نتناول في هذه الحلقات مفهوم الأمة القطب عند أحد رواد الفكر الإسلامي وهي الرائدة منى أبوالفضل(1945- 2008)[1]، والتي طرحت مفهوم الأمة القطب وصفًا تحليلًا تنظيرًا، وهذا المفهوم ضمن خارطة معرفية تميز إنتاج منى أبوالفضل الفكري والمنهجي والذي يمكن رصده في العناصر التالية:[2]

1 – الإسهام في محاولات بناء منظور حضاري إسلامي معاصر. والفكرة البارزة في هذا الإسهام هو تأكيدها على “المنهج” أو “المنهاج” و”الإطار المعرفي” و”النسق القياسي” و”النماذج التحليلية” وكل هذه العناصر تمثل مضامين مختلفة تساهم في بناء هذا المنظور الحضاري الإسلامي المعاصر. وقد أكدت في هذا الصدد على ضرورة الوعي المنهاجي ونعت على الأمة التى تضيع منها الشرعة وتغيب عنها الغاية بعد أن أُخرجت على أكمل شرعة وأتم منهاج.

2 – التكامل المعرفي بين العلوم الشرعية والعلوم العصرية، أو كما أطلقت عليها “الإسلاميات” و”الإنسانيات”، وقدمت رؤيتها في هذه المعالجة في أكثر من موضوع لاسيما في بحثها الموسوم “نحو إعادة بناء الأمة الاجتماعية والشرعية : مراجعات منهجية وتاريخية” وقد قدمت في ذلك نموذجاً لمعالجة مسألة الفصل والازدواجية المعرفية في ميدان العلوم السياسية.

3 – دراسات المرأة من منظور حضاري إسلامي، كما تذكر نادية مصطفى في (ندوة العطاء الفكري لمنى أبو الفضل) أنها كانت ترفض ما يسمى بالدراسات النسوية وكانت تفضل المنظور الحضاري لدراسات المرأة، وقدمت نقدًا للفكر القائم على المدرسة الماركسية، والمدرسة الليبرالية، مضيفة تقاليد المدرسة الحضارية العربية الإسلامية في النظر للمرأة مفهومًا وتطبيقًا للمنظور الحضاري المعرفي التوحيدي.

الأمة القطب: الموضوع والمكانة

يمكن تحديد مكانة مفهوم “الأمة القطب” بين الإنتاج الفكري لمنى أبو الفضل في مكانة “القطب” بالنسبة لهذا الإنتاج حيث تتمحور حوله كل نتاج منى أبو الفضل سواء تلك التى تتصل بالمنهج أو مصادر التنظير، أو علم السياسة، أو التراث السياسي الإسلامي، فالخصوبة الفكرية التى اتسم بها طرح مفهوم “الأمة” و عمليتي التحليل والتأصيل اللذين اهتمت بهما منى أبو الفضل يوضحان أن مفهوم “الأمة” هو القطب بالنسبة لكافة الطرح الفكري بدءًا من الدعوة  لإحياء المنظور المعرفي التوحيدي، والتأصيل لمنظور حضاري إسلامي معاصر، ومعالجة الأزمة المعرفية، وتقديم طرح حضاري لدراسات المرأة المسلمة.

وأول ما يلفت الانتباه في التمهيد لهذا المفهوم عند منى أبوالفضل ما يتعلق بالشأن الثقافي والمعرفي لمفهوم “الأمة” وكيف أنه شغل مكاناً وجدانياً عندها قبل أن يشكل وعياً عقلياً، فإن المفهوم موضوع النظر – مفهوم الأمة القطب – كما تقول “قد انبثق عن معايشة وممارسة فعلية لحالة فريدة من التماهى على عدة مستويات، وفيما بين عدة دوائر : فهناك التماهى بين صاحب الفكرة وعين الفكرة، حيث امتزجت الفكرة وجداناً وتبلورت معنوياً على مستوى المعايشة، قبل أن تفرض نفسها تحدياً عقلياً يستوجب النظر والتمحيص، وتحرير المعنى على مستوى المنطق والعبارة والصياغة”.

 كما أن الالتفات لهذا المفهوم جاء نتيجة تفاعل الذات وأصالتها مع الواقع العلمي والأكاديمي لها والذى أحدث – كما تذكر- نوع من التماهى الذى ولد في إطار التحدي والاستجابة في منبر رسالي يجمع بين الطالب والأستاذ، ثم قبل هذا وذاك هناك التماهى الناجم عن معايشة مرحلة تاريخية تعج بجملة من المفارقات الناجمة عن واقع يزداد الشعور بدلالاته في محيط التعليم الجامعي حيث عمليات شحذ الوعي على ملامح واقع مأزوم، يزيده حدة موضوع الخطاب…وتقصد به هنا تدريس مادة “النظم السياسية العربية”.

