يتجاوز الإعراب النحوي المعروف، الذي كُتب فيه كثيرا، إلى تحليل الإعراب، وربطه بمعاني النحو، وما يحتمل وجوها متعددة في الإعراب، وأبعادها الدلالية، ودلالات الاشتقاقات الصرفية في السياق القرآني، والتحولات النحوية في الأسلوب القرآني، في السياق الواحد وفي متشابه النظم، والبدائل الأسلوبية النحوية المتوقعة، وسر اختيار النظم القرآني للحركة الإعرابية، والخروج عن الظاهر في الحركة الإعرابية، ودلالات الصيغ الاشتقاقية في سياقها القرآني. بما يمكن أن نسميه: بالإعراب البياني للقرآن الكريم. وذلك بإقامة جسر يصل الإعراب النحوي بالبلاغة العربية وأسرار التراكيب.
وهي موسوعة لو قدر لها الخروج لجعلت كل باحث عن الإعجاز أن يقف على شواهده ومعالمه البارزة.
من ذلك مثلا قوله تعالى : (لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ) (آل عمران111).
فإننا نجد الفعل (ينصرون) جاء مرفوعاً، وكان المتوقع عطفه على سابقه بالجزم، كما هو الحال في قوله تعالى: (وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) (محمد38).
وإذا كان اللسان العربي يجيز في هذا السياق وأمثاله، حالة استيفاء أداة الشرط الجازمة لفعلها وجوابها، أن يعطف على جواب الشرط بالجزم أو الرفع كما هو مقرر عند النحاة، فإن النظم القرآني يعمد في هذا السياق إلى الرفع دون غيره من الخيارات الأسلوبية المتاحة لا على سبيل الجواز كما يزعمون وإنما على سبيل الوجوب ؛ لاقتضاء المعنى له ، إذ احترز النظم بهذا الإعراب عن معنى غير مرغوب فيه ، فيما لو عطف على الجزم فقال : (ثم لا ينصروا) فيكون تقدير انتفاء النصر عن الكفار مقيداً بشرط قتالهم المسلمين وتوليتهم الأدبار ؛ وهذا غير مراد ، فاحترز منه النظم إلى الرفع على الاستئناف بتقدير (ثم هم لا ينصرون) ؛ لدلالة الجملة الاسمية على ثبوت الوصف واستمراره ، فأفاد ذلك دلالة الإطلاق والعموم ، وهي أن عدو المسلمين مخذول دائماً غير منصور ، سواء أقاتلهم أم لم يقاتلهم ، فهذا حاله على الدوام مخذول مهزوم، فلايثبت له نصر على الاستقرار والدوام، وإن تيسر له نصر عارض، فلايدوم والعاقبة للمتقين.
أما قوله تعالى: ( وإنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) (محمد38).
فقد عطف على الجزم بقوله (يكونوا) لإدخال هذا الفعل ضمن قيد الشرط السابق ، فالاستبدال والإتيان بقوم لا يكونون أمثالهم ، مشروط بحالة تولِّيهم عن منهج الله وإعراضهم عنه . فإذا استقاموا على الجادَّة فإنَّ ذلك لا يكون.
ومن ذلك قوله تعالى: ( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (آل عمران169) .
فإننا نلاحظ أن كلمة (أمواتاً) جاءت منصوبة على أنها مفعول ثانٍ للفعل (تحسب) ، ومن العجيب المدهش في هذا البيان مجيء كلمة (أحياءٌ) بعدها مباشرة مرفوعة ، وكان المتوقع أن تكون منصوبة على اعتبار أنها جاءت معطوفة على (أمواتا) ، لكن النظم عمد إلى الرفع دون النصب ؛ احترازاً من توهم إعادة تقدير العامل وهو (بل احسبهم أحياءً)، والسياق هنا سياق تأكيد وثبوت لا حسبان فيه ولا شك ، فكان الرفع على تقدير (بل هم أحياءٌ) والجملة الاسمية تدل على ثبوت الوصف واستقراره واستمراره ، وحياة الشهداء عند ربهم ثابتة لا شك فيها ، مستقرة لا تبديل لها ومستمرة لا انقطاع فيها .
إن معربي القرآن صرفوا جهدهم إلى الإعراب النحوي التعليمي، فيعربون (أحياء) أنها خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هم أحياء. وينتهي الكلام.
فيأتي الإعراب البياني في هذا المقام فيحلق بالأفهام ليشرح سر الحذف والتقدير، وسر التحول من المتوقع في العطف على النصب أحياء إلى الرفع، ثم دلالة بل ودلالة الجمع أمواتا دون غيره في نظم البيان …
ومن ذلك قوله تعالى: (وَلَقَدۡ ءَاتَیۡنَا دَاوُۥدَ وَسُلَیۡمَـٰنَ عِلۡمࣰاۖ وَقَالَا ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِی فَضَّلَنَا عَلَىٰ كَثِیرࣲ مِّنۡ عِبَادِهِ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ) [سورة النمل 15]
فقد جاء ضمير الجمع في ( ءَاتَیۡنَا ) عائدا إلى الواحد الأحد سبحانه، وهو محمول عند المعربين على التعظيم.
أما في قوله تعالى في الآية بعدها: (وَوَرِثَ سُلَیۡمَـٰنُ دَاوُۥدَۖ وَقَالَ یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّاسُ عُلِّمۡنَا مَنطِقَ ٱلطَّیۡرِ وَأُوتِینَا مِن كُلِّ شَیۡءٍۖ إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلۡفَضۡلُ ٱلۡمُبِینُ) [سورة النمل 16]
فقد جاء ضمير الجمع مكررا في الفعلين وعائدا على مفرد هو سليمان عليه السلام. فلا يحمل على التعظيم؛ أنَفَةً من التسوية بين الخالق والمخلوق في وصف العظمة في هذا السياق، فيمكن القول في إعرابه : إنه ضمير الواحد المطاع.
والإعراب البياني سيستبعد الوهم والتوهم الذي قيل في إعراب قوله تعالى (فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ ٱلصَّـٰلِحِینَ) على القراءة المشهورة، وإن نقل عن سيبويه والخليل!
وإنما سيحلل الدلالة البيانية في مغايرة العطف بالجزم للفعل (أكن) دون النصب في هذا المقام، ثم تحليل ما ورد من القراءة الأخرى، وإبراز الإعجاز النحوي في القرآن