“قيمة العقل هي في إعماله”..حقيقة أكدها الإسلام، وحث على التمسك بها، وحذر تعطيل الإنسان للحواس التي يستقي من خلالها العقل معرفته ورؤيته، وتدرج بالعقل في عملياته من التفكر والتأمل والتدبر والاعتبار للوصول إلى الحقيقة والغاية من الحياة، والإجابة على سؤال المصير.

 

وقد طالب القرآن الكريم أتباعه بأن ينتقلوا من الحالة العقلية التي يخلقها التفكر والتأمل إلى الحالة الإيجابية ألا وهي الاعتبار، تلك العملية التي تنقلهم من حال إلى آخر، فالاعتبار فعل إيجابي مبني على رؤية عميقة جمعت بين التأمل في تجارب الآخرين وبين الرغبة في الاستفادة منها وأخذها في الحسبان عند الشروع في حركة وفعل جديد يتلافى ما وقع فيه الآخرون من أخطاء وسوء تصرف.

الاعتبار في الرؤية القرآنية

الاعتبار من الناحية اللغوية يرجع أصله إلى مادة “عبر” ومنها جاء العبور كالطرق والأنهار ونحوه، ومنها تفسير الرؤى الذي ينقلها من حيز الخيال والأحلام إلى مجال التفسير واكتشاف الدلالة وفك الشفرة، لهذا كانت “العبرة” من أسماء الدموع، حيث تحول التأمل إلى حالة شعورية أفصحت عن نفسها في قطرات انحدرت من العين، ومنها عابر السبيل الذي ينتقل من مكان إلى آخر بحثا عن غايته وسعيا للوصول إلى هدفه.

هذه الدلالة اللغوية بمعانيها المتعددة تكشف أن الاعتبار لا يقف عند حدود الفهم والانفعال الساكن ولكن يتعداه إلى مجال جديد من الفعل الواعي المتعظ بتجربة مُشاهدة طمعا في النجاة وطلبا للمصلحة والنفع، لذا فالاعتبار عملية عقلية إيجابية تتخذ من المشاهدة والملاحظة خطوة أولى للحركة الواعية في المستقبل، ثم تلجأ إلى القياس بين الحالة المُشاهدة وبين الواقع كعملية عقلية وسيطة للوصول إلى نتائج يمكن الاستفادة منها مستقبلا، لذا فالاعتبار عملية تجمع بين النقد الواعي للماضي، والإدارك الجيد للحاضر، والنظر المتفائل للمستقبل.

وقد ورد الاعتبار بمشتقاته اللغوية المتعددة في عدة مواضع في القرآن الكريم، منها قوله تعالى”وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ”[1]، جاء في تفسير الظلال أنه “لا بد من بصر ينظر وبصيرة تتدبر، لتبرز العبرة، وتعيها القلوب، وإلا فالعبرة تمر في كل لحظة في الليل والنهار!” فبدون الجمع بين الإدراك الحسي والإدراك البصائري لن يكون هناك اعتبار؛ فالكثير من الآيات مبثوثة في الكون لا تجد من يلتقطها ويعتبر بها، لذلك كان من روعة النظم القرآني أن الآية الكريمة التي تلت الآية السابقة قوله تعالى” زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ”[2] وفي تفسير الظلال أن”الاستغراق في شهوات الدنيا، ورغائب النفوس، ودوافع الميول الفطرية هو الذي يشغل القلب عن التبصر والاعتبار; ويدفع بالناس إلى الغرق في لجة اللذائذ القريبة المحسوسة; ويحجب عنهم ما هو أرفع وأعلى”.

ومن المواضع القرآنية التي ورد فيها الاعتبار، قوله تعالى “لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ”[3] و “وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ”[4] وقوله تعالى ” يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ”[5] و” وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا”[6] و” فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ”[7] و” إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَىٰ”[8] .

تسبيح المتيقظين

عندما سئلت والدة الصحابي الجليل أبو الدرداء-رضي الله عنهما- عن أفضل ما كان يحب ابنها أبو الدرداء من العبادة. أجابت: التفكر والاعتبار.

كان أبو الدرداء كثير الاعتبار، وينظر في أحوال الأمم السابقة ليأخذ منها العبرة والعظة، وينسب إليه مقوله “تفكر ساعة خير من عبادة ليلة” كان أبو الدرداء يأخذ من كل حدث ومشاهدة مادة لعبرة جديدة، فعندما فتحت قبرص سنة 28هـ وحُملت الغنائم الى المدينة المنورة، رآها فبكي، فقال له جبير بن نفير متعجبا: يا أبا الدرداء ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الاسلام وأهله ؟ فأجابه أبوالدرداء:”ويحك يا جبير، ما أهون الخلق على الله اذا هم تركوا أمره، بينما هي أمة قاهرة ظاهرة، لها الملك، تركت أمر الله، فصارت إلى ما ترى”.

