قضايا متعددة يناقشها كتاب “حرب واستراتيجية: نهوج ومفاهيم” الذي صدر في جزأين في مايو ويونيو 2019، عن سلسلة عالم المعرفة بالكويت، في حوالي (550) صفحة، مناقشا الاستراتيجية على مستوى المناهج والمفاهيم، ورغم كثافة المادة والقضايا التي يتناولها إلا أننا نتوقف عند مسألة تشغل المفكر والمصلح والسياسي المسلم، وهي العلاقة بين الاستراتيجية والأخلاق، فالغالبية من العاملين في السياسة يتملكهم إحساس أن الأخلاق لا تلتقي مع السياسة، وإذا كانت الاستراتيجية أعلى درجات الوعي السياسي فأغلب الظن-عند هؤلاء- أن الالتقاء بين الاستراتيجية والأخلاق يقع في دائرة الاستحالة.
ويبدو أن مسألة العلاقة بين الاستراتيجية والأخلاق ليست مسألة تخص أهل الأديان وخاصة الإسلام[1]، ولكنها قضية تشغل الكثير من المهتمين بالسياسة فكرا وممارسة على اختلاف أهدافهم، فالبعض يتعامل مع الأخلاق وفق منطق نفعي، ويرى أن الجنود يحتاجون إلى دافع أخلاقي ومبادئي ليُقدموا على التضحية بأنفسهم أو حتى بالآخرين، وحتى من يرتكبون عمليات التطهير العرقي، كانوا يغطون على الدماء البريئة بالكلمات المعسولة الشعارات الرنانة[2].
إشكالات كثيرة تطرحها العلاقة بين الاستراتيجية والأخلاق، منها: هل تؤثر الأخلاق في الفعل الاستراتيجي، وهل التمتع بميزات أخلاقية يوازيه التمتع بميزات استراتيجية؟ وهل العائق الأخلاقي قد يكون عائقا اسراتيجيا؟ وهل يمكن للاستراتيجية السيئة أن تدمر المميزات الأخلاقية؟
اختلاف المنهج
“الحرب هي قتل مجموعة من الأغراب الذين لا تشعر نحوهم بأي عداء، ولو قابلتهم في ظروف أخرى لقدمت لهم العون أو طلبته منهم”، مقولة لـ”مارك توين”، تكشف عن تأثير الحرب على الأخلاق الإنسانية، فيلاحظ وجود اهتمام متصاعد بدراسة العلاقة بين الأخلاق والاستراتيجية في العالم المعاصر، رغم اختلاف مناهجهما، فمنظرو الاستراتيجية لا يهتمون بالجانب الأخلاقي، وعلماء الأخلاق لا يهتمون بالاستراتيجية، وغالبا ما يعلن الاستراتيجيون ضرورة الفصل بين الأحكام الأخلاقية والاستراتيجية، وعلى المرء أن يختار أحدهما دون الآخر، لأن كل منهما يطرح سؤالا مختلفا، فالاستراتيجية تهتم بالدفاع عن المصالح، والأخلاق تبحث عما هو جيد في حد ذاته بغض النظر عن المصلحة .
ويرى آخرون أنه يمكن دراسة العلاقة بين الاستراتيجية والأخلاق، رغم أن منهج كل منهما يتسم بالتحيز، ولعل أحد مناطق التداخل بينهما هو: أن الاستراتيجية لا تفتقر للأخلاق دائما؛ بل إنها تنظر إليها في بعض الأحيان من منظور نفعي، فالاستراتيجيون يرون أن الجنود والقادة قد لا يهتمون بفعل الخير، لكن قطعا سيكونون غير مرتاحين وراضين عن أنفسهم إذا امتلئت نفوسهم قناعة بأن ما يفعلونه شرا وخطأ، ومن ثم فالاستراتيجية تحتاج إلى الغطاء الأخلاقي، حتى مرتكبو جرائم الإبادة العرقية يبررون اسراتيجيتهم أخلاقيا، حتى من منظورهم الثقافي القيمي، مثل إقناع عرق أو جنس ما بأن له الحق الأخلاقي في إبادة الآخرين أو استعبادهم أو نهب ثرواتهم.