      “الأمة القطب” إذن بدأ ذاتيًا من بعد وجداني وسياق علمي خاص إلى أن انتقل إلى “اللحظة الفارقة” أي أصبح “موضوعاً” للنظر والتأمل والدرس. وهذا ما حرصت الكاتبة أن تؤكده في أكثر من موضع حيث اهتمت بالتعريف بالسياقات الاجتماعية التى عايشتها والتى أدت إلى ظهور هذا المفهوم – موضع الدراسة – وفضيلتها أنها لم تخف ذلك بل أعلنته لإبراز أهمية “وظيفية الأفكار” وضرورة ارتباطها بالواقع المعاش من ناحية، وارتباط المفكر بواقعه من ناحية أخرى وهذا بعد اجتماعي حرصت الكاتبة على تأكيده في أكثر من موضع في هذه الدراسة.

وفيما يتعلق بالسياقات الاجتماعية التى أحاطت ببروز هذا المفهوم على مستوى التشكل العقلي لديها تقول “نشأت كفتاة مسلمة ارتبطت بالقرآن ارتباطًا وجدانيًا تأكد بالمعايشة والممارسة، وكنت على حب شديد وإيمان عميق بحضارة إسلامية ووجود إسلامي أتلمس أصوله وأفتقده في الواقع. ومن ناحية أخرى، وجدتني في مسار حياتي العلمية ضمن السلك الجامعي أقوم بتدريس مساقات في العلوم السياسية ومنها مادة “النظم السياسية العربية”… التدريس هناك – كلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة – شأنه شأن الدراسة في الجامعات الحديثة  كان يتم من منطلق علم السياسة والفكر السياسي المعاصر الذى يدور في إطار المنظور التغريبي، والذى لا علاقة له بالعلوم التي نسميها إسلامية أو الإسلاميات أو الشرعيات أو نظام التعليم التقليدي”.

وهنا بدأ المفهوم – الأمة القطب – في بداية التشكل والانتقال لكونه موضوعًا رأت منى أبو الفضل ضرورة “تأطيره” و”تأصيله”. وفى سياق اجتماعي أكثر اتساعًا لاحظت المؤلفة ذلك التطور المفصلي الذى بدأ يلوح في أفق الفكر السياسي العالمي، والذى وجد له أصداء في أوساط جامعية في قلب العالم العربي، وما أثاره من أسئلة لا عن طبيعة العلاقة بين الدين والسياسة وموقع الدين من الثقافة المعاصرة، بل على مستوى وعي منهاجي جديد يدعو إلى مراجعة الفصل التعسفي بين العلوم والمعارف، خاصة بين الدراسات الاجتماعية والدراسات الشرعية، هذا الفصل أو الازدواجية التى نجمت عن تراجع التعليم الديني أو التقليدي وإهماله ،رأت الكاتبة أن ذلك يدعو إلى ضرورة إيجاد “بنية جديدة لمناهج التعليم تستوعب القيم المعرفية الإسلامية وتدمجها ضمن المناهج العلمية الحديثة، أو على نحو أدق : أن تتم مراجعة المنهجية الحديثة على ضوء مصادر معرفية وقيمية إسلامية”.

هذه دعوة في أحد أشكالها للتكامل المعرفي في معالجة لأزمة الفصل المعرفي” أو “الازدواجية المعرفية” التى كانت من أبرز التأثيرات لحركة التغريب ومشروعها الفكري؛ حيث شق نظام الإعداد والتكوين الإسلامي إلى نصفين نتج عنهما نظامين فكريين في مجال التربية والتعليم واصطلح على تسميتها : التعليم الديني والتعليم المدني.

مفهوم “الأمة” والتكامل المعرفي 

حاولت منى أبو الفضل تقديم معالجة للأزمة المعرفية التى أصابت العالم الإسلامي بدءًا من القرن الـ 19 والتي تتعلق بالفصل بين شئون الدين والدنيا وتعميم ذلك على كافة ميادين العلوم والفنون والنظم وهو ما تبناه المشروع التغريبي في هذه الفترة-كما أشرنا -، وكانت هذه المحاولة من خلال معالجة مفهوم “الأمة” معالجة معرفية لرأب هذا الصدع. فتتساءل مستنكرة ” إن الأمة موضوع “إسلاميات” ! ونحن إذ نؤصل في العلوم الاجتماعية والسياسية الحديثة في عصر سمته “التحديث” و “العصرنة” و”العلمنة” ومن تبعاته الفصل بين الدين والدولة وتعميق التخصص بين فروع العلم والمعرفة فما بالنا نخلط بين الإسلاميات والإنسانيات؟ ولماذا لا نترك موضوع الأمة في الإسلام لعلماء الدين وفقهاء الشرع ونعكف نحن على تحليل ظواهر المجتمع العصري الذى نحن بصدد تشييده؟

وتجيب على هذا التساؤل بسؤال تراه ضروريًا في متن الجواب وهو : ألم يأت علينا بعد ذلك الحين من الدهر الذى نقوم فيه برأب الصدع المفتعل بين “الإسلاميات” و”الإنسانيات”؟ وألسنا الأجدر بأن نأخذ زمام المبادرة لتوحيد أسس وقواعد بنياننا الفكري والنفسي لنعيد دمج الإسلاميات بالإنسانيات، وعلوم الفقه والشرع بعلوم الحياة واجتماع الأحياء؟

  وفى دعوتها لإعادة النظر في هذا “الفصام الأعرج” بين العلوم العصرية والعلوم التقليدية، تعتبر أن موضوع “الأمة” في الإسلام يأتي في سياق بوادر هذه الدعوة لرأب الصدع في البناء ومد الجسور بين الإسلاميات والإنسانيات وتوحيد الكيان الجماعي للذات الحضارية في أصولها الكيانية بين وجدان الأمة وعقلها وفكرها.

