طالبت الدكتورة فاطمة إسماعيل، أستاذ الفلسفة بكلية البنات جامعة عين شمس، باحترام عقول الأطفال، وعدم ازدراء تساؤلاته مهما بدت غريبة أو كبيرة؛ فهو يملك الكثير من البراءة والدهشة، بما يجعله يمارس النشاط الفلسفي بحرية وجرأة أكثر من الكبار.
وأشارت، في محاضرتها بـ”صالون عبد الحميد إبراهيم الزمبيلي” بالقاهرة، بحضور نخبة من المفكرين والباحثين، إلى أن اهتمام الفلسفة بالأطفال له تاريخ طويل في الغرب، وأن “اليونسكو” اهتمت بموضوع ممارسة النشاط الفلسفي والتفكير الفلسفي مع الأطفال الصغار، وأوصت بأن تكون ممارسةً تعليمية، وموضوعًا للمنح الدراسية الأكاديمية، وتم ذلك بالفعل في أواخر الستينيّات من القرن الماضي.
وقسّمت د. فاطمة إسماعيل محاضرتها إلى قسمين، تناول الأول “الفلسفة للأطفال”، أي كما هو الاهتمام التطبيقي الغربي بتدريس الفلسفة للأطفال.. بينما تناول القسم الثاني “الفلسفة والأطفال”، أي كما هو واقع هذه العلاقة في عالمنا العربي.
وأضافت: منذ ستينيّات القرن العشرين أصبحت الممارسة الفلسفية مع الأطفال والمراهقين حركة عالمية متعددة التخصصات؛ تشتمل على ابتكارات في المناهج وطرق التدريس والنظرية التعليمية وتعليم المعلمين في الفلسفة الأخلاقية والاجتماعية والسياسية وفي الخطاب والنظرية الأدبية. وقد خلقت مجالاً أكاديميًا جديدًا لفلسفة الطفولة، وهو نوع من “الفلسفة التطبيقية”.
نشاط التساؤل
وأوضحت د. فاطمة إسماعيل أن العنصر المشترك بين الطفولة والفلسفة هو “نشاط التساؤل”؛ الذي هو أخص خصائص الفلسفة، فالفلسفة يكفيها طرح التساؤل، وليس بالضرورة أن توفر الإجابات؛ بل من الصعب أن تنتهي الفلسفة إلى إجابات نهائية، نظرًا لطبيعة الأسئلة التي تطرحها الفلسفة؛ فهي أسئلة ترتبط بالوجود وبالإنسان وبمعنى الحياة.. ولها العديد من الإجابات، والإجابات غير النهائية.
وتابعت: عرَّف “هيدجر” الفلسفة بأنها القدرة على طرح السؤال؛ فهي ذلك الضرب من التساؤل الذي كشف عنه سقراط وأفلاطون وأرسطو الذين كانوا يسألون دائمًا. وفي الفلسفة، كما يقول “رسل”، تكمن الأهمية القصوى لطرح السؤال؛ أما مهمة العثور على جواب فهي تقع في المرتبة الثانية.
وتابعت: إن طرح السؤال أكبر دليل على الانفتاح المستمر على محاولات الفهم؛ فهم المعنى، معنى الوجود الحياة المصير، الحاضر المستقبل، المابعد.. على أن ندرك أن الفهم المطلق لا نصل إليه أبدًا. لذلك يرى الفيلسوف الإنجليزي “كولنجوود” أن الفلسفة نشاط مستمر في أذهاننا، لاتصل قط إلى هدفها النهائي، ولا تَقْنع أبدًا راضيةً بما تصل إليه. والأطفال يتساءلون بطبيعتهم، والطفل يمارس نشاط التساؤل بحرية لأنه يمتلك البراءة والدهشة، وقد يطرح تساؤلات يعجز عنها الكبار.
