الخطاب الدعوي يمكن النظر إليه كأحد علوم الآلة أو علوم الوسائل[1]، وهي علوم ليست مقصودة في ذاتها، ولكنها تساهم في فهم وتبليغ علوم المقاصد[2]، وهو رسالة اتصالية[3]، تستوجب مرعاة مجموعة من الخصائص، كالوضوح، وتجنب التحيز وأن تكون كاملة، وقادرة على مخاطبة الوجدان والمشاعر، ومراعاة المقصد والغاية.
ويلاحظ في الخطاب الدعوي إغفالا لأمرين مهمين،
- أولهما: خفوت الجوانب الإنسانية، فقضايا حقوق الإنسان، والمساواة، والحريات، والعدل الاجتماعي، والنظر لحاجات الفئات الاجتماعية المختلفة كالمرأة والشباب، لا تأخذ حقها في التبليغ والوعظ والإرشاد.
- وثانيهما: قصور الخطاب الدعوي، عن إدراك أهمية الوسيط الرقمي، وعدم إستيعاب قدرته في الوصول إلى ملايين الناس، في وقت واحد، وفي عموم الأرض.
الدين والرقمية
التكنولوجيا الرقمية باتت مسيطرة على غالبية الأنشطة الإنسانية، وأصبح من الصعوبة أن يعيش الإنسان أو يتطور بعيدا عنها، ووصف البعض تلك التكنولوجيا بأنها “إلتزام لا رجعة فيه” وحتى لو أراد البعض اجتناب الرقمية، فإنه لن يستطيع، بل إنه قد يحكم على ذاته ومجتمعه بالجمود والتراجع، والخروج من سياق التطور العالمي.
فهناك إندماج وشبه تماهي بين الإنسان والرقمية، بل إن إدارك الذات والتعبير عنها في كثير الأحيان، يمر عبر الوسيط الرقمي، كما أن النمو المتسارع في التكنولوجيا الرقمية يحاصر الإنسان في كل شيء وبمعدلات غير مسبوقة، لم يستطع الإنسان مجاراتها، واستسلم أمام كثير من منجزها، فانغمس في الرقمية بكل كيانه ووجدانه ومصالحه وتفاعلاته، وأصبحت الرقمية متنفسه ونافذته التي يطل منها على كل شيء.
هذا التحول الكبير عمق الحضور والتأثير الرقمي في الذات الإنسانية، وأصبحت الأديان وتجارب الإنسان الروحية غير قادرة على مواجهة الرقمية، بل مفروض عليها أن تبحث لها عن مكان في العصر الرقمي، خاصة وأن الفوارق بين الواقع الحقيقي والعالم الافتراضي تتقلص.
والحقيقة أن التحدي الرقمي لا يختص به أهل الإسلام وحدهم، ولكنه تحدٍ أمام أهل الأديان جميعا، الجميع يدركه، والقليل هو الذي يستوعبه ويسعى لتوظيفه في خدمة أفكاره وعقائده، وربما هذا ما ألمح إليه بعض مهندسي الربوتات من أن التقنيات الرقمية لها التأثير الأعمق في جوانب التجربة الإنسانية، وأن “ضغطة زر” قد تعطي عمقا لم يكن الوصول إليه ممكنا، إلا من خلال عشرين ألف ساعة من التأمل في كهف.
في كتاب “تكنولوجيا الروح” Spirit Tech تأكيد أن الرقمية لم يعد من الممكن استبعادها من دون الإضرار بالبنية التحتية الحيوية للإنسان ، وحسب الكتاب يمكن للرقمية التحكم في التجربة الروحية، إذ هناك إصرار على الاستفادة من التكنولوجيا الرقمية في الجانب الروحي للتأثير في الجماهير، واخترق الروح، وهو ما يفرض على علماء الدين ورجاله، التفكير في جذب الجماهير إلى الدين، الآخذ الاهتمام به في التضاؤل، فسحر الهواتف النقالة يفوق سحر المواعظ، أضف إلى ذلك أن تطور العلوم والتقنيات المعنية بالدماغ البشري، أتاح فهم كيفية تفاعل الأدمغة الإنسانية مع الرقمية، ومن ثم الإمساك بمفاتيح التأثير في تلك الأدمغة، وإبقائها تحت السيطرة.
