من يطالع صفحات الحياة، ويتأمل ما تخطه سطورها؛ يدرك أنها لا تسير على وتيرة واحدة، ولا تثبت على حال؛ بل هي دائرةٌ بين أمور عدة، ومتقلبةٌ في أحوال مختلفة.
فهناك “دورة اليوم” بين الليل والنهار، و”دورة العمر” بين الموت والحياة، و”دورة الأحوال” بين الفرح والحزن، وأسبابهما وتوابعهما، بجانب “دورة الحضارة” بين الصعود والهبوط([1]).
وفي كل دورة من هذه الدورات الأربع، على الإنسان واجبات وأعمال، وله منها عبرة وفكرة؛ حتى تحصل له الفائدة ولا يكون من الغافلين الذين لا يعتبرون بما يمر عليهم، ولا يستعدون لما ينتظرهم!
دورة اليوم بين الليل والنهار
إن “اليوم”- وهو وحدة من وحدات الزمن؛ مثل اللحظة والأسبوع والعام- يتكون من الليل والنهار؛ وقد جعل الله تعالى لكل منهما طبيعة ووظيفة، وفرض فيه فرائضَ وأعمالاً؛ والمطلوبُ أن ينتفع الإنسان من ليله ونهاره معًا.
وقد امتن الله تعالى على عباده بالليل والنهار فقال: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا . وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} (سورة النبأ: 10، 11). جاء في تفسير الطبري: “جعلنا الليل لكم غشاء يتغشاكم سواده، وتغطيكم ظلمته، كما يغطي الثوب لابسه لتسكنوا فيه عن التصرّف لما كنتم تتصرّفون له نهارًا… وجعلنا النهار لكم ضياء لتنتشروا فيه لمعاشكم، وتتصرّفوا فيه لمصالح دنياكم، وابتغاء فضل الله فيه”([2]). فالليل للراحة والسكون، والنهار للجد والعمل والسعي.
وهنا نلاحظ أن الصلوات الخمس مقسَّمة على الليل والنهار، ومستوعبة لأجزائهما، حتى يظل الإنسان دائم الصلة بالله تعالى، متنبِّهًا باستمرار للغاية التي خُلق لها، ومتذكِّرًا أن الليل والنهار مجرد ظرف للحركة وإطار للسعي؛ وعلى الإنسان ألا ينشغل بالإطار عن الجوهر، ولا بالظرف عن الحقيقة..
وعلى ذلك، فالسؤال المهم هو: بأيّ شيء يملأ الإنسان ليله ونهاره؟ وأيّ وجهة يتحرك فيهما؟ وبأيّ خلاصة ينتهي منهما؟
هل يشهد له الليل والنهار على استقامة السلوك، وحسن الأداء، وسلامة القصد والوجهة، ونبل الغاية والوسيلة؟ أم تراه يتحرك فيهما كما تتحرك الدواب، غافلاً عما هو مطلوب منه وواجب عليها فيهما؟!
دورة العمر بين الموت والحياة
ثم نأتي لدورة أخرى، وهي دورة العمر بين الموت والحياة. إن الإنسان خُلق ونفخت فيه الروح بعد أن كان عدمًا، وسيصير إلى الموت مرة أخرى، ثم يُبعث للحساب والجزاء.. بل هو في كل يوم يموت “موتة صغرى” بالنوم، ليتذكر “الموتة الكبرى” بانقضاء الأجل..
قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} (الملك: 2). قال ابن كثير: استدل بهذه الآية من قال إن الموت أمر وجودي لأنه مخلوق. ومعنى الآية: أنه أوجد الخلائق من العدم؛ ليبلوهم ، ويختبرهم أيهم أحسن عملاً. كما قال: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ) (البقرة: 28)؛ فسمى الحال الأول- وهو العدم- موتًا ، وسمى هذه النشأة حياة. ولهذا قال: (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ)([3]).
ونقل القرطبي أن الموت قُدِّم على الحياة في الآية لأنه أقدم، لأن الأشياء في الابتداء كانت في حكم الموت، كالنطفة والتراب ونحوه([4]).
فليتأمل المرء العبرة من حياته وموته، وليحسن الإفادة منهما والاستعداد لهما؛ فإنه لم يُخلق في الحياة عبثًا، ولم يُترك سدى، وإنما سيقف بعدهما موقف الحساب والمساءلة؛ لينال جزاءه جنة أو نارًا، سعادة أو شقاء!
دورة الأحوال بين الفرح والحزن
وأما الدورة الثالثة فهي دورة الأحوال بين الفرح والحزن؛ إذ لا يخلو الإنسان من موجِب لأحدهما، أو من نتيجة وتابع لهما؛ ولعل لهذا الأمر عبَّر القرآن الكريم عن حال الطائعين الفائزين بجنة الله تعالى ورضوانه بالسعداء، وعن غيرهم بالأشقياء.. فكأن السعادة والشقاوة عليهما مدار أحوال الإنسان. قال تعالى: {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۚ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ . فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ . خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ . ۞ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ۖ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} (هود: 105- 108).
