يحكي الشهرستاني في كتاب الملل والنحل سؤالا يسأله إبليس للملائكة، يصور إبليس نفسه فيه أنه كان محقا بعدم سجوده لأدم ساعة طلب الله منه ذلك.
يقول إبليس للملائكة : لِم لعنني الله وأخرجني من الجنة حينما رفضت السجود لآدم؟ فأنا لم أرتكب ذنبًا، إلا قولي لله : “لا أسجد إلا لك”!
قال الشهرستاني: وهذا السؤال من إبليس موجود في شرح الأناجيل الأربعة: إنجيل لوقا، ومارقوس، ويوحنا، ومتَّى، ومذكورفي التوراة .
وينقل الشهرستاني عن شارح الإنجيل قوله : فأوحى الله تعالى إلى الملائكة عليهم السلام، قولوا له: إنك في تسليمك أني إلهك وإله الخلق غير صادق ولا مخلص، إذ لو صدقت أني إله العالمين ما احتكمت علي بِلِمَ، فأنا الله الذي لا إله إلا أن لا أُسْألُ عما أفعل، والخلق مسئولون.
إجابة ضعيفة
هذه الإجابة المقدمة من شارح الإنجيل، مثال واضح على الإجابات الضعيفة، التي تعزز الشبهة أكثر مما تدحضها، فإن إبليس هنا يسوّق نفسه على أنه مظلوم بائس، وأنه كان بين أمرين من الله:
الأول : أمره إياه ألا يسجد إلا له.
والثاني : أمره إياه أن يسجد لأدم، ليجد إبليس نفسه بين فكّي الرحى، فإذا هو سجد لآدم، يكون قد عصى الأمر الأول، وإذا لم يسجد يكون قد عصى الأمر الثاني، فلا سبيل أمامه إلا أن يكون عاصيا أمام تناقض الأمرين الإلهيين – تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرا- !
ثم تأتي هذه الإجابة لتتجاوز هذه الشبهة، وتقرر أنه ليس من حق أحد أن يسأل الله؛ لأنه هو الإله، {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23]
مكمن ضعف الإجابة
ويبرز مكمن ضعف الإجابة من وجوه :
الأول : أن إبليس لم يقدم تساؤله في صورة اعتراض على الله، ولا منازعة له في ألوهيته، ولكنه قدَّمه على أنه يَسأل عن وجه ذنبه، أي ما الذي أذنب فيه إبليس تحديدًا! فالسؤال هنا مشروع لو كان إبليس صادقًا.
الثاني : أن الإجابة فيها إقرار بوجود أمرين إلهيين متعارضين، وأننا إزاء هذه الأوامر الإلهية المتعارضة، لا يحق لنا سوى التسليم والإذعان؛ لأننا عبيد، وهو الإله.
وهذه كارثة؛ فإن الله {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ } بسبب كمال علمه وحكمته، وليس لأن أفعاله عريَّة عن الحكمة ! فمن ذا الذي يعلم أكثر من الله حتى يُسائله ! [شفاء العليل (ص: 268)]
ولا يمكننا أن نغادر هذا المقام إلا ببيان الإجابة الصحيحة المقنعة، وإلا كان ضرر هذا الكلام أكثر من نفعه، وكنا قد أسأنا من حيث أردنا الإحسان!
مغالطة إبليس
إبليس لم يرفض السجود لآدم؛ لأنه اختار ألا يسجد لغير الله، ولا لأنه وجد نفسه بين أمرين متعارضين.
ولكنه رفض السجود كما حكى القرآن عنه ؛ لأنه { أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 34]
لقد مُنح إبليس حق الدفاع عن نفسه أمام الله، فسأله الله تعالى كما حكى القرآن : { مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12]
فأجاب إبليس : { أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12]
فلو كان المانع – كما يزعم هذا الزعم الكاذب- هو معارضة الأمر بالسجود لآدم مع التوحيد، لذكر إبليس ذلك في دفاعه عن نفسه أمام الله!
لكنه لا يستطيع أن يخدع الله عز وجل، أو أن يكذب عليه، فنَطَق بالسبب الذي منعه على الحقيقة من السجود، وهو ( الكِبْر) فعِلة الرفض، علة ذاتية من عند نفسه المتعالية الرافضة للإقرار بأفضلية آدم عليه السلام.
كما أن أمر الله عز وجل للملائكة ولإبليس بالسجود لآدم ليس متعارضًا مع توحيدهم لله؛ لأن هذا السجود بمثابة الإقرار لآدم بالخلافة والتفضيل والتكريم، وليس هو سجود عبادة.
ويتضح لنا ذلك أيضًا من قوله تعالى : {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } [ص: 75] فبين الله تعالى أن علة السجود هو تكريم آدم، وتفضيله بخلقه بيديه، كما أن أمر الملائكة بالسجود لآدم جاء بعد أن أخبرهم أنه جعله خليفة، {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] أي بعد أن أخبرهم بتفضيله إياه، فكان سجود الملائكة لآدم بعد ذلك بمثابة الاعتراف بتفضيله.
وعلى ذلك ، فقول واضع هذه الشبهة أن إبليس رفض السجود لآدم؛ لأنه بسبب أنه لم يُرِد أن يسجد لغير الله، هذا التعليل زور وبهتان من صنع شياطين الإنس، ولم يستطع إبليس نفسه أن يزعمه ، أو هو لم يحدث منه في مقالته التي أخبرنا الله عنها في كتابه !
الإجابات المقنعة من واجبات المرحلة
وبعدُ، فهذا مثال واحد لمئاتٍ من الإجابات الضعيفة التي تموج بها كتبنا، التي تعزز الشبهة بأكثر مما تبددها، وقديمًا، أخذ النقاد على الرازي في تفسيره أنه يذكر الشيهة نقدًا، ويذكر الإجابة عليها نسيئة !
ولئن كانت هذه الإجابات، كانت تُسَكِّن عقول المسلمين يومًا ما، فإنها باتت اليوم في ظل الفضاءات المفتوحة، تمثل سخرية من واضعيها، وليت الأمر يقف عند هذا، بل إنها تنتقل من السخرية إلى الإيمان بضعف الفكر الإسلامي، وربما تهافته، وذلك إن لم يخلق ملحدًا، فإنه يخلق مؤمنًا على حرف، تموج في رأسه الشبهات بأكثر مما تستقر في نفسه البينات، فمعرفته بدينه، معرفة لا تطمئن بها القلوب، ولا تحيا بها النفوس، و لاتخنس معها الوساوس، ولا تثبت أمام مضلات الفتن.
فهذه دعوة لمن يكتب عن الإسلام أن يبصر دواعي المرحلة الجديدة، وأن يرتقي بخطابه حتى يصير مقنعًا، فهذا واجب من واجبات المرحلة.