تنقسم الأخلاق المعيارية[3] إلى ثلاث مجموعات كبيرة، هي:
–الأخلاق الواجبة: وترى أن الفعل يعد جيدا من الناحية الأخلاقية إذا أنُجز من منطلق الواجب أو بدافع احترام القانون، ويفترض هذا النهج الوجود الموضوعي لبعض الالتزامات الأخلاقية القابلة للتطبيق، تحدد الفعل الجيد والفعل السيء بغض النظر عن النتائج.
–الأخلاق النفعية: وترى أن الفعل الجيد هوالذي يحقق أقصى قدر من السعادة نفعا واستمتاعا.
–أخلاق الفضيلة: وهي التي تهتم بالجانب الأخلاقي في الروح.
ولكن هل للاستراتيجية قواعد ومعايير؟ الحقيقة أنه يوجد انقسام بين المنظرين حول وجود قواعد استراتيجية يمكن الاستناد إليها أثناء التفكير، فالبعض يرى أن الاستراتيجية ترتبط بطبيعة الدور الذي تؤديه الشخصية، وآخرون يتحدثون عن قواعد استراتيجية منها: حرية الفعل التي يُفضل أن تكون مُطلقة، والتكيف وحسن التصرف، لكن هذا المبدأ يبرر عدم الحاجة إلى المباديء من البداية.
وهناك من يرى أن وجود الأخلاق يشكل قيدا على الاستراتيجية، وكذلك تشكل الاستراتيجية قيدا على الأخلاق، ومن ثم تصبح حرية الفعل مرتبطة بالسياق، لذا فالسياق والقدرة على التكيف يعدان محددان مهمان لكل من الاستراتيجية والأخلاق، فالاستراتيجية لا تنشأ في فرغ بل تنشأ في سياق معين ووفقا لأهداف سياسية تتأثر بالمعايير الأخلاقية والاجتماعية، وعلى هذا ينظر البعض إلى الاستراتيجية على أنها فن وليست علما.
ويلاحظ أن الذين ينظرون إلى الاستراتيجية خارج النطاق الأخلاقي يقعون في خطأ: أنهم يحددون جوانب معيارية لما يرونه بعيدا عن الأخلاق، فكثير من دراسي العلاقات الدولية يتحدثون عن بُعد أخلاقي في السياسة الدولية، حتى الفلاسفة من أنصار الفلسفة الوضعية الذين يميلون إلى الفصل التام بين علومهم ومعارفهم وبين الجانب الأخلاقي، فلكل نظرية قدر من المعيارية، ومع ذلك تظل الاستراتيجية من النظريات التي تسببت في قمع الأخلاق أكثر من غيرها، رغم استنادها إلى خطاب أخلاقي في السياسة الدولية، لكن قصر كلمة استراتيجية على المدلول الحربي فقط، ضيق علاقتها بالأخلاق.
السبب الوجيه لا يقل أهمية عن السيف والدرع، بل قد يكون الموقف الأخلاقي في بعض الأحيان أكثر فعالية من السلاح، ومن ثم فهناك علاقة تتوطد بين الأخلاق والسياسة، فالاستراتيجية إحدى وسائل السياسة، والتكتيك إحدى وسائل الاستراتيجية، والسياسة لها بعد أخلاقي لا يمكن إغفاله، والقاعدة تقول :”إن أي مشروع استراتيجي يجري استيحاؤه والوصول إلي شرعيته من خلال الرؤية السياسة التي تشتمل على رؤية أخلاقية” وتتجلى هذه القاعدة في الأنظمة الديمقراطية.
يؤكد الكتاب أنه إذا كان هناك مجال في الاستراتيجية لا يتوافق مع الأخلاق فإن ذلك يتعلق بالاستخبارات، التي تبدو أنها غير خاضعة لأية قيود أخلاقية، لكن منذ عقدين من الزمان أخذت الأنظمة الديمقراطية تمد رقابتها البرلمانية على كثير من تلك الأنشطة.
مشكلة الغاية والوسيلة
إن نقطة التقاطع بين الاستراتيجية والأخلاق تمر عبر السياسة، وإحدى قواعد الاستراتيجية هي معرفة أوجه التناسب بين المخاطر والوسائل، فالاستراتيجية هي: “فن توزيع وتنفيذ الوسائل العسكرية بغرض استكمال الأهداف السياسية”.