وذكرت أستاذ الفلسفة جامعة عين شمس أن الفلسفة نشاط مستمر في أذهاننا، ولا تصل قط إلى نشاطها النهائي.. مشيرةً إلى أهمية ما ذكره الفيلسوف والمؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” عن: كيف ننظر للطفل بوصفه نموذجًا للفلسفة، فالأطفال يقومون بـ”حركات الاستطلاع الجزافية”، وعندهم “القدرة الاستكشافية”، ويمكن أن نجعل “الطفل بداية الفلسفة ونهايتها”؛ فهو يمارس الفلسفة بوصفها نشاطًا متحركًا لا جامدًا.
وأوضحت أن الغرب نشأت فيه “حركة الفلسفة من أجل الأطفال”، وازدادت شعبيةً في بعض البلدان الغربية، وازداد الاعتراف بها خاصة أنه في اجتماع الخبراء بمقر “اليونسكو” في باريس عام 1998، تم التأكيد على ضرورة تقديم المبادئ الفلسفية لصغار الأطفال. وهناك العديد من الفلاسفة وعلماء النفس الذين اهتموا بتربية الطفل فلسفيًا، بل هناك من بحثوا لدى الطفل عن أصل الفلسفة، باعتبار أن الطفولة تمثل بداية الوعي بالذات.
من التجارب الغربية
وأشارت د. فاطمة إسماعيل إلى عدة تجارب في تدريس الفلسفة للأطفال، منها ما قام به الفيلسوف الأمريكي “ماثيو ليبمان” الذي أسس عام 1974 معهد تطوير الفلسفة للأطفال في ولاية نيوجرسي الأمريكية ، وانتقلت التجربة إلى معظم دول أوروبا. ولم يكتفِ “ليبمان” بأن يعلم الأطفال الاستدلال ومبادئ المنطق في شكل ممتع، حين كتب رواية جعل فيها الأشخاص تكتشف بنفسها هذه المبادئ؛ بل الأهم من ذلك تركيزه على كيف يمكن أن يطبقوا هذه المبادئ في حياتهم.
وتابعت: يرى “ماثيو” أن تفكير الأطفال أكثر جرأةً ونضجًا من بعض الكبار، وأن نقاط القوة لدى الطفولة تمثل نقاط الضعف لدى الكبار، والعكس صحيح.. كما دعا إلى الحوار بين الأطفال والكبار.
وذكرت أن من أهم المبررات التي جعلت “ماثيو” يهتم بعلاقة الأطفال بالفلسفة، أنه كان منشغلاً بالصراعات التي كان يواجهها “الأطفالُ مختلطو الأعراق” في الستينيات؛ فبدأ يفكر في مخاطر أن تكون عقول الأطفال عرضة للتلاعب. ومن وهنا، وجد ضرورة تعزيز قدراتهم للتفكير وتقويتها بهدف الدفاع عن أنفسهم، وكان النهج الذي استخدمه هو “الخيال الفلسفي للأطفال”؛ أي تعليمهم وتوجيههم من خلال أنه يعيد بشكلٍ مقصودٍ ومنهجي بناءَ المسائل والنقاط الفلسفية الرئيسية، باللغة المتاحة للأطفال، ولجميع الأعمار.
وأضافت: هناك العديد من المؤلفات التي تحمل عناوين مهمة تتعلق بالفلسفة للأطفال منها: كتاب “أليسُن جوبنك” وآخرون: (الطفل الفيلسوف- ماذا تقول لنا عقول الأطفال عن الحقيقة والحب ومعنى الحياة؟)، الذي نُشر عام 2009م. كما توجد محاولات لإدخال الفلسفة أو تبسيطها من خلال “أدب الأطفال”، واستخدام “الكتب المصورة” لتحفيز الطفل.. بحيث تكون المفاهيم الفلسفية في متناول الأطفال، وتكون “الروايات” بوصفها هنا طُرقًا لتدريس الفلسفة.