انتشار الرقمية الواسع اقترب من مساحات الدين، والروح، وهو ما يفرض فهم تلك الطاقة الجبارة الكامنة في الوسيط الرقمي، وقدراته الهائلة، وتأثيراته الواسعة، فليس بمقدور الدعاة أن يديروا ظهورهم للرقمية، وإلا فرطوا في أحد أهم “علوم الآلة” التي من خلالها يستطيعون مخاطبة الملايين والتأثير فيهم.
الخطاب الإنساني
الاستحواذ الرقمي على الأنشطة الإنسانية، بما فيها الجانب الروحي، يفرض على الدعاة الاهتمام بالوسيط الرقمي، وإعطاء عناية للحمولات المعرفية التي يحملها الخطاب الدعوي، ولعل من أهم القضايا الواجب الاهتمام بها في البلاغ الدعوي، هي الاهتمام بالجانب الإنساني في الإسلام، وتبليغه للناس، فالقرآن الكريم اهتم بالتواصل مع جميع الخلق، لذا كان هناك خطاب لعموم الناس في القرآن، فورد نداء “يا أيها الناس” في القرآن في (21) موضعا، وهو ما يكشف عن انفتاح قرآني على الإنسانية، وقضاياها واهتماماتها، مع امتلاك الرؤية لفهمها وتقديم الحلول لها.
لكن المقصود ليس الكشف عن الوجه الإنساني العظيم في الإسلام، ولكن السؤال هو لماذا لا يكتنز الخطاب الدعوي، من خلال الوسيط الرقمي، بالإنسانية، باعتبارها القادرة على مخاطبة عموم الناس والتأثير فيهم؟
من أهم القضايا الواجب الاهتمام بها في البلاغ الدعوي هي الاهتمام بالجانب الإنساني في الإسلام
الإنسانية ترى أن جميع البشر يستحقون الكرامة والحرية والرفاهية بغض النظر عن الانتماء الديني والعرقي والجغرافي، ولا شك أن ما تدعو إليه تلك الفلسفة، قد تحدث عنه القرآن الكريم، في خطاب عميق وموجز، ومنح الإنسان الكرامة والتفضيل من أجل أنه إنسان، فقال تعالى : { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا } [4] فالآية جمعت بين التكريم والتفضيل، أي أن الإنسان مُكرم لذاته، ومُفضل على غيره، وكلا الأمران ممنوحان لكل إنسان من أجل أنه إنسان، وفي هذه الآية الكريمة تأكيد على الحرية الإنسانية المقترنة بالمسئولية الكاملة التي يتحملها الإنسان بإدارة هذه الأرض، والحرية من أعظم دلائل التكريم.
وسيجد الخطاب الدعوي من يتفهم الرؤية الإنسانية في الإسلام في قضية الحرية، وسيفهم مقولة عمر بن الخطاب رضي الله عنه “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا” فالحرية يجب أن تجد لها مدافعين بين الدعاة.
وعلى هذا فالخطاب الدعوي يجب ألا يفتقر للبعد الإنساني في تواصله مع الآخرين من خلال الرقمية، فالانترنت وما يبث عليها، وذكراتها التي تستوعب كل شيء، ولا تنسى، يجب أن تكون عونا للدعاة للتواصل الإنساني مع الملايين، والداعية الذي يكافح عن حقوق الضعفاء والمظلومين ويقاوم الاستغلال والظلم والاعتداء، سيجد من يتفهم رسالته من كافة الأجناس والأديان والملل، ما دام يتطرق للمعاناة الإنسانية أينما كانت، ومن ثم ستتسع المساحات المشتركة بين الدعاة وبين الناس جميعا، فـ”محمد” ﷺ، إنما بعثه الله تعالى للناس كافة، ومن الغبن للإسلام أن يُقيد في أرض محددة وفي شعوب بعينها.