في الإسلام مجموعة من القواعد الواضحة التي تخص صيرورة هذه الحياة، وما فتئ القرآن الكريم بوصفه مصدر التشريع الأول يتحدث عن سنن الله عز وجل في هذا الكون، وكيف أنه لم يترك مكانا للصدفة ولا العبثية في كل مفرداته..

فتارة يتحدث عن طبيعة انتظام حركته الكبرى مؤكدا أنها خاضعة لنظام محكم لا يختل، ولا يسمح فيه لأي من عناصره السطو على وظيفة غيره.. فيقول سبحانه: ” وَآيَةٌ لَّهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيم* وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ* لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُون” ( يس 37: 40)

وتارة يحذر من توهم العبثية في التعامل مع قضايا الحياة وحتى قضايا الغيب.. “أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ” (المؤمنون: 115)..

وتارة يخاطب الفرد على مستواه الشخصي ” أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى” (القيامة: 36).

وتارة يتحدث عن السابقين وكيف ان مخالفتهم لتلك السنن كانت سببا في هلاكهم ويؤكد ان الامر يسري على هذه الامة فلا استثناءات في التعامل مع حركة الحياة ولا قوانين الله في كونه يقول تعالى: “..أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ” (القمر: 43)

وهكذا في كل جوانب هذا الكون، يؤكد القرآن دوما على كونه خاضعا لفكرة السنن لا تدخل فيه من قريب أو بعيد لتوهمات الحالمين… وبالتالي ينبغي على المسلم أن يتعامل بالمنهج ذاته مع مفردات حياته، وأن يقيم حضارته على تلك الواقعية شديدة التعلق بسنن الكون ونظامه..

هذا الوضوح فهمه سلف الأمة بطريقة لا لبس فيها، وكانوا يدركون حدود ما يمكن معه انهيار تلك السنن أمام تدخلات الإرادة الإلهية.. وبالتالي استطاعوا بواقعيتهم الشديدة أن  يسودوا العالم كله..

ففي أحلك لحظات حياتهم لم يركنوا إلى أن يدعو رسول الله ربه ليفتح عليهم من خزائنه، أو ليجعل السماء تمطر ذهبا وفضة فوق رؤوسهم.. أبدا.. ما كان هذا واردا حتى في مخيلتهم، فهم يدركون حدود سنن الكون جيدا، لأنهم عاينوا النبي صلى الله عليه وسلم نفسه وهو يتعامل بتلك السنن، فيخرج في الهجرة مثلا متخفيا، ويستأجر دليلا وراحلة، ويختبيء في الغار عن الأعين، كل ذلك وهو القادر على أن يطلب من ربه أن ينقله في غمضة عين إلى المدينة وينهي هذه الحالة القلقة.. لكنه منهج الوضوح في احترام سنن الكون وفهمها..

ومع عصور الانحدار والانحطاط خبا نجم هذه الواقعية، وأضحى كسل الناس عن الأخذ بالأسباب مسوغا لديهم لمخالفة تلك السنن، بل وجعل تلك المخالفة من الدين، بل والأدهى جعلها عنوانا للإيمان..

يمارس هذا دجاجلة الخطاب الديني، الذين يريدون تخدير المجتمعات لتسويغ تصرفات إما أنظمة، وإما حتى معارضة.. فيسوقون الخطأ على أنه دين ويمارسون تنويم الناس عن ما يجب عليهم تجاه أزماتهم الحياتية، وكأنهم يقولون لهم هذه إرادة الله فاستكينوا لها، واصبروا، فعلاجها بالصبر أو في أفضل الأحوال.. الدعاء!!

قرار إلهي

فغلاء الأسعار قرار إلهي.. هكذا.. الله هو الذي يرفع الأسعار..ولذا فإن الدعاء هو الوسيلة الوحيدة التي يمكن من خلالها التعاطي مع هذا القرار..

قالت ذلك مؤسسة دينية عريقة، من المفترض أنها تعبر عن منهج الإسلام، وتعطي صورة واضحة عنه أمام أتباعه وغيرهم على السواء.. قالته دار الإفتاء المصرية..

فعبر صفحتها الرسمية بموقع “فيسبوك”، نشرت دار الإفتاء حديثاً نبوياً في معرض حديثها عن غلاء الأسعار، حيث قال الناس: “يا رسول الله غلا السعر (الأسعار) فسعر لنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن الله هو المسعر القابض الباسط الرازق وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطالبني بمظلمة من دم ولا مال”.

وفسرت الدار الحديث بأن “الناس لَما اشتكوا إلى رسول الله غلاء السعر نبههم على أن غلاء الأسعار ورخصها إنما هو بيد الله تعالى، وأرشدهم بذلك إلى التعلق بالله ودعائه”.