والحقيقة أن الإنسان منذ القدم يمتلك ضميرا أخلاقيا يستطيع من خلاله أن يميز بين الفعل الجيد والسيء، والوسيلة عندما توصل إلى الفعل الجيد يعطيها الكثير من الناس بُعدا أخلاقيا، لكن هل استخدام الوسائل غير الأخلاقية يعد أخلاقيا للوصول إلى المُثُل الأخلاقية؟ وهل الشر قادر على تحقيق الخير؟
هناك تنوع في الرؤية الغربية، فأتباع المنهج الهيجلي[4] يرون أن الشر ضرورة لتحقيق الخير، لأن الشر هو المحرك للتقدم، أما أتباع المنهج الميكيافيللي فيرون أن الوسائل مشروعة، فالغاية تبرر الوسيلة، لكن مشكلة الوسائل غير الأخلاقية ترتبط بـ”مشكلة الأيدي القذرة”، والتي صاغها “مايكل فالزر”[5] لتبرير أول قصف للحلفاء ضد المدنيين الألمان في الحرب العالمية الثانية وأسماها “الضرورة القصوى” من أجل منع انتصار النازيين بأي ثمن.
ولكن هل تتحمل الاستراتيجية أن تكون سببا للمشكلات الأخلاقية؟ هنا يٌعاد طرح مسألة أخلاقية الحرب، والقانون الدولي الإنساني[6] (DIH) ، وكما يقول المنظر الاستراتيجي الشهير “كلاوزفيتز”[7] “لا يمكن للمرء أن يتطرق إلى مبدأ الاعتدال عند الحديث عن فلسفة الحرب نفسها من دون أن يرتكب حماقة عبثية” ويطرح آخرون مسألة “النصر بأي ثمن” ويقصدون بالثمن هو استبعاد الأخلاق، مثلما استخدمت الولايات المتحدة استراتيجية “الصدمة والرعب” في بعض حروبها، معتبرة أن السير في هذا الطريق هو الأعنف لكنه الأسرع لكسب المعركة، وبرر هؤلاء أن القصف العنيف هو شر من أجل تحقيق الخير الأكبر وهو إنهاء المعركة.
لكن تجاهل الاعتبارات الأخلاقية يعتبر من الأخطاء الاستراتيجية لأنه يزيد من التكلفة السياسية للنصر، لذا أخذت بعض الافكار الاستراتيجية تظهر لتحقيق الهدف بطريقة غير مباشرة، مثل:” إن أفضل طريقة لتحقيق الهدف هو تحقيق ذلك من خلال استهلاك أقل كمية من الطاقة وإحداث أقل قدر من الضرر” و”أن الهدف من الحرب ليس القضاء على الخصم ولكن كسر إرادته”، لذا تعتبر الاستراتيجية غير المباشر أكثر توافقا مع الأخلاق، وقد عبرت عنها بعض المقولات الاستراتيجية مثل قول “ليدل هارت”[8] :”الكمال الاستراتيجي يعني الوصول إلى نتيجة حاسمة من دون خوض معركة حقيقية”، كذلك حصر الحرب في أضيق حدودها[9]، وكبح جماح التصعيد، ورغم ذلك فإن القول بأن الاستراتيجية غير المباشرة أقوى من الناحية الأخلاقية، لأنها تتجنب الخسائر، أمر غير مجمع عليه في المعسكر الأخلاقي، بل يرى الأخلاقيون أن تلك الاستراتيجية هي أيضا غير أخلاقية.
ولكن هل هناك إفادة متبادلة بين الأخلاق والاستراتيجية؟
يمكن قياس تأثير الأخلاق في الاستراتيجية من خلال قدرة الأخلاق على ردع الاستراتيجية، أو تشجيعها، بل يمكن للأخلاق أن تلجأ إلى قانون القوة والحرب لتحقيق مبادئها، وفي هذه الحالة يمكن أن نصف الأخلاق بأن لها استراتيجية، ويتجلى ذلك في حالات التدخل الإنساني وحق استخدام القوة للدفاع عن النفس، والكفاح ضد الاستعمار.
