لا يتوقف عطاء القرآن الكريم، في جميع مجالات المعرفة الإنسانية، إما تفصيلاً أو إجمالاً أو إشارة؛ وتبقى جهود العلماء مطالَبة بالجد في الكشف عن مكنونات هذا الكتاب العزيز، وبالتفاعل مع هدايته، والتي منها ما يتصل بالإعجاز العلمي وتأكيد توافق القرآن الكريم مع حقائق العلم، وذلك دون تعسف في الفهم والتأويل، أو تعجل في تبني النظريات العلمية.
في هذا الحوار لـ”إسلام أون لاين” نتعرف مع الأكاديمي المصري الدكتور ناصر أحمد محمد سنه، على أهمية “الإعجاز العلمي” في الكشف عن معاني القرآن الكريم وهداياته، للمسلم ولغيره، بجانب التعرف على ضوابط هذه المسيرة المطلوبة، وأبرز من استضاءوا بنورها من غير المسلمين.
- القرآن الكريم يتميز بمفرداته المعدودات للدلالة على الحقائق الكونية
- الإعجاز العلمي طريق لإقناع غير المسلمين بصدق القرآن
- كثيرون أسلموا بسبب “الإعجاز” مثل “بوكاي”، و”لانج”، و”مور”
- ينبغي الإحاطة بدلالات الآيات ومعانيها طبقًا للغة العربية
- نحتاج رؤية جماعية في “الإعجاز” لصيانة القرآن ولمواكبة العلم
والدكتور ناصر سنه كاتب، وأستاذ ورئيس قسم الجراحة والتخدير والأشعة/ كلية الطب البيطري/ جامعة القاهرة. من مواليد محافظة القليوبية عام 1962م، وأشرف على عدد من رسائل الماجستير والدكتوراه، وله عشرات البحوث والدارسات العلمية التخصصية. كما أنه باحث في موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، وعضو هيئة تحكيم المجلة الأكاديمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة، ويسهم بالكتابة في عدد من المجلات والدوريات الورقية والمواقع الإلكترونية، وله ثلاثة كتب وأكثر من 500 مقال في مجالات معرفية وعلمية متنوعة.. فإلى الحوار:
لكم اهتمام بمجال الإعجاز العلمي.. كيف بدأ هذا الاهتمام؟
لعل بداية الاهتمام كان منذ مرحلة التعليم الثانوي نهاية سبعينيات القرن الفائت وما بعدها؛ إذ كان اللهث وراء “مقاربات عصرية حديثة” للنص القرآني الكريم، والحديث النبوي الشريف؛ فكانت كتابات الأستاذ عبد الرزاق نوفل رحمه الله تعالى: “القرآن والعلم الحديث”، و”الطريق إلى الله”، و”الإعجاز العددي للقرآن الكريم”، ثم تعمق أمر الإعجاز العددي مع استحداث برامج حاسوبية أكثر دقة وإحصاء.كما كانت كتابات الأستاذ وحيد الدين خان المترجمة إلى العربية لافتة وذاع صيتها مثل: “الإسلام يتحدى”، و”الدين في مواجهة العلم”. ثم ظهرت كتابات وأحاديث الشيخ “محمد متولي الشعراوي” رحمه الله تعالى حول “معجزة القرآن”، وصولًا إلى د. “مصطفي محمود” وكتبته وأعماله وبرنامجه الأشهر (العلم والإيمان). كذلك البرنامج التلفازي الماتع والشهير “عالم البحار” للدكتور “حامد عبد الفتاح جوهر”، ثم بحوث وأحاديث د. “زغلول النجار” وكتابه الضخم: “تأملات في كتاب الله”، وغيرهم كثير.
نود أن نتعرف على أبرز جهودكم في هذا المجال؟
بجوار القامات الكبيرة ذات الباع والسبق والريادة في هذا المضمار، لا تعدو جهودنا إلا أن تكون: تعلمًا، وتدبرًا، وتفكرًا، واقتداءً في هذا البحر الزاخر. ولقد تكرم “المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية” في مصر بنشر كتاب لي عنوانه: (صور من الهدايات الربانية للكائنات الحية) (2012م)، وهناك نحو مائة وخمسين مقالًا وبحثًا منشورًا (في مجلة وموقع حراء، وموسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، ومجلتي الوعي الإسلامي ومنبر الإسلام وغيرهما من المجلات والمواقع الالكترونية) يدندن حول هذا الموضوع بمقاربة خاصة. وتوجد لنا بحوث ومقالات قد تكون (كتابين) إن تيسر نشرها بإذن الله.