تجربة من بوركينا فاسو
كما تناولت د. فاطمة إسماعيل تجربة أخرى، تمت في “بوركينا فاسو”؛ حيث قام “دانييل ويدراجو”، مدرس ابتدائي، بتجميع ستة عشر طفلاً من أطفال الشوارع تتراوح أعمارهم بين 10 و17 سنة، وذلك في شهر نوفمبر 2006، بهدف نقاش شروط حياتهم. واقترح موضوعات للتفكير عن: الصدق، والصراحة، والكرامة، والتضامن، والشجاعة، والعمل، واحترام ملكية الغير، والنظافة.
وتابعت: كان هدف “دانييل” تمكين هؤلاء الأطفال من امتلاك روح المواطنة، من أجل تغيير إيجابي.. وأسفرت منهجيته عن نتائج إيجابية مشجعة؛ فقد قَبِل العديد من هؤلاء الأطفال تعلم مهنة أفضل من ممارسة السرقة وغيره.
عن واقعنا العربي
وفي المحور الثاني للمحاضرة، وهو عن الفلسفة والأطفال في واقعنا العربي، أشارت د. فاطمة إسماعيل إلى أن واقعنا العربي به نظرة سلبية للفلسفة، ولأسباب عديدة.. والمفارقة أنه حتى طالب الفلسفة الجامعي لا يعرف كيفية الدفاع عن الفلسفة، ولا مبررات تدريسها.
وذكرت أن “اليونسكو” اهتمت بالفلسفة، وخصصت لذلك يومًا عالميًا، هو “الخميس الثالث من شهر نوفمبر”؛ وتم الاحتفال به لأول مرة في 21 نوفمبر 2002م، وبعض الدول تجعل الاحتفال بذلك يمتد لأسبوع أو لشهر.
وأبدت الدكتورة فاطمة أسفها لأن بعض المسئولين عن العملية التعليمية يغيب عنهم أهمية تدريس الفلسفة للأطفال.. مضيفةً: علينا أن نحدد مَن أطفالنا المقصودون بتعلم الفلسفة؛ هل هم أطفال الأسر المستقرة، أم غير المستقرة، أم المشردون، أم الذين لا يجدون ما يسد رمقهم، أم أطفال الأسر التي حدث بها انفصال، أم الأيتام؟
ولفتت إلى أن الجميع مَعْنيّون بتعلّم الفلسفة؛ فنحن أمام أطفال يعيشون الحياة بكل ألوانها، ويتساءلون، ويتعرضون لمختلف المواقف والأحداث.. وهذه الخبرات والمواقف تفرض عليهم العديد من التساؤلات.. فنحن أمام تحدٍّ يفرضه واقعنا في العالم العربي.
تتكاتف جميع المؤسسات
وفي تساؤلها عن “ما الفلسفة التي نريد لأطفالنا أن يتعلموها؟”، أوضحت د. فاطمة إسماعيل أن هناك فرقًا بين الفلسفة وممارسة التفلسف، والنشاط الفلسفي العفوي أو الفطري الطبيعي؛ فالطفل يمارس الفلسفة وربما لا ينتبه لذلك.. كما أنه يطرح التساؤل من واقع الحدث، بما يذكِّرنا بـ”أسباب النزول” في ثقافتنا الإسلامية.
وأكدت ضرورةَ أن تتكاتف جميع المؤسسات في الارتقاء بأحوال الأطفال، لاسيما فيما يخص التعليم عامة، وتعليم الفلسفة خاصة.. وأن يكون هذا التعليم من واقعنا ثقافتنا وبيئتنا ومشكلاتنا واهتماماتنا.
وطالبت الآباءَ أن يحترموا عقول أبنائهم، وألا يصادروا تساؤلاتهم مهما بدت غريبة أو كبيرة، وأن يجتهدوا في تبسيط الإجابة، بل أن يتعلموا من أطفالهم القدرة على التساؤل والدهشة.. فطريقة تعامل الآباء ستحدد للأطفال لاحقًا كيفية تعاملهم مع الحياة ومع ما يوجههم من مشكلات وتحديات.