هكذا.. بهذه السطحية، بهذا التصور المخالف لسنن الكون والحياة الواضحة، فالتسعير من عند الله، وبالتالي غلاء الأسعار ورخصها قرار إلهي، ليس لك أن تعترض عليه، وإنما كل ما عليك فعله أن تتوجه له سبحانه بالدعاء ليرفع عنك البلاء الذي أنزله بك!!!

تدليس ودجل، ومحاولة مفضوحة لتسويغ مسلك السلطة، وغسل يدها من كل خطأ، وكأن الله عز وجل هو من وقع قرار الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، الذي بموجبه تحصل مصر على قروض قيمتها الإجمالية 12 مليار دولار، في مقابل رفع الدعم بالكلية في مدة محددة!!

تناست الدار ذلك وتناست سنن الله في كونه، تناست فشل النظام وعدم قدرته على التخطيط الجيد، تناست الفساد الضارب بأطنابه داخل مؤسسات الدولة بمعرفة كبار رجالاتها، وهو سبب رئيسي في هذه الحالة المزرية من الفشل الاقتصادي.

لذا نالت درا الإفتاء المصري جراء هذا التدليس هجوما لاذعا على مواقع التواصل الاجتماعي، مما دفعها لحذف هذا المنشور من على صفحتها الخاصة..!!

النبي فقير

وفي صورة أخرى من صور الدجل في الخطاب الديني جاءت دعوة أحد مشاهير الدعاة المصريين المحسوبين على السلطة للفقراء بأن يقتدوا برسول الله صلى الله عليه وسلم الفقير..

يقول: ” علشان يعرف كل واحد مزنقة معاه قوي يسمع حديث أم المؤمنين عائشة تقول: كان يمر علينا الهلال والهلال والهلال ولا يوقد في بيتنا نار..” مين فيكم يا فقراء يتحمل هذا، أنا أوجه رسالتي لمن يقولون إننا فقراء، هل يا فقير تقدر تقعد أو عمرك قعدت 3 أو 4 شهور مفيش طبخة تطبخ، وأسألك: هل ربطت الأحجار على بطنك من الجوع؟ هل بت طاويا بطنك من شدة الجوع تبقى مش فقير.. لكن النبي عمل كده”

هكذا أيضا يكون فهم الأحداث في مقابل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وهكذا توظف نصوص منزوعة من سياقاتها لخدمة أهداف معينة..

الداعية خالد الجندي لم يقل لمستمعيه ولا لجماهيره التي تثق فيه أن النبي الذي يحدثهم عنه بهذه الطريقة كان هو الحاكم ولم يكن من الرعية.. فأولى به إذن أن يوجه كلامه للحكام لا للرعية!! هذا أولا..

ثم لم يقل لهم أيضا إن حالة فقر النبي صلى الله عليه وسلم التي يدندن بها كثير من الدعاة لم تكن حالة دائمة، كما يروج البعض، بل كانت في فترات محددة من عمره صلى الله عليه وسلم وقد تبدل الحال بعدها في فترات أخرى… وكأنه يريد أن يسوغ للمسلمين الفقر وقلة ذات اليد  ليعتبرها كثيرون دليلا على عمق الإيمان، ليظل الفاسدون وحدهم هم من يتمتعون بالمال وبنمائه على حساب البسطاء الذي يريدون الاقتداء بالنبي “الفقير”..

لم يقل “الجندي” لجماهيره كذلك إن رسولكم صلى الله عليه وسلم ترك بعد موته بساتين وأموالاً بالمدينة وفدك..

لم يقل لهم إنه صلى الله عليه وسلم كان حريصا على أن تصل الرسالة واضحة وهو انه يرغب في الغنى ويطلبه، وينبغي على المسلم أن يهتم بطلب أن يكون غنيا، لذا علم امته ادعية من قبيل: اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، وقوله صلى الله عليه وسلم: اقض عنا الدين وأغننا من الفقر. رواه مسلم.

لم يقل لهم إن رسولهم صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من الفقر ولا يحبه: ففي سنن النسائي عن مسلم بن أبي بكرة: قال: كان أبي يقول في دبر الصلاة: اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر وعذاب القبر، فكنت أقولهن، فقال أبي: أي بني عمن أخذت هذا؟ قلت: عنك، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقولهن في دبر الصلاة”

إن امثال هذا اللون من الخطاب ينزع من الإسلام أخص خصوصياته، ينزع منه توافقه مع العقل والمنطق والفطرة البشرية، ينزع منه قدرته على غزو القلوب والعقول، يحول اتباعه إلى مسوخ كسولة لا تعرف عن أسباب الكون ولا سنن الحضارة شيء.. وحاشا لدين الله ان يكون كذلك!!!