لم تسلم ترجمات القرآن الكريم إلى اللغات الأوربية من خطر الإسرائيليات ، فكما صاحبت الإسرائيلياتُ أمهات كتب التفسير ولم تكد تنفك عنها ، فقد أوجدت لها مرتعا خصبا وفضاء فسيحاً لإشاعة أفكارها في الترجمتين الأصليتين للقرآن الكريم إلى اللّغة اللاّتينية، فقد ظلّتا إطارا مرجعيا لكل الترجمات الأوروبية للقرآن الكريم .

فمن المؤكد أن كلَّ تراجم القرآن الكريم المعتمدة إلى اللغات الأوربية اعتمدت على هذين الترجمتين الأصليتين، وهما:

أولا: ترجمة بطرس المبجل.

يميل أغلبُ المستشرقين إلى أنّ بطرس المبجل، رئيس “دير كلوني” هو الذي أمر بوضع أول ترجمة للقرآن الكريم إلى اللّغة اللاّتينية. وقد ذهب “بلاشير” إلى أن ذلك كان من تكليف المؤسسة الدينية الغربية عندما استشعرت بخطورة الزّحف الإسلامي في أوروبا([1]).

وتلبية للواجب الدِّيني تنقل بطرس في أقطار أوروبا للشروع في خطّته، وحطّ أخيرا بالأندلس ليجد من يتولى ذلك من اليهود الدارسين للغة العربية. وقد سعى لتحقيق هذا كل من روبرت كونت ROBERT KENET وهومن الدالماتي HEMANN DELMATI، فأخذ الأول على عاتقه ترجمة القرآن من العربية إلى اللاتينية، مع مقدّمة قصيرة. أما دالماتي فقد كُلّف بأن يكتب سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأركان الإسلام وتاريخه، وأن يُدبّج ذلك كله بإسرائيليات عبد الله بن سلام وأساطير يهودية([2]).

سجّل بلاشير ملاحظته النّقدية حول هذه الترجمة قائلا  : «إن التّرجمة لم تكن أمينة ولا كاملة للنّص»

انتهى كونت من ترجمته سنة 1443م ، وقام بطرس بإرسالها مع الإسرائيليات التي خطّها دالماتي إلى رئيس الأديرة برنار كاليفو BERNARD DE CLAIVEAU مرفوقة ببرقية تؤكد وجوب التّصدي للإسلام بالكلمة. فأمرُ هذا الدِّين قد استفحل، وصار يقضُّ المضاجع.

إن ميزَة هذه التّرجمة أنها تستند إلى العديد من الإسرائيليات ، وتعمد إلى استخراج المعاني التخمينية بدون تحليل أو فهم حقيقي للّغة العربية. وقد سجّل بلاشير ملاحظته النّقدية حول هذه الترجمة قائلا  : «إن التّرجمة لم تكن أمينة ولا كاملة للنّص»([3]).

والجدير بالذّكر أن المستشرقين مدينون لهذه التّرجمة، باعتبارها المصدر الأوحد للتّرجمات الأوروبية، وكذلك لأنها الرّكيزة الأساسية والمأمونة في نظرهم للبدء بدراسات حقيقية وجديّة حول الإسلام. وتتجلّى قيمةُ هذا العمل اليهودي في مضمونه، والمسيحي في مظهره بداية التأريخ الحقيقي للاستشراق([4]).

ثانيا: ترجمة يوهانس بورتيوس.

يعتبر بعض المؤرخين التّرجمة الأولية للقرآن الكريم إلى اللّاتينية هي التي قام بها يوهانس بورتيوس من “بال” بسويسرا عام 1524م. وما يميز هذه الترجمة أنها استهلت بمقدمة لرائد التّهويد المسيحي مارثن لوثر، حملَت بين دفتيها تعليقات وتحليلات وكتابة مقدمات طويلة حافلة بالتشويه، والتي انصبَّت كلُّها على نقد القرآن، وعدم صحَّة مصدره، واستناده إلى المصادر الإسرائيلية والمسيحية([5]).

خلاصةُ القول، إن التّرجمات الأولية للقرآن الكريم إن بدت المبادرة فيها مسيحية فإن الأيادي اليهودية بثت كثير من الإسرائيليات فهي التي باشرت العمل، وإن التّرجمة التي تمّت بإشراف الرّاهب بطرس المبجل هي التي اعتمدت كمرجع أساسي لأي ترجمة أوروبية للقرآن الكريم.

وإنه من العسير أن نتتبع الإسرائيليات في كل التّرجمات الأوروبية، ولكن نكتفي بالإشارة إلى أحدث ترجمة إنجليزية تقدم إلى الغرب، وكذلك إلى الشرق الإسلامي بأيدي المسلمين.

يعتبر بعض المؤرخين التّرجمة الأولية للقرآن الكريم إلى اللّاتينية هي التي قام بها يوهانس بورتيوس من “بال” بسويسرا عام 1524م

ففي الشّرق الآسيوي المجال لترجمة القرآن فسيح، حيث ملايين المسلمين من غير العرب يقرؤون كتاب ربهم مترجما إلى الإنجليزية التي مكن الاستعمار البريطاني لها من منطقة نفوذ لغوي غالب.

