو الذي بيده ملكوت كل شيء في هذا الكون الواسع العظيم. سيجد مفهوم الاستعانة بغير الله ونتائجها غير السارة، وقد تجسّد المفهوم في مشهد بالغ الوضوح، صوّره القرآن العظيم لنبي الله الكريم يوسف وهو يعاني في السجن بسبب ظلم الظالمين.. حيث يتبين من خلال حديثه إلى الذي فسر له رؤياه، واعتقد بإمكانية نجاته من الإعدام، تولد شعور خفي عند نبي الله يوسف على إمكانية أن يكون خلاصه على يد ملك مصر في ذاك الزمان، فتطلع للخروج من سجنه بأي طـريقة ممكنة، فأدى به ذلك الشعور إلى أن يوحي سراً إلى ساقي الملك أن يذكّر جلالته بقضيته وسجنه التي دخله ظلماً وزوراً، حين تُتاح له أي فرصة للتحدث مع الملك..
في لحظات قليلات، ربما.. وأقول ربما، وتحت ضغط الحياة في السجن وشعور القهر والظلم الذي وقع عليه، لاحت له عليه السلام فكرة الاستعانة بالساقي لتذكير صاحب القرار الأعظم في البلاد وهو الملك، للنظر إلى قضيته وأن يكون خلاصه ونجاته وخروجه إلى حياة الحرية من جديد على يديه!
فماذا حصل؟
ربما بسبب شعور الفرحة بالخروج من السجن لدى الساقي، نسي السجن ومن فيه وكل ما يرتبط به، وقد أوضح القرآن ذلك حين ذكر الله حال الساقي بعد الخروج من السجن :... فأنساه الشيطان ذكر ربه.. “. نسي الساقي صاحبه في السجن ومفسر رؤيته، واشتغل والتهى في حياته وعمله بضع سنين.. فيما لبث واستمر نبي الله الكريم يوسف الصديق بالسجن في تلك الفترة، يعاني الظلم وأفعال الظالمين، قاتلهم الله أينما كانوا أو سيكونون..
يقول المفسرون إن واحدة من مكائد الشيطان ضد النبي يوسف عليه السلام هو دفعه ولو لثوان معدودات، للاستعانة بغير الله في مسألة حياتية مهمة عنده يومذاك، وهي العيش في حرية والخروج من السجن، فكان مشهد الحديث مع الساقي وأن يطلب منه حالما يخرج من السجن أن يذكّر الملك بأمره.. ونجح الشيطان في مكيدته ليوسف واستطاع أن يقنع النبي الكريم ولو للحظات أن يستعين بالقوانين الأرضية مع مخاطرها، وينسى قوانين السماء، فكانت النتيجة أن لبث في السجن سنوات أخرى، يعاني فيها القهر والحرمان..
لقد أراد الله سبحانه في ذلك المشهد وغيرها من مشاهد سابقة ولاحقة، أن يعلم نبيه الكريم دروساً حياتية له ولكل من يأتي بعده إلى يوم الدين. ومن تلك الدروس عبر مشهد السجن والاستعانة بقوانين الأرض دون السماء، أنه مهما يعمل الإنسان ويتخذ الأسباب لتحقيق أمر ما، فلن يتمكن من انجازه لو اكتفى فقط بالقوانين الأرضية ونواميسها دون الالتفات إلى القوانين السماوية، ولو بأدنى درجات اليقين والإيمان، أن الذي يحقق الحاجات هو الله ولا غيره سبحانه.
لتتمكن إذن من أمر ما ويتحقق وتُنجز، فلا بد أن تؤمن إيماناً راسخاً ويقيناً تاماً أن الله هو من سيحققه لك لو استعنت به، وليس شرطاً أن تكون الاستعانة على شكل دعاء أو صلاة وغيرها من أفعال، وإن كانت محببة بالطبع، ولكن يكفيك تعزيز ودعم ذاك الإيمان الخفي الموجود في أعماقك بأن الأمور كلها بيد الله.. فلو أراد لك النجاح وأنت مؤمن به سبحانه أنه سيحقق لك ذلك، فسيكون ذلك واقعاً لا محالة، طالما أنك تتخذ الأسباب والطرق الصحيحة والسليمة مع الاستعانة بالله..
أما حين يحدث العكس، فمهما كانت أساليبك صحيحة دقيقة، ولكن في الوقت نفسه يخالطك شعور خفي أن الأمر سيتحقق على يد فلان أو علان بسبب نفوذ أو قوة أو سلطة أو ما شابه، فاعلم أنك خاسر لا محالة.. وقصة النبي يوسف الصديق، عليه السلام، خير مثال على ما نقول، ولك أن تستزيد في قراءة تفسير الآية، لمزيد إيمان ويقين.. وما قصص الأنبياء إلا عبرة وعظة لنا إلى يوم الدين.. ولك أن تنظر إلى الآية الأخيرة في سورة يوسف المليئة بالقصص، ولك أن تتأمل الحكمة في السـر الذي جعل الله تلك الآية خاتمة للسورة.. :” لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب، ما كان حديثاً يُفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون “..