الأخلاق إحدى ركائز الحضارة، والإعلام جزء أصيل من نسيج حياتنا المعاصرة.. هاتان حقيقتان واضحتان لكل ذي عينين، لا تحتاجان إلى عناء لإثباتهما وتأكيدهما، بل قد لا تحتاجان إلى إثبات أصلاً!
لكن الإشكالية تَرِدُ حين نحاول أن نتصور: كيف نجمع بينهما؟ أو حين نتساءل: لماذا غاب الجمع بينهما في كثير من الممارسات الإعلامية التي تطالعنا صباحَ مساءَ؟
فالأخلاق تنتمي إلى عالم الفلسفة والمثال، بينما الإعلام منخرط في عالم الواقع؛ والبون بينهما شاسع!
وتأتي أهمية بل وضرورة تناول هذا الموضوع من أن إغفال العلاقة بين الأخلاق والإعلام- فيما ينبغي أن يكون حاصلاً في خطابنا الإعلامي- هو أمر ينذر بأن يتحول الإعلام إلى أداة باطشة لصالح النظم الحاكمة ورأس المال، وأن يكون وسيلة لتزييف الوعي بدلاً من إنارة العقل، وترسيخ الاستبداد بدلاً من إشاعة الحرية والديمقراطية.
أهمية الأخلاق والإعلام
نشير بداية، إلى أن عالَمًا تتحكم فيه المادة، ويخفت صوت العقل والحكمة؛ يبدو الحديث عن الأخلاق فيه ضروريًّا بمثل ما نحن نفتقدها ونكتوي بغيابها.. ولا عجب أن تكون الأخلاق من فرائض الأديان، وضرورات المجتمعات.
و”الأخلاق” هي مرآة النفس التي تعكس ما بداخلها، وتدل على المخبوء فيها؛ و”علم الأخلاق” هو علم يبحث في المثال، وما يجب أن يكون؛ سعيًا للارتقاء بعالم الواقع، وما هو كائن بالفعل.
وهي فريضة دينية؛ أكد الإسلام أهميتها، ورفع منزلتها إلى درجة أنْ جعلها “الغاية” من بعثة النبي ﷺ، فقد روى أبو هريرة أن رسول الله ﷺ قال: “إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاقِ” (رواه أحمد في مسنده).. كما أنها ضرورة من ضرورات المجتمعات؛ لأن الأخلاق ليست مجرد “فضيلة” من الفضائل، يصح أن يكون موقف الإنسان منها موقفًا اختياريًّا، إن شاء فعلها وإن شاء تركها، بل هي “ضرورة” لا يستغني عنها مجتمع من المجتمعات.
وإن من حقائق الحياة الثابتة أن “القانون”- وهو مجموعة قواعد التصرف التي تجيز وتحدد حدود العلاقات والحقوق بين الناس والمنظمات، والعلاقة التبادلية بين الفرد والدولة؛ بالإضافة إلى العقوبات لأولئك الذين لا يلتزمون بالقواعد المؤسسة للقانون([1])- لا يكفي لتنظيم العلاقة بين أفراد المجتمع؛ ذلك أن أي قانون مهما بلغ من الضبط والتحديد، فلابد أن توجد به ثغرات يستغلها ضعاف النفوس للوصول إلى أهدافهم غير القانونية.
ولذلك كان لابد أن تكون هناك مرتبة فوق مرتبة القانون، ألا وهي الأخلاق، والتي هي منوطة بالضمير؛ فالقانون يخاطب الظاهر والعلاقات المادية، بينما الأخلاق تخاطب الباطن والدوافع النفسية.
هذا عن الأخلاق.. أما عن الإعلام فلاشك أنه- مقروءًا، أو مسموعًا، أو مرئيًّا- أصبح يشكِّل جزءًا من حياتنا، بل فاعلاً رئيسيًّا فيها؛ بحيث تجاوز مرحلةَ أنه يعكسها ويكون فقط صدىً لها، حتى صار يؤثِّر فيها ويشكِّلها، ويسهم بدرجة كبيرة في صناعتها.
ومع أن ظاهرة (الاتصال الجماهيري) قديمة قدم الإنسان، وإن اختلفت أشكالها من زمان لزمان، ومن مكان لمكان؛ إلا أن العصر الحديث قد أُطلق عليه “(عصر الإعلام)، لا لأن الإعلام ظاهرة جديدة في تاريخ البشرية؛ بل لأن التكتيك الحديث في الإعلام المعاصر قد بلغ غايات بعيدة جدًّا في سعة الأفق، وعمق الأثر، وقوة التوجيه”([2]).
وإن المتابع لتطورات ثورات “الربيع العربي”، التي انطلقت شرارتها من تونس، ومازلنا نعيش مخاضها وآلامها، ليدرك بجلاء كم كان للإعلام دور بارز في تلك التطورات.
فالإعلام أصبحت له انعكاسات مهمة وجذرية على كل مناحي الحياة؛ السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتربوية.