وأحدث ما قدّم إليهم ترجمة عنوانها قرآن الطالب THE STUDENT’S QUORAN للدّكتور هاشم أمير علي. الذي عاد من الولايات المتحدة بدرجة الدكتوراه، فتبوَّأ في العلوم الإسلامية مقعدَ عميد كلية الدِّراسات العليا في الجامعة الإسلامية بنيودلهي.

وظهرت ترجمتُه في سنة 1961م مطبوعة في وقت واحد في فروع دار النشر الآسيوية بالعواصم الكبرى لأمريكا وأوروبا وآسيا. ووزّعت على أوسع نطاق، ومنحت نسخ منها هدايا إلى أعضاء مؤتمر المستشرقين الدولي الذي انعقد في نيودلهي في يناير 1965م. وقد اعتمد في ترجمته على التراجم الإنجليزية للقرآن، وجعل من الإسرائيليات مرجعا ومصدرا([6]).

نقتصر هنا على ذكر ترجمة هاشم أمير علي لكلمة الوحي الأولى (اقرأ) باعتبارها نموذجا للطّريقة في تفسيره وشاهدا على نفوذ الإسرائيليات إلى عقله، ومثالا لما يقدّم إلى الشعوب الإسلامية غير العربية من جديد الفهم العصري للقرآن الكريم.

بدأ فترجم كلمة “اقرأ” بـ CRY أي اصرخ وصح. ثم ذكر أن للكمة في الإنجليزية وجوها عديدة. منها: الدّعاية والإعلان والإشهار والإعلام والتعليم والتبشير.

وقد يبدو غريبا أن المفسّر وهو يسوق هذا الحشد من التأويلات في ترجمة الكلمة القرآنية “اقرأ” لم يجد موضعا بينها لكلمة الإنجليزية -READ- وهي وحدها التي يمكن أن تعطي دلالة القراءة.

ولكن هذه الغرابة تتلاشى حين يربط آيةُ الوحي الأولى بالفقرة الأولى من الإصحاح 58 من سفر إشعيا، ولم ينقل نص الفقرة المشار إليها من هذا الإصحاح. وكأنه أوجس خيفة بأن لا يجد القارئ أدنى مشابهة بين الآية القرآنية ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ وفقرة التوراة «ناد بصوت عال لا تمسك ارفع صوتك كبوق، وأخبر شعبي بتعديهم، وبيت يعقوب بخطاياهم».

ونحن بدورنا نتساءل عن سبب ربط الآية القرآنية بسفر إشعيا، مع الإحجام عن ذكر نصه على القراء ، لكيلا يكتشفوا زور التوثيق بتدليس موهم ؟

إن التّرجمة التي تمّت بإشراف الرّاهب بطرس المبجل هي التي اعتمدت كمرجع أساسي لأي ترجمة أوروبية للقرآن الكريم

وبالإضافة إلى ذلك أردف الدكتور المترجم تفسيره هذا بالحديث عن الرّسول وما كان يشغله قبل البعثة من تفكير في حال قومه ، وما كان يحضر في ذهنه دائما من مرويات وقصص قدامى رسل اليهود . وكيف تمكنوا من أتباعهم من الضلال . فهل يكتب له أن يحقق ذلك مثلهم ؟

الكلام بهذا المعنى ردده المستشرق اليهودي جولد زيهر في أكثر من مرة، وشايعه عليه ثلة ٌمن المستشرقين، فليكن أحد الباحثين المسلمين هو الذي يبثّه في عقول الجماهير من مسلمي الهند والشرق الآسيوي. وهم بعيدون بحكم السّيادة اللّغوية الإنجليزية على المجال الثّقافي هناك، قراءة وكتابة عن المصادر الإسلامية العربية.

ونتساءل مع عائشة عبد الرحمن: هل يكفي هذا ليكون شاهدا حقا على حركة الإسرائيليات التي يتبناها المستشرقون اليهود، فيصل بهم الأمر إلى إيجاد ترجمة تحوي أفكارا إسرائيلية يقدمها باحث مسلم عميد لكلية الدراسات العليا بجامعة نيودلهي الإسلامية. مطبوعة في كبرى العواصم، وموزّعة على أوسع نطاق، ومهداة إلى علماء الإسلام من شرق أو غرب([7]).

و هذا الكلام ينطبق على أحدث ترجمة باللّغة الفرنسية للقرآن الكريم، وأشهرها على الإطلاق، وذلك لارتباطها بالمستشرق جاك بيرك. الذي يضعه الباحثون على رأس قائمة المستشرقين المنصفين، ومع ذلك فإنه لا يستبعد في ترجمته التي نشرت عام 1995م بأن القرآن مدينٌ في أكثر نصوصه إلى تأثير مزامير داود، نبي إسرائيل ومؤسس مملكتهم.

 


 

([1]) ريجي بلاشير، القرآن؛ نزوله؛ ترجمته وتأثيره، ص15.

([2]) عمر لطفي العالم، المستشرقون والقرآن،ص18.

([3]) ريجي بلاشير، القرآن ، ص15.

([4]) قاسم السامرائي، الاستشراق بين الموضوعية والافتعال، ص21.

([5]) سامي سالم الحاج، الظاهرة الاستشراقية وأثرها في الدراسات الإسلامية، ج1، ص309-310.

([6]) عائشة عبد الرحمن، الإسرائيليات في الغزو الفكري، ص156- 157.

([7]) المرجع نفسه، ص195.