على خلفية ورش عمل أقامتها لجان الأمم المتحدة لمكافحة الإيدز، وفي ظل توجس عام من كل ما تقوم به تلك المنظمة، سواء على المستوى السياسي أم الاجتماعي داخل مجتعاتنا المسلمة، جاء هذا الحوار مع أحد الوجوه الإسلامية العاملة في الأمم المتحدة ، وهو المفكر المغربي الدكتور أحمد العبادي، أستاذ التفسير ومقارنة الأديان بالعديد من الجامعات الإسلامية والأوربية، وأمين عام رابطة العشيرة المحمدية المغربية.

الحوار مع د. العبادي يكتسب أهمية خاصة، فالرجل يتميز بعقلية علمية منهجية يفتقدها كثير من المتصدين للعمل الإسلامي، كذلك فإن خلفياته ومرجعياته الإسلامية تؤكد على طبيعة التناول الذي يعالج من خلاله قضاياه.

 

– دعنا بداية نؤكد على وجود أزمة مصداقية بين الأمم المتحدة والعالم العربي والإسلامي بوصفها تمثل الآخر المتجسد في منظومة بالنسبة له..  كيف ترون حل هذه المعضلة، وهل بالفعل هذه النظرة صادقة؟

الحقيقة أن الذي لم نفهمه بشكل واضح أن هيئة الأمم المتحدة ملك للشعوب، وأنها تتحرك بأموال تلك الشعوب وإسهاماتها، وأن ثمة نوع من التزاحم حول سن القوانين وسن الهياكل التشريعية والتنظيمية التي تتحرك بها هذه الهيئة.

الأمم المتحدة هيئة تشكلت في غياب الوعي العربي بهذه القضية وتلك الآليات، آليات المزاحمة من أجل إدماج الأمور التي تخدم مصالحنا، شريطة أن نستحضر حقيقة أن الأموال  التي تتحرك بها هذه المنظمة هي أموالنا، وأن مصداقية هذه المنظمة آتية من تكاثر الشعوب حول هذه الفكرة.

طبعاً هيئة الأمم المتحدة لم تكن أبدا في درجة الكمال، ولكن وجب أن نعترف أننا لا نزاحم بالذكاء لنفضلها، إننا لا نتحرك الحركة الفكرية من خلال تقديم التقارير، من خلال تقديم الأوراق.. أبدا.. ولكننا نكتفي بالصياح علي جرائدنا المحلية .

لم يثبت  حتى الآن أن قُدم تقرير علمي قوي مدعوم بالأدلة من الدول المسلمة كي يطرح علي النقاش، ولكننا مازلنا نشتغل خارج الآليات هذه الأمور.

ومن هنا كانت المسألة التي أشرت أنت إليها مسألة انعدام الثقة أو قلة الثقة بهيئة الأمم المتحدة أمر كما قلت لك واقع، لكن سببه المزاحمة، كل أمة كل هيئة كل دولة تحاول أن تخلق مصالحها بالآليات المتاحه وضمن القوالب وضمن الهياكل المتاحة وبكل القوي الممكنة لديه، نحن لا نقوم بهذا الأمر كما هو، هذه هي القضية .

لذلك لا ينبغي لنا أبدا أن نلوم إسرائيل أو الولايات المتحدة الأمريكية إذا استطاعت أن تحقق مصالح من خلال هيئة الأمم المتحدة؛ لأنها أخذت بالأسباب واتخذت آليات وزاحمت في ذلك ، ينبغي أن نلوم أنفسنا نحن؛ لأننا لم نشتغل قانونياً وعملياً بفكر قانوني وبفكر تنظيمي ومؤسسي داخل هذه المنظمة، علي الأقل من أجل إقامة الحجة.

وكان ينبغي أن لا ننسى ولو لحظة أن هذه المنظمة تشتغل بأموال الشعوب، فكل شعب له الحق أن يشتغل لتحقيق مصالحه المشروعة ضمن هذه الهياكل والآليات.. وبدلا من أن نلعن الظلام علينا أن نوقد شمعة.

 

– أفهم من حديثك أنك ترى بضرورة وجود العمل الإسلامي أو الحضور الإسلامي داخل الأمم المتحدة مع الحفاظ علي الثوابت ؟

بطبيعة الحال نعم.. ولكن ينبغي أن يكون هناك جهد من هؤلاء الذين يشتغلون من داخل المنظومة الإسلامية.. ينبغي أن تكون عندهم  الدراية الكافية بالمواثيق وبالتنظيمات وبالهياكل.

