الإسلام دين ومنهج، يوازن بين متطلبات الروح من العبادة ومتطلبات الجسد من الماديات. وتضمنت الشريعة الأحكام التي تنظم حياة المسلم؛ سواء أكان منتجاً أو مستهلكاً. وللإسلام علاقة بالاقتصاد وتطور الأسواق وأساليب التسويق.
تقوم المعاملات الإسلامية على حرية البيع والشراء في سوق يتسم بعدم وجود احتكارات ومنافسات احتكارية أو بيوع محرمة. حيث تقوم السوق الإسلامية على المنافسة التعاونية؛ التي هي الشكل العملي لسوق تدفع إلى العدل في التعامل، وتحسين نوعية المنتج، وزيادة الإنتاج في جو من البر والتقوى والنصح والرقابة والتوجيه. هذه السوق لا تعرف المنافسة الشرسة “قطع الرقاب” كما في النظام الرأسمالي ولا تعرف الاحتكار[1]، يقول رسول الله ﷺ: “الجالب مرزوق، والمحتكر ملعون” (صحيح البخاري).
كما أنها خالية من الربا، يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُون﴾ (البقرة: 278 –279). وقد وضع فقهاء الإسلام دستوراً يقوم على حماية المستهلك لتحقيق الخير للفرد والمجتمع. ويمكن من خلاله التعامل مع المتغيرات التي تطرأ على الأسواق بما يخدم مصالح المستهلك وتحميه من نفسه ومن التاجر أو المنظمة.
ويستقطب موضوع حماية المستهلك اهتمام الهيئات الرسمية والشعبية في دول العالم، خاصة بسبب الجهود التسويقية النشطة من قبل البائعين والتي قد لا تراعي دائماً المبادئ المهنية المقبولة اجتماعياً. وحماية المستهلك موضع اهتمام لجميع مستهلكي السلع والخدمات، وتختلف هذه الأهمية حَسَب مستويات الدخل؛ فكلما انخفض مستوى دخل المستهلك زاد الاهتمام بموضوع حماية المستهلك.
وتُعنى حماية المستهلك عموماً بإمداد المستهلك بالمعلومات الموضوعية عن السلع والخدمات الموجودة بالسوق؛ لكي يتمكن من الاختيار واتخاذ قرارات رشيدة في عملية الشراء، وإعلام المستهلك بالقوانين واللوائح التي تحكم الجودة في المنتجات، وتقديم العون والمساعدة له في حالة وقوع ضرر وتقدمه بشكوى، وتمثيله لدى الجهات المعنية.
إن المبادئ التي تقوم عليها حركات حماية المستهلك؛ كانت في بداية الستينيات من القرن الماضي؛ نتيجة تطور الوضع وحوادث وقضايا مختلفة أدت إلى تزكية روح الحاجة إلى حماية المستهلك. وكان أساسها دعوة الرئيس جون كيندي؛ وتلك المبادئ هي: حق المستهلك في الأمان Safety The right to، والحق في المعلومات The right to be Informed، وحق الاختيار The right to choose، وحق المستهلك في أن يُسمع The right to be heard.[2]
أهمية المستهلك وتطور الأسواق
إن المستهلك هو الذي يحدد صفات ونوعية المنتجات في السوق، ويتم ذلك بشكل جماعي من خلال آليات العرض والطلب، ويطلق على ذلك مبدأ “سيادة المستهلك”. كما أن المستهلك هو نقطة البداية؛ إذا أرادت المنظمة أن يكون سلوكها موجه بالتسويق Marketing Oriented. فالتخطيط يبدأ بالعميل (المستهلك)؛ ماذا يريد، متى، أين، وبأي سعر؟ كما أن رضاء العميل أو المستهلك في البيئة التنافسية (التنافس على العملاء) يكون هو المؤشر الأهم لنجاح المنظمة، ويعني أن منتجات الشركة أو المنظمــة يجب أن تحقق أو تجاوز توقعات العميل، وبالتالي يمكن الاحتفاظ بالمستهلك أو العميل.