عمومًا.. مما يثلج الصدر ويعطي مؤشرًا على إقبال القراء على الاغتراف من مجال الإعجاز العلمي في القرآن والسنة أن بحثنا: (حواسنا بين العلم والدين) قد اطلع عليه نحو 100 ألف قارئ من متابعي “موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة” على الشبكة العنكبوتية، كما تواصل معي أحد الأساتذة المصريين المبتعثين للتدريس في إحدى دول الخليج ليستأذن بإدراج هذا البحث ضمن كتاب تعليمي مدرسي.
كيف ترون دور الإعجاز العلمي في تجلية حقائق الإسلام؟
سؤال هام وجوهري ومحوري. وقبل محاولة الإجابة عنه ينبغي “تفكيك” مصطلح “الإعجاز العلمي”. فالإعجاز: لفظٌ مشتقٌ من كلمة العجز، وتعني عدم القدرة والضعف، والإعجاز هو مصدر كلمة أعجز أي السبق، فيقال أعجزني فلان، وقال الراغب الأصفهاني: أعجزت فلان وعجزته، أي جعلته عاجزًا عن الإتيان بمثل ما أقوم به. وأما في اصطلاح العلماء فهو: أمر خارق للعادة، مقرون بالتحدي، سالم من المعارضة. ويقصد بإعجاز القرآن: إعجاز القرآن الناس أن يأتوا بمثله.
والإعجاز العلمي هو: إخبار القرآن والسنة النبوية بحقيقة أثبتها العلم التجريبي وثبت عدم إمكانية إدراكها بالوسائل البشرية زمن الرسول محمد ﷺ، مما يظهر صدقه فيما أخبر به عن ربه. كما يُقصد به سبقه بالإشارة إلى عدد من حقائق الكون وظواهرهِ التي لم تتمكن العلوم المكتسبة من الوصولِ إلى فهم شيء منها إلا بعد قرون متطاولة من نزول القرآن.
أما العلم فهو عند “أبي حامد الغزالي“، علمان: “فروض العين” على كل مسلم (اعتقاد، وفعل، وترك)، و”فروض الكفاية” التي لا يستغني عنها لقوام الحياة كالطب والحساب وغيرهما. إذن هناك: علم كوني تجريبي مكتسب يقوم على الملاحظة والمشاهدة والتجريب والتعميم. وعلم ذاتي “لدنى” داخلي موهوب يقوم على الوعي بالذات، والمجاهدة، والاستبصار والإلهام..إلخ.
ولقد فَصَلت نظم التعليم/ التثقيف المعاصر بين العلوم التجريبية التطبيقية كالفيزياء، والكيمياء، والبيولوجيا..إلخ، ونزعت عنها صفة الإنسانية، كما اعتبرت الدراسات الإنسانية كاللغة، والتاريخ، والاقتصاد، والقانون..إلخ لا يسري عليها القواعد التجريبية العلمية.
وآن الأوان لإيجاد مقاربة العلوم التطبيقية والإنسانية من منظور إيماني صحيح للكون، والحياة، والأحياء. يري فيلسوف العلم “كارل بوبر”: ضرورة إدماج علم الفيزياء- كان محط اهتمام فلسفة العلم كثيرًا- بعلوم البيولوجيا، والعلوم الإنسانية والاجتماعية لكي تصبح فلسفة علم حقيقية.