وعندما أصبح أبو الدرداء واليا للقضاء في الشام خطب في الناس يوما ” يا أهل الشام ، أنتم الاخوان في الدين، والجيران في الدار، والأنصار على الأعداء، ولكن مالي أراكم لا تستحيون؟! تجمعون مالا تأكلون، وتبنون مالا تسكنون، وترجون مالا تبلغون، قد كانت القرون من قبلكم يجمعون فيوعون، ويؤملون فيطيلون، ويبنون فيوثقون، فأصبح جمعهم بورا، وأملهم غرورا، وبيوتهم قبورا، أولئك قوم عاد، ملئوا ما بين عدن الى عمان أموالا وأولادا” ثم ابتسم بسخرية وقال: “من يشتري مني تركة آل عاد بدرهمين؟!”

وذكر ابن الجوزي في كتابه “صيد الخاطر” وهو من الكتب النادرة في التراث الإسلامي، فقد ألفه “ابن الجوزي” في مدة طويلة، كان يمسك فيها تأملته التي زادت على (350) ويدونها في مادة مكثفة متوسطها (700) كلمة، وفي هذا الكتاب تحدث عن مصطلح فريد وهو “تسبيح المتيقظين” وهو اقتران التسبيح اللساني بالتأمل والتفكر والاعتبار، فهو تسبيح نتاج ثمرة الفكرة الذي يقود إلى تعظيم الخالق، يقول ابن الجوزي “تأملت على أكثر الناس عباداتهم فإذا هي عادات، فأما أرباب اليقظة فعاداتهم عبادة حقيقية، فإن الغافل يقول: سبحان الله عادة، والمتيقظ لا يزال فكره في عجائب المخلوقات أو في عظمة الخالق، فيحركه الفكر في ذلك فيقول: سبحان الله.. هذا التسبيح ثمرة الفكر؛ فهذا تسبيح المتيقظين”، لذا كان “أبو سليمان الداراني” كثير التفكر والاعتبار، ويقول”إني لأخرج من منـزلي، فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله علي فيه نعمة، أو لي فيه عبرة”.

ولكن هناك طائفة يمكن تسميتها بـ”المعطلة” التي تعطل الجوارح والحواس التي من خلالها يتحقق الاعتبار عن القيام بوظيفتها، قال تعالى “وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ”[9]  قال “ابن كثير ” ليس ينتفعون بشيء من هذه الجوارح التي جعلها الله  سببا للهداية”، وفي تفسير “المنار” يقول الشيخ محمد عبده عن هؤلاء ” لهم أبصار وأسماع لا يوجهونها إلى التأمل والتفكر فيما يرون من آيات الله في خلقه، وفيما يسمعون من آيات الله المنزلة على رسله، ومن أخبار التاريخ الدالة على سننه تعالى في خلقه، فيهتدوا بكل منها إلى ما فيه سعادتهم في دنياهم وآخرتهم “، وكان الشيخ يرى أن الفقه لابد أن يقترن بالعمل، ويقول”وفقاهة الأمر تقتضي العمل بموجبه “.

لذا انتقد جهل المسلمين بالعلوم الطبيعية، حتى وإن أخذها بعضهم فإنه يقلد الغرب ويبحث عن منافع الأشياء للاستفادة منها في الحياة الدنيا، دون أن تكون تلك العلوم موصلة له إلى الآخرة، فقال”ومن أصاب منهم حظا من هذه العلوم(يقصد المسلمين) فإنما أخذه عن الإفرنج أو تلاميذهم المتفرنجين فكان مقلدا فيه لهم لا مستقلا، ولم يتجاوز طريقهم في البحث عن منافع هذه الأشياء لأجل الانتفاع بها في هذه الحياة الدنيا“.

وفي رأيه ” يصدق على هؤلاء العلماء الذي استعملوا عقولهم وأبصارهم وأسماعهم في استنباط حقائق العلوم ونفعها المادي العاجل، ما يصدق على الذين أهملوا استعمالها، وآثروا الجهل على العلم بها “، قال تعالى” يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون”[10] ، وفي تفسير الظلال أن ذلك يرجع إلى” أن علمهم سطحي، يتعلق بظواهر الحياة، ولا يتعمق سننها الثابتة، وقوانينها الأصيلة، ولا يدرك نواميسها الكبرى، وارتباطاتها الوثيقة.. والذي لا يتصل قلبه بضمير ذلك الوجود، ولا يتصل حسه بالنواميس والسنن التي تُصرفه، يظل ينظر وكأنه لا يرى، ويبصر الشكل الظاهر والحركة الدائرة، ولكنه لا يدرك حكمته، ولا يعيش بها ومعها “.


[1] سورة آل عمران: الآية 13

[2] سورة آل عمران: الآية 14

[3] سورة يوسف: الآية 111

[4] سورة النحل: الآية 66

[5] سورة النور: الآية 44

[6] سورة المؤمنون: الآية 21

[7] سورة الحشر: الآية 2

[8] سورة النازعات: الآية 26

[9] سورة الأعراف: الآية 179

[10] سورة الروم: الآية 7