للأسف الشديد الذي لا ندركه جيداً هو أنه ثمة سجلين مختلفين، سجل المبادئ وسجل التدين، وسجل القيم التي نحملها، وهذا السجل له منطقه الداخلي وله آلياته الداخلية اكتساب ومحاولة إنشائها بين المقتنعين.

لكن السجلات الأخرى كالسجل الهيكلي والسجل التنظيمي والسجل السياسي هذه كلها سجلات أخذت تتجمع ضمن السجل العام الذي يمكن أن نسميه السجل العملي أو السجل الواقعي، هذا أيضاً له منطقه الداخلي ونحن لم نستطع تقديم محاولة جادة من خلال منظومتنا الفقهية لتحويل قيمنا إلى منظومات عمل تصلح لأن تدخل في إطار التشريعات التي في هذه السجلات، وداخل إطار المنطق الداخلي الذي يحرك هذه السجلات عملاً لتحسينه أيضاً من خلال تقديم اقتراحات فيها فاعلية داخل هذا السجل لذاته…

 

– هل الفكر الإسلامي يستطيع التعامل مع الآخر بأريحية ؟

هي أزمة تمثيل وأزمة فكر معا، إلى الآن نحن داخل المنظومة الإسلامية لم نفتح سجل الرؤية الإسلامية للكون وللإنسان بطريق صواب، هذه هي العموميات والحقائق موجودة في القرآن وفي السنة، والحقائق موجودة في الكون لكننا لم ننقلها للمستوي الثاني من مستويات الوجوب التي هي المستوي الديني والتمثل .

 

– ربما يرد احدهم ليقول هذا افتئات.. فعندنا تجارب عملية على مستوى التراث الإسلامي، وحتى على مستوى الحكم؟

الذين استخرجوا من هذه التصورات ما استخرجوه، كتبوه في إطارات وقوالب مختلفة..

أخبرني عن كتاب يتحدث عن الرؤية الإسلامية للكون والإنسان وللحياة وللأحياء، ستجد أن عندك كتب كتبت في القرن الثاني والثالث انطلاقاً من أفق معرفية معينة وانطلاقاً من آليات علمية واستنباط من نصوص معينة..

هناك علوم تيسير وهناك علوم تسخير ، علوم التسخير هي التي تخص الكون “سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض”،

وهذه العلوم قد عرفت تطورات كبيرة لأنها تمس واقع الإنسان… هل إذا ذهبت أنت اليوم إلي عيادة الطبيب وأخذ كتاب القانون لابن سينا أو كتاب الرازي لكي يصف لك دواء من خلاله هل ستقبل ….؟

بالتأكيد لن تتقبل؛ لأنك تؤمن بأن هناك حوارًا بين الإنسان والكون من خلال هذه القدرة علي التسخير أو سنة التسخير؛ لأن الإنسان استخرج أشياء وآليات جديدة في التعامل مع الكون ، فأنت ترفض أن تقف عند المستوي الذي وصل عنده ابن سينا..

وفي علوم التيسير “ولقد يسرنا القرآن للذكر” نجد أننا عالة علي فقهائنا وعلمائنا الذين عاشوا في القرن الثاني والثالث والرابع ، ونحن لم نقم بالجهد المطلوب منا لكي نستنبط نصوص الوحي أيضاً من خلال سنة التيسير لنستكشف ما هو أفق الإنسان لتحقيق السعادتين العاجلة والآجلة..

حدث هناك جمود وتوقف مبكر، ونحن لن نقبل الآن أن نحل مشاكلنا انطلاقاً من سجلات ما قام به الفقهاء ، هناك أمور ثوابت في العبادات لا تتغير بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال، ولكن هناك أمورا في مستأنفات الأحوال تتغير، ونحن لم نقم بحصة من الجهد كما قام بذلك علماؤنا الأفاضل رضي الله عنهم في السابق، فاللوم علينا إذ ليست عندنا جهود لاستخراج هذه الرؤية والتصورات من القرآن ومن السنة.

 

– كيف تري تجارب الإسلاميين في الوصول إلي الحكم ، بمعنى هل هي نابعة في الأصل من أزمة الفكر أم هي أزمة تطبيق في النظرة للآخر والتعامل معه ؟

دعني أشرح القضية مرة ثانية.. قضية السجلين.. عندك سجلان.. سجل القيم وسجل المباديء.. سجل العبادة لله والتدين هذا سجل شامل حين نفصل التدين بالدين عن الاعتقادات وعن الشرائع، يصبح عندك التدين باعتباره ممارسة وجب أن تتم بالدين وبالقيم وبالاعتقادات وبالشرائع داخل إطار واقع متقلب متغير متبدل، وهذا الواقع المتغير المتبدل تسيطر عليه سجلات فكرية معينة..