وأرى أن الإعجاز العلمي يشمل كل العلوم وليس حصره فقط- كما يبدو للوهلة الأولى- في الإعجاز الفيزيائي أو الطبي أو الجيولوجي..إلخ. لذا يوجد في القرآن الكريم: إعجاز لغوي بياني بلاغي، وإعجاز عددي، وإعجاز تشريعي، وإعجاز تاريخي، وإعجاز نفسي- سوسيولوجي، جنبًا إلى جنب مع الإعجاز الفيزيائي والجيولوجي والطبي..إلخ. وقد وردت مادة “العلم” ومشتقاتها في القرآن الكريم نحو 865 مرة. وكما يقول بديع الزمان سعيد النورسي فـ”ضياء القلب هو العلوم الدينية، ونور العقل هو العلوم الكونية الحديثة وبامتزاجهما تتجلى الحقيقة، وبافتراقهما تتولد الحيل والشبهات في هذا، والتعصب الذميم في ذاك”.
هذا عن معنى الإعجاز العلمي وأنواعه.. أما دور هذا الإعجاز في تجلية حقائق الإسلام ففي القرآن الكريم، كتاب الله تعالى المقروء والخاتم للبشرية، عشرات المئات من “الآيات الكونية”؛ آيات متعلقة بـ” كتاب الله تعالى المنظور” في الآفاق (المخلوقات، والموجودات، والذرات والمجرات، والظواهر، والسُنن) وفي الأنفس البشرية سواء بسواء، يقول تعالى:”سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ” (فصلت: 53). وفي هذه وتلك من المدلولات الإيمانية ما فيها!
والقرآن الكريم كتاب صالح لكل زمان ومكان، لكل عصر ومصر. ولقد أودع الله تعالى فيه من الحقائق العلمية الكونية (حول السماوات والأرض، والشمس، والقمر، والنجوم، والكواكب، والجبال، والأحجار، المعادن، والأنهار، والبحار، والرياح، والسحاب، والمياه، والرعد، والبرق، ومراحل خلق الإنسان، وبعض صور الحيوان، ومنتجاته، والنبات، ومحاصيله وثماره، وسنن التاريخ، وقيام الحضارات وانهيارها..إلخ) ما يعجز البشر عن الإتيان بمثلها. والقرآن الكريم يتميز بأسلوبه الرائع، وبمفرداته المعدودات، وجُمله المختصرات الدالات على كثير من تلكم الحقائق الكونية.
كما أقسم الله سبحانه بمخلوقات كثيرة: كالشمس، والقمر، والليل، والضحى، والعصر، والسماء، والنجوم، والتين، والزيتون….الخ. وفي ذلك لفت للانتباه إلى ما فيها من إشارات نيرات، ودلائل باهرات على حسن تقديره وتدبيره، تعالى شأنه. وعلي عظيم صنعه وإتقانه: “وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ” (النمل: 88).
وتحمل العديد من سور القرآن الكريم أسماء مثل: البقرة، الإنعام، الرعد، النحل، النور، النمل، العنكبوت، الطور، النجم، القمر، الحديد، القلم، الإنسان، البروج، الطارق، الفجر، الشمس، الليل، الضحى، التين، العصر.. إلخ. وحين يَرِدُ ذكر الكثير من الكائنات الحية، والأجرام السماوية، والظواهر الفلكية، والمظاهر الطبيعية، والقوانين الكونية؛ فإنما يرتفع بذلك شأنها، وتعلو مكانتها، ويُتنبه لأهميتها، ويُتفكر في وظيفتها، ويُتأمل في قوانينها.
وعلى سبيل المثال.. توجد العديد من الآيات الكونية التي تتحدث عن “بناء السَّماء، وتوسعها”: “وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ” (سورة الذاريات، الآية: 47). ويأتي العلم حديثًا ليؤكد أن الكون كلَّه بناء محكم لا وجود فيه لأي خلل أو فراغ أو اضطراب: “اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ” (غافر: 64).وأنه يتوسع ويتمدد باضطراد. ويؤكدون الغنى الذي يظهره الكون في البنية المحكمة، ورؤيتهم للنسيج الكوني وكأنه نسيج حُبِك بمنتهى الإتقان والإبداع: “وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ” (الذاريات: 7)، “فلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ، وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ” (الواقعة: 75، 76). وأن النجوم تَظهر كالّلآلئ التي تبهج الناظرين: “وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ” (الحجر: 16).
