تتناثر المطويات والملصقات يمنة ويسرة. و تتوالى التوصيات والندوات هناك وهناك، لإقناع أمة “اقرأ” بالحاجة إلى القراءة في زمن مكوكي، لا يقبل شكوى ممن تخلف عن موعد الرحلة. لكن تأتيك ردود مستخفة بحجم الأزمة: لماذا سنقرأ في الوقت الذي تطرح التكنولوجيا بدائل مريحة ؟ مشاهدة أفلام ومقاطع فيديو، أو خوض غِمار المئات من الألعاب الالكترونية التي تجمع بين المتعة والفائدة ؟ إن ضغطة زر على الحاسوب أهون من قضاء ساعات في المكتبات الرطبة والموحشة، بحثا عن معلومة تالفة في بطون المجلدات. كفى رجعية وولاء للقراطيس في عصر الرقاقة الإلكترونية !

طبعا لا تعكس هذه الآراء وضعَ القراءة في بلدان العالم الثالث فحسب، بل يبدو الأمر أشبه بوَباء يَعُم المكتبات في أنحاء العالم. فبعد الأزمة الاقتصادية العالمية لسنة 2008 مسَّت سياسات التقشف المكتبات العامة باعتبارها ترفا لا يتحمله المجتمع، وتم إخبار أمناء المكتبات بأن هناك من يتطوع لأداء أعمالهم دون مقابل، وبالتالي لا حاجة لخبراتهم.

وحتى المكتبات المدرسية لم تسلم من التخريب الثقافي، حيث وجه المحافظ الأمريكي أرنولد شوارزينجر عضلاته المفتولة للمكتبات قائلا:” إنه من غير المنطقي والمُكلف أيضا أن نهتم بالكتب الورقية التقليدية، بينما بإمكاننا الحصول على قدر أكبر من المعلومات عبر الطرق الإلكترونية” .  

لكن الكتاب يتأقلم مادامت القراءة ميزة اختص بها النوع البشري. ويستطيع المرء أن يجد ضالته من الكتب ولو على جهاز ألعاب ،كما فعل آندي ميللر في سعيه الشاق للحصول على نسخة من (موبي ديك). يبقى السؤال الأهم: كيف نواجه العزوف عن القراءة بعيدا عن الصيغ الرسمية المتداولة؟ ألا يَسَعُنا أن نبدع خطابا مشوقا يستعرض منافع القراءة دون مُحسنات بديعية ؟

وصف الجاحظ الكتاب بأنه ” الجليس الذي لا يُطريك، والصديق الذي لا يُغريك، يُطيل إمتاعك ويشحذ طباعك”. وحين رأى الخليفة المأمون أحد أبنائه وفي يده كتاب، سأله: ما هذا؟ رد الغلام : بعضُ ما يشحذ الفطنة ويؤنس الوحشة ! وفي المثالين إشارة إلى منحى جديد يُمكن أن يشكل حافزا للقراءة، ألا وهو المتعلق بتعزيز القدرات المعنوية، وتحسين الحالة النفسية للقارئ.

في القراءة عزاء عن الخيبات والآلام حين تنتاب الحياة اليومية، وتبديدٌ للهواجس والمخاوف التي تعترض وتيرة عيشنا المألوف. فبإمكان الكتاب أن يخفف من توترك، ويُحررك من قلق عابر أو شعور بالحيرة أو الضجر؛ بل يمتد أثره إلى مساعدتك على التفكير بشكل جيد. لذا فأفضل الكتب هي تلك التي كتبها أناس فكروا بشكل أفضل من بقية الناس.

حين كانت الأمور تجري على نحو سيء طوال أربعة أعوام في حياة مارسيل بروست،  قرر الذهاب إلى بلدة المياه المعدنية إيفيان في جبال الألب. لقد بلغ الثامنة والعشرين دون أن يجني مالا أو ينجز عملا أدبيا يحظى بالقبول. هناك أحدثت قراءته لأعمال جون رَسْكن، الناقد الفني الإنجليزي، هزة وجدانية أعادت للكون قيمته اللانهائية. بدا الأمر أشبه بنوع من البعث الذي يعيد المرء إلى الحياة مجددا.