وأحوال الإنسان في الحياة دائرة بين مظاهر مختلفة متقابلة؛ فمنها العافية والمرض، الغنى والفقر، الرضا والسخط، الفوز والخسران، الراحة والتعب، العلم والجهل… إلخ. وعلى المرء أن يستفيد من كل حالة تمر به، وأن يتجاوزها ولا يقف عندها، بل ينفذ إلى الحكمة منها ويتأمل الغاية فيها؛ فلا يبطر بصحة أو غنى أو علم أو منصب، ولا ييأس بمرض أو فقر أو جهل أو تحوّل.. وليعلم أن أحوال الدنيا لا تدوم، وأن السعادة الحقيقية ليست في المظاهر، ولا تتم إلا في الدار الآخرة في ظل رضوان الله تعالى وجنته..
فإذا علم الإنسان هذا، جدَّ في تحصيل موجبات السعادة الحقيقية، ولم يغتر بمظاهرها؛ التي لا تلبث حتى تزول وتتغير! لأن الدنيا ليست دار قرار ولا جزاء، وإنما دار سعي ونصب واختبار..
دورة الحضارة بين الصعود والهبوط
للحضارة، كما قرر ابن خلدون، أطوار متعاقبة، تشبه أطوار الإنسان؛ فكما يمر الإنسان بالميلاد ثم الشباب والفتوة ثم الشيخوخة، تمر الحضارة (أو الدولة) بمراحل (أو أجيال)؛ هي مرحلة البداوة ثم الترف والخصب ثم الهرم. وقد صاغ ابن خلدون ذلك فيما يشبه “القانون”، بقوله: “الدولة لها أعمار طبيعية كما للأشخاص”([5]).
ولما كانت الحضارة معرَّضة للدخول في مرحلة الهرم، ثم في مرحلة رابعة، ذكرها ابن خلدون بعد ذلك، وهي مرحلة الانقراض؛ كان طبيعيًّا أن تنتقل شعلة الحضارة من أمة لأخرى.. ولهذا يجوز لنا أن نقرر أن الإنجاز الحضاري الإنساني في مجمله هو ميراث مشترك بين الأمم، أسهمت كل أمة فيه بنصيب؛ ومن ثم، لا يجوز أن تتيه أمة على أخرى، بما أنجزت وحققت..
لكن يجوز أن يقال: لكل أمة شروق وغروب، ونهوض وخمود، وتألق وخفوت.. وهذا ما نريده من حديثنا هنا عن “دورة الحضارة”.
والمطلوب حينئذ، أن تتأمل الأمة ذاتها في الحالين معًا: حال النهوض والخمود؛ حتى تستبقي لنفسها من الحالة الأولى عوامل اليقظة والفاعلية، وتنفي عن نفسها في الحالة الثانية أسبابَ القعود والنكوص؛ فتخرج سريعًا مما أصابها ولا تتكبّل في خَطْوِها، أو يصبها اليأس والقنوط.
إنه إذا كانت كل أمة، أو حضارة، معرَّضةً لهذه المراحل في طريق الحضارة؛ فلا يجوز أن نفقد الثقة في قدرتنا على تجاوز المحن، واستعادة الفاعلية، وتبوؤ موقع القيادة والريادة مرة أخرى.. لكن ذلك مشروط بالأخذ بالأسباب التي مكَّنت لنا أولَّ مرة، ودفعتنا لموقع الصدارة من قبل..
فإذا تدارسنا هذه الدورات الأربع- دورة اليوم بين الليل والنهار؛ ودورة العمر بين الموت والحياة؛ ودورة الأحوال بين الفرح والحزن؛ ودورة الحضارة بين الصعود والهبوط- تحققت لنا بإذن الله النجاة في الدنيا والآخرة، وعلى مستوى الفرد والمجتمع والحضارة.. وليس بعد ذلك من هدف ولا غاية!
([1]) كنت كتبت على موقع التواصل الاجتماعي “فيس بوك”، تدوينة موجزة عن الدورات الثلاث الأُوَل، فلفت نظري الدكتور الحبيب/ يونس عمر ملال، الأكاديمي الجزائري، لأضم لها الدورة الرابعة “دورة الحضارة”؛ فله الشكر والعرفان.
([2]) جامع البيان في تأويل القرآن، الطبري، 24/ 151، 152، مؤسسة الرسالة، ط1، 2000، تحقيق: أحمد محمد شاكر.
([3]) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، 8/ 176، دار طيبة، ط2، 1999م، تحقيق: سامي بن محمد سلامة.
([4]) الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، 18/ 206، دار الكتب المصرية، ط2، 1964م. تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش.
([5]) تاريخ ابن خلدون، 1/ 213، دار الفكر، ط2، 1988م، تحقيق: خليل شحادة.