وعند اتباع النهج القرآني وضوابطه في النظر والتأمل في هذه الآيات الكونية فإنها تكون وسيلة من وسائل إظهارِ عظمة القرآن الكريم، وبيانِ أنه كتاب الله تعالى المُنزل على النبي “الأمي” محمد، ﷺ. كما تكون طريقًا لإقناع غير المسلمين بصدق القرآن العظيم، وتأكيد أن التوافق بين العلم والقرآن هو دليل وبرهان مادي ملموس في عصر العلم على أن القرآن لم يُحرّف، وأن الله تعالى قد تعهد بحفظه كما نزل: “إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ” (الحجر:9).
وما أهم ضوابط توظيف الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، حتى يؤتي ثماره المرجوة؟
هناك ثلاث مقاربات للمتصدين لهذا المجال: من يدوّن المعلومة (توجد في أي موسوعة) خالية من الحكمة الإيمانية، فهي عنده هامة يريد إخبار القراء بها مجردة. ومنهم من يركز على الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، فيدور في فلكه لا يتعداه، (الحيوان/ الطير/ النبات/ الظواهر الكونية/ سُنن الأنفس والمجتمعات)، ويٌقدم المعلومة مع الاستشهاد بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة. وثالثهم من يقرأ المعطيات العلمية قراءة إيمانية؛ وهذا باب واسع مفيد، وقلّ فيه المُجيد. وأنا أميل لهذا الجانب الأخير؛ فأرى أن يبحر محبوه في قراءة آيات الكون آية آية، وسورة سورة.. من الذرة للمجرة، ومن الزهرة للشجرة، ومن الفراشة للبقرة.. بدراية علمية، وبراعة لغوية، وإشراقات وجدانية، ومن قبل وبعد: بلمسات إيمانية.
وإذا ما جئنا إلى الضوابط فنشير إلى أن القرآن الكريم قد نزل باللغة العربية؛ وبالتالي، يجب ألا نتجاوز هذه الحقيقة، وإنما نتقيد بها ونلتزم بمعاني الكلمات في قواميس اللغة. وخير من يفسر القرآن هو القرآن نفسه، ثم أحاديث الرسول ﷺ، ثم اجتهادات الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم، ثم من تبعهم من العلماء والأئمة الثقات رحمهم الله ورضي عنهم جميعًا. فينبغي الإحاطة بدلالات الآية ومعانيها المتعددة طبقًا للغة العربية، ولا نضع تأويلات غير منطقية بهدف التوفيق بين العلم والقرآن، بل يجب أن نعلم بأن المعجزة القرآنية تتميز بالوضوح والتفصيل التام، ولا تحتاج لالتفافات من أجل كشفها: “الر ۚ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ” (هود: 1).
ما أبرز مستجدات الإعجاز العلمي في القرآن والسنة؟
قام “المجلس الأعلى للشئون الإسلامية” في مصر مشكورًا بتشكيل عدد من اللجان العلمية التي ضمت- بجانب علماء القرآن وتفسيره، والحديث وعلومه، والفقه وأصوله، والشريعة ومباحثها، واللغة العربية وآدابها، والتاريخ الإسلامي ودراساته- عددًا من كبار العلماء والباحثين والمفكرين في مختلف جنبات المعرفة الإنسانية. وقد قام كل هؤلاء بمدارسة كتاب الله في اجتماعات طالت سنين عديدة. ثم تبلورت في تفسير موجز تحت اسم “المنتخب في تفسير القرآن”، كُتب بأسلوب عصري وجيز، سهل مبسط، واضح العبارة، بعيد عن الخلافات المذهبية، والتعقيدات اللفظية والمصطلحات الفنية. وقد أشير في هوامشه إلى ما ترشد إليه الآيات القرآنية من نواميس الحياة وأسرار الكون، ووقائعه العلمية التي لم تُعرف إلا في السنوات الأخيرة.
كذلك تتسابق مؤسسات في عدة دول (وعلى رأسها الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة/ المملكة العربية السعودية) بعقد مؤتمرات سنوية تتناول أحدث البحوث والدراسات الإسلامية التي تواكب المستجدات والمكتشفات على الساحات العلمية العالمية. كذلك توجد مواقع إلكترونية (كموسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، والتي تشرفت أن أكون ضمن فريقها البحثي)، إضافة إلى جهود فردية عديدة لجمع كل ما توصلت إليه البحوث والدراسات في مجال الإعجاز العلمي في القرآن الكريم و السنة النبوية المطهرة.