صلة الأخلاق بالإعلام
قد يبدو الجمع بين الأخلاق والإعلام في سياق واحد أمرًا غريبًا، إذ يرتبط الإعلام في أذهان الكثيرين- نتيجة الممارسات الخاطئة- بالإثارة والبحث عن الغرائب، والجري وراء الأسرار والفضائح، ليتحقق بالتالي العائد المادي الذي يبدو هدفا أساسيًّا من تلك الصناعة المعقدة.
لكننا هنا لا نتحدث عن الواقع بقدر ما نتحدث عن الواجب! فوظيفة الباحثين وأصحاب الفكر والقلم أن ينهضوا بالواقع، ويرتفعوا بما هو كائن إلى ما يجب أن يكون.
ويمكننا القول بأن الإعلام يرتبط بالأخلاق ارتباطًا وثيقًا، وذلك لثلاثة أسباب:
الأول: أن الأخلاق من صفاتها: العموم والشمول، بحيث من الصعب أن نجد مجالاً يمكن أن نقول عنه إن الأخلاق لا تشمله، ولا تعرف عليه سلطانًا.
الثاني: أن الإعلام تمتد خيوطه لتنسج علاقات متينة مع جميع فئات المجتمع والمراحل العمرية المختلفة لأفراده؛ وما لم يرتبط الإعلام حينئذ بالأخلاق فإن نسيج المجتمع وقيمه سيكونان مهددَين بالانهيار لا شك!
أما السبب الثالث، فهو أن صناعة الإعلام ترتبط بشكل كبير بالسلطة الحاكمة، خاصة في عالمنا العربي، وإذا تُرك الإعلام دون أخلاقيات وضوابط تنظم مساره، فإنه سيكون مطية للنظام الحاكم وبوقًا له، لا يقل تأثيره في تزييف الوعي عن سوط هذا النظام وبطشه المادي!
فالصلة بين الأخلاق والإعلام وثيقة وضرورية؛ وإلا صرنا إزاء شبكات وكيانات إعلامية تفترس الحقيقة، وتدهس القيم، وتتلاعب بعقول([3]) ومصائر الشعوب، وتجعل مقدراتها مرتهنة لصالح رأس المال والسلطة.
ومن الجدير بالذكر في هذا الصدد، أن الكتب التي تعرِّف بالإعلام والصحافة وبتاريخهما وفنونهما، هذه الكتب([4]) تُختم دائمًا بمبحث عن “أخلاقيات المهنة”، الواجب اتباعها لترشيد العمل الإعلامي والصحفي.
ويعرف إليوت كوهين “أخلاقيات المهنة” بأنها: “ذلك الفرع من الأخلاقيات المهنية الذي يتناول المشكلات المتعلقة بسلوك المندوبين الصحفيين، والمحررين، والمصورين الفوتوغرافيين، والمنتجين، وجميع المهنيين الذين يعملون في إنتاج الأخبار وتوزيعها”([5]).
([1]) الموسوعة الحرة “ويكيبيديا”، على الرابط:
http://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%82%D8%A7%D9%86%D9%88%D9%86
([2]) عبد الله قاسم الوشلي، الإعلام الإسلامي في مواجهة الإعلام المعاصر (القاهرة: دار البشير، ط2، 1994م)، ص: 13.
([3]) صدر ضمن سلسلة “عالم المعرفة” برقم 243، الإصدار الثاني لكتاب هربرت أ. شيللر: “المتلاعبون بالعقول؛ وهو يقدم- كما جاء في بطاقة التعريف به في الغلاف الأخير- رؤية تحليلية ناقدة لآليات السيطرة والتأثير على عمليات جمع ونشر المعلومات في الولايات المتحدة، وطبيعة القوى المهيمنة على وسائل الإعلام في المجتمع الأمريكي. كما يوضح- من خلال التحليل النقدي المفصل لآليات التوجيه الكامنة في أدوات إعلامية مثل استطلاعات الرأي، والإعلام التلفزيوني، وأفلام ومنشورات والت ديزني، وغير ذلك- مدى قوة تأثير وعلو خبرة سائسي “العقول” هؤلاء في ترويج أفكارهم من خلال غمر الأمريكيين بالمعلومات بوصفها “وعيًا” جاهزًا عبر وسائل الإعلام.
([4]) منها على سبيل المثال: د. علم الدين، الفن الصحفي، (القاهرة: أخبار اليوم، 2004م)، ص: 243 وما بعدها. ومجموعة مشاركين، دليل الصحفي (الأردن: مؤسسة أبو محجوب للإنتاج الإبداعي، نسخة PDF، بدون تاريخ)، ص: 71 وما بعدها.
([5]) نقلاً عن د.خالد القحص، الأخلاقيات المهنية للصحافة… ورشة تطبيقية، مذكرة تم توزيعها علينا أثناء المشاركة في دورة عن “أخلاقيات الصحافة”، نظمتها مجلة “الوعي الإسلامي” بالكويت لعدد من شباب الإعلاميين والصحفيين، ضمن دورة “الصحفي المتكامل”، في الفترة 19- 23/ 5/ 3013م.