يؤكد هارولد بلوم في كتابه ( كيف نقرأ ولماذا) أن الثقة بالنفس ليست منحة، وإنما هي الميلاد الثاني للعقل، الذي لا يمكن أن يتحقق بغير سنوات طويلة من القراءة. إنه تبصر عميق بالشعلة التي تومض في القلب لتنتزع الخوف والتردد. لابد أن تقرأ وتستمر في القراءة حتى تطهر عقلك من اللغو والنفاق، وتبلغ مرتبة السمو التي هي مطلبُ كل قارئ. يقول بلوم :” اقرأ بتعمق، لا لكي تؤمن أو تقبل، ولا من أجل المعارضة. بل لكي تتعلم كيف تشارك في هذه الطبيعة الواحدة التي تكتب وتقرأ”.

اقرأ.. لتُشفى !
كتاب ( كيف نقرأ ولماذا) تأليف هارولد بلوم، ترجمة : نسيم مجلي

تدفعك القراءة بعوالمها المتسعة، وخيال كُتابها الشرس إلى النبش في ماضيك. فبعض تقلباتنا المزاجية والعاطفية تختبىء مفاتيحها في درج من أدراج الطفولة. كتبت سوزان سونتاغ في يومياتها :” أقرأ (المزيفون) لأندريه جيد. أنا مفتونة لكني لست متأثرة. أتذكر كابوسا من أيام الطفولة لصور منعكسة على نحو لانهائي- شكلٌ ما يحمل مرآة، واقفا في مواجهة مرآة أخرى إلى ما لانهاية”.

وتكفل القراءة تبديدَ الكراهية حين تبذُرُ في النفس عواملَ الغفران. وكل قراءة تبلغ مرتبة السمو الإنساني جديرة بأن تتخطى جراحات التاريخ، حتى تلك الموشومة بالدم والرصاص. يعترف الروائي الفرنسي جان ماري لوكليزيو بأن الفضل في احتفاظ اللغة الفرنسية بمقعدها ضمن المشهد التداولي العالمي يرجع لانتعاش القراءة في مستعمراتها السابقة:” حظ اللغة الفرنسية هو أن الشعوب التي خضعت لهيمنتها طيلة قرون، لم تحتفظ بضغينة اتجاهها. أظن بأن ذلك يرجع إلى جمالية الأدب الفرنسي والكتب الرائعة التي أنتجها “.

إن إحدى معضلاتنا في مواجهة العزوف عن القراءة، خاصة لدى الأطفال، أننا نميل دوما إلى تحديد ما-ينبغي- قراءته، أو بالأحرى قائمة الكتب التي حازت شهرة أو لقيت قبولا واسعا لدى الكبار في مرحلة صِباهم ثم شبابهم. إننا بذلك نحرمهم من بناء علاقتهم الخاصة والممتعة مع الكتب. لقد هيمنت القراءة كعمل مدرسي على سائر الأبعاد الأخرى، مما يجعل الحديث عن بُعدها العلاجي مدعاة للتساؤل ،وربما السخرية .. كُتب تعالج.. كيف؟

الكتب شفاء الروح.. تلك هي العبارة التي احتلت واجهات المكتبات زمن الإغريق،  وتواصلت الجهود لإقناع البشرية بأن للقراءة ترياقها الخاص لتجاوز الحالات النفسية وحتى العقلية. ونحن، أمةَ أقرأ، أحوج ما نكون إلى ردم صورة نمطية، تَرهن القراءة بتنظيم الوقت الاجتماعي. إنها كالحب: أسلوب حياة، يقول دانيال بِناك، ولا يكمن السؤال في معرفة إن كان لدي وقت للقراءة أم لا، بل في معرفة إن كنت سأمنح نفسي سعادة أن أكون قارئا !