إذا كان الإعجاز العلمي مفيدًا بوجه عام في مخاطبة المسلم وتوضيح حقائق الإسلام لديه.. فكيف دوره في ذلك فيما يتصل بغير المسلم؟
أعيد التأكيد على أن اتباع النهج القرآني وضوابطه في النظر والتأمل في هذه الآيات الكونية، يمثل وسيلةً مهمة من وسائل إظهار عظمة القرآن الكريم وأنه كتاب الله تعالى المُنزل على النبي “الأمي” محمد ﷺ، ويحوي إشارات لجميع العلوم؛ مما يثمر عن زيادة الإيمان وترسيخه لدى المؤمن، ويكون سبيلاً لتوسيع مداركه وزيادة معرفته العلمية.. كما يكون أيضًا وسيلة ناجعة وناجحة للدعوة إلى الله تعالى وتعريف غير المسلمين بهذا الدين الحنيف، وطريقًا لإقناع الملحدين بصدق القرآن العظيم، وأنه لم يحرَّف.
وكثيرة هي قوائم العلماء والأطباء، وعلماء الشرائع الأخرى، والمفكرين والأدباء والساسة والمشاهير وغير المشاهير من الناس الذين أعلنوا إسلامهم وآمنوا بالله الواحد الأحد، لما علموا بحقيقة أو أكثر من الحقائق الكونية التي وردت في القرآن الكريم منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام. وكانوا قد أنفقوا في بحثها عقودًا من السنين. وفي دراسة لي منشورة تقصيتُ أثر إعجاز القرآن الكريم في تحول (167) من مشاهير العلماء والأطباء وعلماء الشرائع الأخرى، ومن المفكرين والأدباء ومن الفنانين والرياضيين ومن السياسيين، ومن فئات أخرى متنوعة.
ما أشهر الشخصيات الغربية التي لفتها الإسلام من زاوية الإعجاز العلمي؟ وما الذي لفتها تحديدًا؟
كثيرة هي النماذج التي لفتتها (معجزة الإسلام) القرآن الكريم، والأحاديث الشريفة لرسوله من زاوية الإعجاز العلمي. وقد يكون من المنطقي- بعد دراسة وفحص ونقد (النص) القرآني الكريم- أن يتحول إلى الإسلام رجال دين وعلماء لاهوت مسيحيون، وأحبار يهود. لكن المُدهش أن يتحول- بتأثير هذا الإعجاز- علماء راسخون، وأطباء مشهورون، ومفكرون المعيون، بل وملاحدة مجادلون “عقلانيون”.
خذ مثلاً على أشهرهم: العالم والطبيب الفرنسي الأشهر “موريس بوكاي” (19 يوليو 1920- 17 فبراير 1998)، مؤلف: “التوراة والإنجيل والقرآن.. والعلم الحديث”، الذي تُرجم لسبع عشرة لغة، منها العربية؛ فبعد دراسته- وهو المسيحي الكاثوليكي- للكتب السماوية السابقة ومقارنة قصة فرعون “الخروج، فرعون موسي الذي مات غرقًا” فيه، قام بفحص جثته، وصرّح على الفور بأنه قد مات غرقًا، وأنه قد حصلت معجزة في نجاة هذا الفرعون بجسده. ولكن أحد المسلمين أخبره بأن القرآن الكريم قد ذكر قصة فرعون وغرقه ونجاته ببدنه! فقال هذا العالم: إن هذا غير معقول لأنني أنا أول من شاهد هذا الفرعون وأول من علم بقصته بعد أن مضى على غرقه آلاف السنين! فأخبره بالآية الكريم: (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ) (يونس:92). فخشع قلب هذا العالم وقرّر دراسة الإسلام وأعلن إسلامه بعد ذلك؛ لأنه أدرك أن هذا الكلام لا يمكن أن يكون من عند بشر، بل هو كلام ربّ البشر سبحانه وتعالى.