والحقيقة أن الدافع الأخلاقي في الحرب يساهم في التحفيز على دخولها، والتضحية من أجلها، ويضفي شرعية على الحرب ذاتها نظرا لعدالة الأسباب المحفزة على الحرب، وتلجأ بعض الدول أثناء الحرب إلى تشكيك خصمها في عدالة قضيته وضعف الغطاء الأخلاقي للصراع الذي يخوضه، فالقتال الأخلاقي له أهمية استراتيجية، لذا لجأت بعض الدول الكبرى إلى تبني استراتيجية جديدة تتمثل في “كسب القلوب والعقول” باعتبارها أمرا حيويا، وتُستخدم هذه الاستراتيجية تجاه المتمردين لصرف الدعم الشعبي عن تأييدهم.
[1] قامت جهود متنوعة في الحقل السياسي الإسلامي لصياغة نظرية إسلامية في العلاقات الدولية، وظلت كثير من الجهود فردية متناثرة، حتى قام المعهد العالمي للفكر الإسلامي عام 1987 بتبني فكرة مشروع “العلاقات الدولية في الإسلام”، وأسند الإشراف والتنفيذ لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، بجامعة القاهرة التي قامت بتشكيل فريق بحثي في يناير 1988، واستمرت عمليات النقاش والتحليل والبحث والجمع نحو خمس سنوات، وعمليات الصياغة نحو 5 سنوات أخرى، وكان هذا المشروع هو الأضخم في تاريخ الفكر الإسلامي، لتطوير الدراسات القرآنية في مجال العلاقات الدولية.
[2] من الكتب المهمة التي ناقشت القضية كتاب “من دارون إلى هتلر” From Darwin to Hitler للمؤلف ريتشار فيكارت Richard Weikart، الذي تناول الغطاء الأخلاقي الذي أعطته نظرية داروين في التطور للنازية، حيث قدمت للنازيين نسبية الأخلاق باعتبار ذلك مبررا لتغييرها، وبالتالي أصبحت قدسية الحياة نسبية، فقامت النازية بعمليات التعقيم الجماعي والنقاء العرقي والمذابح الجماعي ، وقتل الأطفال المعوقين والمرضى، فقد كان النازيون يقتلون المعاقين، ويسمون ذلك بـ “القتل الرحيم” ورأى النازيون أن المعاقين يستهلكون ولا يفيدون المجتمع، وأن البقاء يجب يكون للأصلح.
[3] الأخلاق المعيارية هي التي تحكم على مدى أخلاقيات أي سلوك على أساس مدى ملاءمة هذا السلوك للقواعد أو المعايير
[4] ينسب هذا المنهج الجدلي القائم على فكرة التناقض والصراع إلى الفيلسوف الألماني هيجل أو هيغل المتوفى 1831م
[5] مفكر سياسي أمريكي يهودي وُلد عام 1935، مهتم بالموضوعات والقضايا التي تتعلق بالدين والحرب والنظرية الاجتماعية، وفكرة الحرب العادلة
[6] لا تحظى معاهدات القانون الدولي الإنساني بالقبول العالمي إلا بعد أن تعتمدها جميع الدول رسمياً إما عن طريق التصديق عليها وإما بالانضمام إليها، يتألف القانون الدولي الإنساني من مجموعة من القواعد التي تهدف إلى الحد من آثار النزاعات المسلحة. ويحمي القانون الدولي الإنساني الأشخاص الذين لا يشاركون أو الذين يكفون عن المشاركة في الأعمال العدائية. وهو يقيد وسائل وأساليب الحرب.
[7] كارل فون كلاوزفيتز عسكري ومؤرخ حربي بروسي، توفي 1831، من أهم كتبه “عن الحرب”
[8] مفكر استراتيجي بريطاني توفي عام 1970، وله (31) كتاب في العسكرية والاستراتيجية
[9] لعل أفضل حديث عن أخلاقيات الحرب، ما أوصى به الخليفة أبو بكر الصديق لجيشه المتجهة إلى الشام عام 12هـ، قائلا:” قال: يا أيها الناس، قفوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عنى: لا تخونوا ولا تغلوا، ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيراً، ولا شيخاً كبيراً ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاةً ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمأكلة..”