الإسراف في القرآن الكريم: إن الله عز وجل نهى عن جميع معاني الإسراف، سواء كان الإسراف بالمبالغة في العطاء والبذل، أو كان في التقصير بالبخل والتقتير. ومصداق ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ﴾ [الإسراء: 29]
ومن هاهنا نخلص إلى أن الاعتدال هو قوام الحياة، وهو الوسط والعدل والخيار؛ ذلك أن الزيادة على المطلوب في الأمر إفراط وغلو، والنقص عنه تفريط وجفاء.
وكل من الإفراط والتفريط وهو الإسراف ميل عن الاعتدال، الذي تتوازن به مسيرة الإنسان وحركته في الحياة الدنيا.
تحذيرات القرآن من الإسراف
وإنما خص الله جل ثناؤه المسرفين بالذكر في القرآن الحكيم مع توجه الأمر بالإيمان والطاعة والاعتدال في السلوك إلى الجميع، لأنهم أئمة الكفر والفسق والفجور، ورؤساء الضلال والشرك، وما وقع من سواهم من الدهماء إنما وقع باتباعهم وإغوائهم، فكان توجيه الأمر إليهم أكيد. وهؤلاء المسرفون تجاوزوا حد المباح، وتعدوا الحد في الحلال والحرام، ينفقون أموالهم في المعاصي، ويظلمون الناس بغير حق، ويسفكون الدماء التي حرم الله جل ذكره إلا بالحق، ويكذبون على الله تعالى ورسله لصرف الناس عن الدين الحق.
آثار الإسراف على المجتمع
وهكذا لأنهم قادة الجميع، وزعماء الفسق والخروج عن طاعة الله تعالى، فإذا أسرفوا تبعهم سائر الناس، وعمّ في الأمة الفسق والمنكر، وأحاطت بهم خطاياهم، لذلك استحقوا الهلاك.
على أن الإسراف عامل من أقوى وأسرع عوامل التفتت الاجتماعي؛ لأن الانغماس في مرتع الشهوات المحرمة وإشباع الغرائز الجامحة يميت الشعور بالنخوة، ويقتل الإحساس بالعزة والغيرة، ويجعل الرذائل من مألوفات الحياة في المجتمع الذي يقوده المسرفون؛ إذ يجعل هؤلاء الرذائل ميدانا للتنافس الفاجر، فلا يهتم أحد برفع رأسه إنكارا لها، بل يجد المجتمع في كبرائه المترفين المسرفين من ينكر على من ينكر الرذائل، وتصبح الفضائل الخلقية والقيم الروحية غرائب في نظر هذا المجتمع المنحل المتحلل: ﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ [النمل: 56]. وعندئذ تحق عليهم كلمة الله وسنته، ويحل بهذا المجتمع المسرف في الشهوات الدمار والهلاك: ﴿فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ ﴾ [النمل: 57-58].
العلاقة بين الإسراف والعدل الاجتماعي
ومن زاوية أخرى، فإن القرآن العظيم ينبه إلى معادلة واضحة ولكنها خطيرة وحاسمة في آن واحد، وهي: أن اختفاء العدل، وتعاظم الثروة في أيدي قلة من الناس وانعدام التوازن في المجتمع يؤدي حتما إلى ظهور الغنى الفاحش والإسراف. وإذا كان الكتاب العزيز قد عالج الغنى الفاحش وما يتمخض عنه من إسراف كظاهرة هدامة في كيان أي مجتمع، تنبثق عنه دوما مواقف سالبة وإجرامية كالإفراط في الاستهلاك والتبذير، والانغماس في مراتع الشهوات والتحلل الأخلاقي، أو تفشي البخل والشح وجمع المال، وظلم الغني للفقير وسلب قوته اليومي، فمعنى هذا أنه يريد مجتمعا عادلا معتدلا متوازنا كبديل لظهور الإسراف الذي يعصف في النهاية بكيان المجتمع وينحدر به إلى هاوية الانهيار، فيصبح أثرا بعد عين.
خطر الإسراف على الأمم
وعلى العموم، فإن الإسراف ظاهرة خطيرة على سلامة الأمم والمجتمعات الإنسانية؛ إذ من عواقبه: الجمود على فكر الآباء، والتكذيب بالآخرة، وتبلد الحس بكثرة المعاصي والخطايا الكبار، والتعالي على دعوات المصلحين من الرسل والأنبياء وغيرهم، ورفض كل دعوة للتغيير، خوفا من المسرفين على ما في أيديهم من سلطان ومال وجاه.
على أن أسوأ ما في الحضارة المسرفة هو تزييف الواقع وقلب الحقائق؛ إذ لا تقتصر على التغاضي عن المساوئ والمفاسد، بل تسوّغها وتشجعها، وتجعل منها قاعدة من قواعد الحياة بعد أن تطلق عليها أسماء جديدة وبريئة في زعمها.