السجل الأول السجل الاقتصادي، والسجل الاقتصادي يهتم فيه بجمع الأموال بدون سؤال عن لماذا.. فالفكر الاقتصادي يتحرك في سياقات تجميع الثروات ويسأل فقط كيف نجمع هذه الثروات، ويبلور العلوم والمعارف لتجميع هذه الثروات ولإدراك فاعلية أكبر من أجل تجميع هذه الثروات..

في السجل السياسي يعمل من أجل تجميع السلطة، لا يتم السؤال عن لماذا أجمع السلطة؟ وإنما كيف أجمع السلطة؟ والحرب دائرة الآن في الجامعات العالمية حول كيف يمكن أن أدخل الآن، في ظل هذا التوحش الذي شوهد في هذين السجلين هو كيف يمكن أن ندخل القيم..

 

– برأيك ما الحلول التي يمكن من خلالها أن نسهم في حلحلة تلك المعضلة؟

الحل الذي يمكن تصوره هو أنه لابد من الوعي في المقارنة، فالمقارنة الواعية هي أضبط لهذا السجل القيمي، ولكن في الوقت نفسه ضبط السجلات الأخرى السياسية والاقتصادية وغيرها أن تعرف آلياتها وأن تعرف الهياكل الداخلية وأنماط تحركها، ومن ثم تصبح عندي قدرة للاقتراح من خلال سجل القيم الذي أحمله أو الدين الذي أحمله ضمن إطار التدين وضمن الدين الذي هو حركة في هذه السجلات..

يعني أنا أقترح مقترحات عملية ووظيفية من قبيل مثلاً إدارة الاقتصاد كأن يكون مستداما وجب عليك أن تدخل كذا وكذا، وأن تعطي الصيغة والكيفية التي يتم إدخالها للقيم لكي تري ثمرتها وتحصل القناعة بها..

طبعاً الإشكال يستتر حين يكون الإنسان مقتنعا بهذه القيم، ولكنك اليوم لا تتحرك ضمن عالم فيه الاقتناع بهذه القيم، أنت تتحرك ضمن عالم قد اجتهد علي هذه القيم، قد انفصل في وقت مبكر.

منذ 1788 م ، انفصلت هذه السجلات عن بعضها البعض، ومن ثم المفهوم العلماني في النهاية هو الفصل بين هذه السجلات؛ لأن الخلط بين هذه السجلات قبل 1788 كان فصلاً فيه أحيانًا من الطلسمة ومن الغموض ومن عدم العلمية ما جعل الناس تفقد حقوقها، وفي تشخيصها لذلك تري الدين وسجل الدين والقيم هو الذي أدي إلي هذا، فلنفصله بفاعلية أكبر في هذه السجلات.

 

– لكن هذه عملية تحتاج إلى ربما قرون عديدة كي نصل إلى تلك المستوى من الفهم الناضج ؟

أنا معك أنها تحتاج إلى مئات السنين.. وهكذا أعمار الأمم وحركتها الكبرى وتحولاتها الحضارية.. لكنها في النهاية ليست خارجة عن الطوق ولا عن القدرة…

فعندما لا يقل الآن عدد الباحثين في العالم الإسلامي عن مليون باحث، أفلا نستطيع لو توفرت الإرادة والرغبة أن نحدث التكامل بين الباحثين وأن نختار المواطن التي ينبغي أن تصنف وجودهم؟! إذا استطعنا فإننا يمكن أن نحقق تقدما خطيرا جداً..

إذا نظرت إلى جامعتنا اليوم.. رسائل الدكتوراة التي تطرح اليوم شيء فظيع سواء في الجوانب العلمية أو في الجوانب الإنسانية أو الإسلامية، ليس هناك توجه وليس هناك وعي بحاجاتنا حتى نوجه إليها جهودنا، وهذا يقتضي لا شك تقديراً مستأنفا من أجل تجاوز هذه الأوضاع .

 

–  تعلم أن الوعاء السياسي هو الوعاء الذي تصب فيه كل الأوعية.. وأقصد هنا أنظمة الحكم والمسيطرين عليها، فكيف تطبق هذه الرؤية في ظل وجود أنظمة لا تؤمن بها، مما يحيلنا إلى أزمة أخرى..؟

الأمر لا يمكن أن نسميه أزمة وإنما أزمات.. هناك أزمة تمس حتى الدين للأسف الشديد.. الآن في العالم الإسلامي لنقل أولا “دُروب” الأزمات كما تصورها، هناك أزمة منهجية وهناك أزمة علمية وهناك أزمة عرائقية تنظيمية اجتماعية، وهناك أزمة سياسية وهناك أزمة اقتصادية وهناك أزمة أخلاقية وهناك أزمة وجودية .