إن متغيرات العولمة وتطور الأسواق والتدفق الحر للمعلــومات عبر شبكة المعلومات الدولية (الإنترنت).. أثرت على قرارات المستهلك وأدت إلى ازدياد الرغبـــة لديـــه في الحصول على المنتج في أسرع وقت؛ دون توافر الرضا الكافي، من هنا زادت الأهميــــة لحـــركات حماية المستهـــلك.
وتعتبر التجارة الإلكترونية من أهم المتغيرات العالمية الاقتصادية. استمدت فكرة التجارة الإلكترونية من مفهوم التسويق المباشر (شراء المستهلك حاجاته من السلع والخدمات بدون تدخل وسيط)، ويعتمد على البيع بدون متجر مادي. وتعرف التجارة الإلكترونية (التعريف المعتمد من منظمة التجارة العالمية) بأنها المعاملات التجارية في المنتجات التي تتم بين جهة تجارية وأخرى Business to Business (B2B) أو بين المستهلك وجهة تجارية Business to Consumer (B2C) باستخدام تقنية المعلومات والاتصالات. وتقوم الجهة التجارية أو منظمة الأعمال التي تعتمد على نموذج B2C بالتركيز على الاحتفاظ بعملائها، وهي تستخدم الجوانب النفسية والعاطفية في التأثير على المستهلكين.
أداب وأخلاقيات التجارة الإلكترونية
وفي مجال أداب وأخلاقيات التجارة الإلكترونية؛ يجب أن تتوفر في المتعاملين صفات: الصدق، يقول رسول الله ﷺ: “البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، أو قال حتى يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما” (رواه البخاري عن حكيم بن حزام)، والأمانة، يقول الحق سبحانه وتعالى:﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً ﴾ (النساء 58)، والعدل والقسط؛ يقول رسول الله ﷺ: “من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه، فقد أوجب له الله النار” (رواه مسلم). والإحسان، والوفاء بالعهود والعقود والمواثيق، والنصيحة والإرشاد. وهذه القيم والأخلاقيات تؤدي إلى معاملات مستقرة تقوم على الثقة والأمن والأمان في سوق حرة متنافسة خالية من صور أكل أموال الناس بالباطل.[3] إن المنافسة المشروعة تعني حق التجار في اختيار المنتجات التي يتاجرون فيها وحق الدخول في السوق وفي عرض منتجاتهم، وكذلك المستهلكون لهم الحق في اختيار نوع وكمية المنتجات التي تشبع حاجاتهم الشرعية وكذلك أصحاب عوامل الإنتاج (أصحاب رأس المال وأصحاب الأرض وأصحاب العمل) لهم حق عرض منتجاتهم دون قيد. والمنافسات المشروعة خالية من الغش والخداع وتعتمد على التعاون بين التجار وأن يعملوا على إرضاء المستهلكين وتقديم أفضل المنتجات بأسعار مناسبة وبهامش ربح معتدل، يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ (المائدة: 2).
وفي الإسلام توجد قواعد كثيرة تحمي المستهلك من نفسه ومن التجار ومن جور السلطان. ووسائل حماية المستهلك في الإسلام[4]: الرقابة الذاتية (عند المستهلك والمنتج والتاجر والمُعلِن)، يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَة” (القيامة: 14) أي شاهد ومحاسب، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يقول الله تبارك وتعالى: ” وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ” (آل عمران: 104)، ونظام الحِسبة. إن مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد يصبح عديم الجدوى إذا لم يسانده بعض القوة والزجر (السلطة)؛ قال رسول الله ﷺ: ” من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان”.
وعُرِفَت الحِسبة بأحكام السوق، وكان عامل الحِسبة يسمى والي السوق أو صاحب السوق. والحِسبة لغة “الاحتساب” بمعنى ادخار الأجر، ويكون بمعنى الاعتدال بالشيء، ويكون من الاحتساب بمعنى حسن التدبير، ويقال فلان حسن الحِسبة بمعنى حسن التدبير والنظر في الأمور. ووالي الحِسبة أو المحتسب هو الناظر في شئون الحِسبة، كما هو أيضاً موظف يعينه الخليفة أو الوزير أو القاضي للنظر في شئون الحِسبة. ولوالي الحِسبة أو المحتسب صفات يجب أن يتصف بها، أهمها: الإيمان والتقوى والعدل والصدق والأمانة والعفة والنزاهة والكفاء الفنية (تأهيل علمي وعملي بمتطلبات الهنة)؛ كما يجب أن يكون مسلماً لأن الحِسبة من الواجبات الدينية، ومكلفاً، وقادراً على أداء أعمال الحِسبة وفق أحكام ومبادئ الشريعة الإسلامية.