وهناك بروفيسور الرياضيات الأمريكي “جيفري لانج“؛ ولد في (30 يناير 1954) لعائلة كاثوليكية، ودرس أيضًا في مدرسة كاثوليكية، إضافةً لحصوله على الدكتوراه في الرياضيات وأصبح أستاذًا في جامعة “سان فرانسسكو”، وكان في هذه الفترة مُلحدًا (لمدة عقد من الزمن)، وفي بدايات عام 1980، قرأ نسخة مترجمة من القرآن، وأعلن إسلامه، وله عدة مؤلفات، منها: (الصراع من أجل الإيمان)، و(حتى الملائكة تسأل: رحلة الإسلام إلى أمريكا).
أما البروفيسور “كيث مور” (5 أكتوبر 1925- 25 نوفمبر 2019) أستاذ العلم الحجة في علم التشريح والأجنة في جامعة تورنتو/ كندا، الذي ألَّف مرجعًا عالميًا في مراحل تطور الجنين، ودُرِّس في كبرى جامعات العالم؛ فعندما قرأ معنى ما جاء في القرآن: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) [المؤمنون: 12-14] ورأى هذا الوصف الدقيق لمراحل تطور الجنين، وجد أن هذه الآيات تطابق تمامًاخبرته العلمية الحديثة، فكانت هذه الآيات سببًا في إيمانه وإسلامه ورؤيته نور الحق.
صناعة “الثقافة الإعجازية” فيما يتصل بالإسلام قرآنًا وسنة.. ما أبرز المؤسسات القائمة بذلك؟
هناك مؤسسات كثيرة تهتم بهذا الجانب، وتوليه عناية كبرى، وأهمها الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة، (ضمن رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة/ المملكة العربية السعودية). وهي بوصفها منظمة علمية مستقلة تسعى لإظهار وجوه الإعجاز العلمي في القرآن والسنة تحت مسمى “هيئة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة”، وتعقد مؤتمرًا دوريًا سنويًا، ولها إصداراتها في هذا الشأن.
بجانب مؤلفات عديدة تعالج موضوع الإعجاز العلمي في كتاب الله تعالى، ومن أشهرها كتاب: “كشف الأسرار النورانية القرآنية فيما يتعلق بالأجرام السماوية والأرضية والحيوانات والنباتات والجواهر المعدنية” لمحمد بن أحمد الإسكندراني الطبيب (من علماء القرن الثالث عشر الهجري). ورسالة “عبد الله فكري” (من وزراء المعارف السابقين في مصر في مطلع القرن العشرين) يقارن فيها بين بعض مباحث علم الهيئة (الفلك) وبين الوارد من نصوص القرآن الكريم في ذلك… وصولاً إلى كتاب “خلق الإنسان بين الطب والقرآن” لمحمد على البار، وجهود د. زغلول النجار.
ألا تتفقون مع ضرورة تكوين “اجتهاد جماعي” فيما يتصل بالإعجاز العلمي في الإسلام؛ حتى نتجنب المزالق التي قد تحرف “الإعجاز” عن مساره الصحيح؟
نعم، أتفق معكم في هذه الرؤية، فعلي سبيل المثال كانت دولة الكويت الشقيقة سباقة في عقد مؤتمرات فقهية جامعة تناولت المستجدات الطبية والتقنية وأخلاقياتهما في ضوء الفقه والتشريع الإسلامي.. فلم لا ينطبق الأمر نفسه لبلورة هيئة جماعية تُعنى بتقديم هذه الجوانب الإعجازية بصيغة توافقية وخلاصة عصرية، لتقلى قبولاً أكثر محليًّا وعالميًّا؟
إن هذه الرؤية الجماعية تتطلبها ضرورة صيانة القرآن الكريم عن أية أفهام خاطئة أو متسرعة، ولو بدافع “الحرص على تسجيل السبق لصالح القرآن، والنية الحسنة لخدمة الإسلام”. كما تتطلبها تشعب وتَسارُع النظريات المعرفية والعلوم الحديثة؛ بحيث أصبح من الضروري تكوين محاضن جماعية لتبادل الآراء، والتشاور في كل جديد، بما يواكب العلم ويحفظ للقرآن والسنة مكانتهما بعيدًا عن التلاعب أو الخفة في التناول.