تجربة مع الحفيد
وذكرت د. فاطمة إسماعيل، ومن خلال تجربتها الشخصية مع حفيدها، حين تُوفيت والدتها، أن الطفل قد يطرح تساؤلات كبرى، مثل العلاقة بين الروح والجسد، ومصير الروح بعد الموت، وكيفية اتصال الروح بالجسد بعد ذلك.. لافتةً إلى أن الشاعر صلاح جاهين قد مرّ بتجربة مماثلة، حين سألته ابنته عن الله تعالى؛ فأجابها بقصدة مبسطة بعنوان “يعني إيه ربنا.
وانتهت أستاذة الفلسفة بجامعة عين شمس إلى أن مدينة الفلسفة ذات أبواب كثيرة، يدخل منها الناس جميعًا.. مدينة لا تقتصر على الفلاسفة بل نسكنها جميعًا، يسكنها الإنسان البسيط والشباب والأطفال.. كل إنسان يعيش في مدينة الفلسفة، شئنا أم أبينا؛ لأنها مدينة الحياة وطرق العيش، عيش الحياة وآلام الحياة.. مَن منا لا يفكر في أمور حياته؟! من منا لا ينشغل بالهم والقلق؟! من منا لا يألم ولا يشعر ولا يحس ولا يحلم ولا يدرك ولا يتساءل؟!.. من منا لا يريد أن يفهم معنى الحياة، ومعنى الوجود والمصير؟!.. إلى غير ذلك من تساؤلات هي من صميم الفلسفة وموضوعاتها.
تكامل العلوم
من جانبه، أوضح د. حسام الزمبيلي، أستاذ طب وجراحة العيون، أهمية تكامل العلوم جميعًا، الفلسفية والعلمية والأدبية؛ لأن كلاًّ منها يلبي حاجة لدى الإنسان، الذي هو كائن متكامل.
وأكد أهمية تبسيط العلوم أيضًا، بجانب هذا التكامل المعرفي، حتى تشيع الثقافة والمعرفة بين شرائح كثيرة من غير المتخصصين.. مضيفًا: أنا ممن يدعون إلى “تبسيط العلوم”، وإلى “تقصيص العلوم”؛ أي تحويلها إلى قصص، أو صبّ مضامينها في قصص، مما يجعلها محبَّبةً إلى النفوس، وسهلةَ الاطلاع عليها.
محاضرة نموذج
وفي تعقيبه، أثنى د. محمد صالحين، أستاذ الفكر الإسلامي بكلية دار العلوم، على المحاضرة، موجِّهًا تحية خاصة لالتزام الأستاذة المحاضرة بالوقت المحدد، بل إنها آثرت الحاضرين بعشرين دقيقة من وقتها؛ لأن النقاش لا يقل أهمية عن الاستماع.
وأضاف: هذه الحماسة الشبابية التي تحدثت بها أستاذتنا الفضلى المخضرمة، تجعلنا على يقين بأنها قد اختارت موضوعها بكل عناية، وعمدت إلى مقصد الإفادة الحقيقية، بعيدًا عن استعراض معلوماتي فارغ عن المضمون والنفع.
وأشار إلى تبلور قضية الفلسفة والطفل، أو الفلسفة للطفل، أو الطفل الفيلسوف، في فكرنا العربي الإسلامي بصورة أعمق، وأسبق منها في الثقافة الغربية، كل ما هنالك أن هذا المصطلح المصكوك لم يكن بهذا البريق؛ أما المنهج والمحتوى والمقاصد والوسائل فهي متجذرة في فكرنا العربي؛ قديمًا، ووسيطًا، ويانعة حديثًا، وحاضرًا، وواعدة مستقبلًا؛ بحول الله تعالى.