ومن أهم وظائف المُحتَسِب في الرقابة على الأسواق:[5]الرقابة على الموازين والمكاييل والمعايير والعلامات التجارية، والرقابة على الأسعار والمحافظة على توزان الأسعار في حالات الضرورة، ومنع سيطرة الولاة على السوق، ومنع المكوس والضرائب الغير مباشرة، والرقابة على الجودة، والمحافظة على الأمن والأمان الاجتماعي للمستهلك، ومواجهة الأزمات والمجاعات، والرقابة الصحية (مراقبة الأغذية – الصيادلة…).. كما يقوم بوضع مقاييس الإنتاج ومواصفات المنتج والعمل على رفع الكفاءة الإنتاجية.. إلخ
وتقابل هذه الوظيفة في وقتنا الحاضر مزيج من سلطات رجال الدين، ورجال الشرطة، ورجال التموين، والصحة، والشئون البلدية، ومصلحة الكفاية الإنتاجية، والمكاييل والتوحيد القياسي.[6]
وأهم القواعد الإسلامية التي تحكم السلعة ولها دور في حماية المستهلك: أولاً: الضوابط الإنتاجية للسلع والخدمات وتحديد المأكولات والمشروبات والملبوسات والخدمات المحرمة، ثانياً: ضوابط الاستيراد، ثالثاً: ضوابط الجودة.
إن المشترين أو المستهلكين (رغم أهميتهم) هم الطرف الأضعف في العلاقة مع التجار والمنظمات، وقواعد الإسلام في الرقابة الذاتية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونظام الحِسبة عملت على تحقيق الحماية للمستهلك، وتحقيق التوازن بين البائع والمشتري، كما يمكنها (إذا تم تطبيقها) من مواجهة متغيرات العولمة وتغول المنظمات وعدم قيامها بالخدمات ما بعد البيع كما ينبغي.. بالإضافة إلى مواجهة المنظمات في حال تجاهلها لمسئولياتها في تنفيذ بعض شروط العقد، لأن أسلوب العقود (بين البائع والمشتري) والتوثيق من الضوابط الإسلامية في مجال حماية المستهلك. يقول الله تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ۚ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ ۗ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾ (المائدة: 1). ويضمن احترام نصوص العقد جودة السلع، وعدم التلاعب بالأسعار من جانب البائع، وضمان مواعيد التسليم، وضمان تسليم السلعة ذاتها وبنفس المواصفات.
ويقوم بهذه الوظيفة حالياً جهاز حماية المستهلك، حيث يقوم المحققون بالجهاز بهذا الدور بعد تلقي الجهاز الشكوى من المستهلكين أو المشترين وبما يحقق مصلحة المستهلك في الحصول على منتج مطابق للمواصفات واحترام العقود كما يؤدي إلى تحقيق الجودة في المنتج.
[1] عبد الحميد الغزالي، حول المنهج الإسلامي في التنمية (المنصورة: دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع، 1989م)، ص81.
[2] صديق محمد عفيفي، إدارة التسويق (شبين الكوم: مطابع الولاء الحديثة، 2003م).
[3] حسين حسين شحاتة، التجارة الإلكترونية في ضوء أحكام الشريعة الإسلامية، بحث منشور في موقع دار المشورة: http://www.darelmashora.com/
[4] حسين شحاتة، مشروع إسلامي لحماية المستهلك، منشور في موقع إسلام أون لاين: )
[5] بدوي فهمي محمد علي، الضوابط الإسلامية لحماية المستهلك بين الفقه الإسلامي والتطبيق المعاصر، رسالة ماجستير غير منشورة، معهد الدسراسات الإسلامية، 1994م.
[6] محمد بن محمد بن أحمد القرشي “عُرِف بابن الأخوة”، معالم القُربة في أحكام الحِسبَة، تحقيق محمد محمود شعبان، صديق أحمد عيسى المطيعي (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1976م) ص 23، 25