لماذا “الأمة” لا “الدولة”؟

طرحت “منى أبو الفضل” مفهوم الأمة في الوقت الذى كان مفهوم “الدولة” مطروحًا على الساحة لاسيما في عقل الحركات الإسلامية، وهى تبرر ذلك الطرح بالخصوصية التى أولاها الإسلام للأمة، حيث أنها ترتبط بالعقيدة الدعوة، مما أضفى عليها – أي الأمة – بعداً غيبياً إضافة إلى أبعاد تكوينية ووظيفية وغائية معلومة، (وتؤكد أنه وفقاً للمنظومة المعرفية التى تتبناها للتحليل فإنها لا تقصد بالغيبي النقيض أو المنافي للعقلي، بل هو أصل يتقاطع معه ويتكامل معضداً ومثبتاً له على نهج عقلنه “الرشادة” دون ما عقلنة الوضعية المعاصرة).

  وتضيف – أيضًا – أن الأمة ارتبطت بالتوحيد وهو وعاء الرسالة الخاتمة، فالرسول (r) – عندما مات لم يخلف إمامة أو دولة، ولكنه ترك أمة انبثقت منها المؤسسات والمدارس والأئمة والدول. فليست الدولة في الإسلام مداراً للأمة قياماً وتطوراً وامتداداً وضموراً ولكن الأمة تدور مع العقيدة، والعقيدة هي منطلق بقاء الأمة. أما الدولة فقد تكون أو لا تكون فبتأسيسها تكتمل مقومات البنية العمرانية للأمة، وتكون أداة الذود والمدافعة عنها وتمثيلها وصيانة مصالحها ونظمها.

إن الفارق بين الأمة والدولة جوهريًا ووظيفيًا وعمليًا من حيث النشأة والدور، فالدولة ليست بالمنشئ للأمة أو البديل عنها، ولكنها تدخل في عداد الهيئات المكملة أو المتممة، بقدر ما تؤمن للكينونة الجماعية الأم شروط الحضور التاريخي الفاعل (ومن نفس المنطلق فإن الدول في حال تفريغها من مقاصدها العليا، وتمييع أصولها، قد تعيق هذا الحضور، وتشله، ولكنها لا تبطله، ولا تنفيه). أما نشأة وتواصل وحضانة ومناعة وخصائص هذه الأمة فشيء آخر في المناط والبقاء. وطالما أن هناك قرآنًا فهناك أمة، وتبقى تلك الأمة بخصائصها الأصلية ودورات تنشئتها المنيعة هي “الوعاء البشرى المحكم للقرآن الكريم” سواء وجدت بالقوة أو بالفعل ولو تمثلت في فرد مثل إبراهيم عليه السلام.


[1] منى محمد عبد المنعم أبو الفضل المولودة في القاهرة ( 1945- 2008 )، تخرجت في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة عام 1966، وحصلت على الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة لندن عام 1975، وعملت أستاذًا زائرًا بالمعهد العالمي للفكر الإســلامي بواشـنطن من 1986-1995 ,و أسـتاذاً زائراً في جامعة العلوم الإسلامية والاجتماعية بواشنطن والتي شاركت في وضع برامجها التأسيسية من 1995-2008 ,والتحقت بهيئة التدريس بجامعة القاهرة منذ عام 1976. كما شــاركت في العديد من المؤتمرات العربية والدولية خصوصا في الولايات المتحدة وبريطانيا وكانت عضوًا في الجمعيات العلمية المتخصصة في مجالات العلوم السياسية والعلوم الاجتماعية.

[2] انظر:

– منى أبو الفضل: المدخل المنهاجي لدراسة النظم السياسية العربية, القاهرة, دار السلام للنشر والتوزيع, 2013م.
– منى أبو الفضل: “النظرية الاجتماعية المعاصرة: نحو طرح توحيدي في أصول التنظير ودواعي البديل”، ترجمة: عارف عطاوي، بيروت، إسلامية المعرفة، السنة الثانية، العدد السادس، سبتمبر 1996م.
– منى أبو الفضل، طه جابر العلواني: مفاهيم محورية في المنهج والمنهجية، القاهرة، دار السلام، 2009م.
– منى أبو الفضل: “نحو منهاجية للتعامل مع مصادر التنظير الإسلامي، بين المقدمات والمقومات”، القاهرة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1996م.
– منى أبو الفضل، طه جابر العلواني: نحو إعادة بناء علوم الأمة الاجتماعية والشرعية, القاهرة , دار السلام, 2009م.
– منى أبو الفضل: الأمة القطب .. نحو تأصيل منهاجي لمفهوم الأمة في الإسلام،القاهرة, مكتبة الشروق الدولية 2005م.