ماذا كان العرب، مقارنة بغيرهم من الأمم، قبل الإسلام؟ وماذا كانت قيمتهم أو تأثيرهم على من حولهم من الأمم والحضارات؟، وكيف كانت نظرة الآخرين إليهم؟ بل كيف كان أنفسهم يرون أنفسهم؟ والأسئلة أكثر مما يمكن سردها في هذه المساحة المحدودة حول أحوال العرب، وقيمتهم قبل ألف وخمسمائة عام من الآن.
لن تكون هناك أي مبالغة إن قال أحد إن العرب قبل الإسلام لم يكونوا ذا شأن، بل لم يكن ليلتفت إليهم أحد في تلك الفترة، لا من الروم ولا الفرس ولا الأحباش ولا أمم الصين والسند أو غيرهم من أمم وحضارات البشر حينذاك، بل لم يوجد أي سبب يدعو تلك الأمم لتلتفت إلى قبائل أو شظايا العرب المتناثرة يومها في أنحاء الجزيرة العربية وبعض مناطق خارجها، إلا إن كانت لهم مصالح وقتية معهم، ولعل أبرزها القيام بأدوار العمالة كما كان حال الغساسنة والمناذرة وتحالفهم مع القوى الاستعمارية والقوى الكبرى آنذاك، الفرس والروم، وإن لم يختلف الحال الآن عن السابق بكثير.
لكن تلك الشظايا المتفرقة المتناثرة المتناحرة، تغير حالها ووضعها بشكل غير معهود في تاريخ الأمم والحضارات. عقدان من الزمن فقط احتاجهما العرب، ليكونوا سادة الجزيرة وما حولها، وليبدأ تأثيرهم يتسع وينتشر بشكل أثار كل دارس منصف موضوعي للحضارات والتاريخ وتطور البلدان، ومحاولة تفسير ما جرى، حتى وصفه كثير من أولئك الدارسين بالمعجزة. ولم لا تكون معجزة، وما جرى لا يجري ويتحقق ويتجسد على أرض الواقع قبل مضي عقود طويلة، كما يعرف ذلك دارسو نشوء وتطور الحضارات؟.
التغيير المعجزة
حين جاء الإسلام، تغير العرب مائة وثمانين درجة – كما تقول العامة – فقد كان هو العامل الرئيسي الأوحد الذي وحّد تلك الشظايا المتناثرة في أرجاء جزيرة العرب، ولعبت لغتهم الفصيحة في هذه الوحدة وهذا التماسك، وأعانتهم تماماً على فهم الدين كما جاء من عند الله، فكان لهم بالتالي، التأثير القوي على الغير في فترة قياسية في عمر الأمم والحضارات.
خرج عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – إلى الشام – كما جاء في كتب السيرة، ومعه أبو عبيدة بن الجراح – رضي الله عنه – فأتيا على مخاضة (بركة ماء) وعمر على ناقته، فنزل عنها وخلع خفيه ووضعهما على عاتقه، وأخذ بزمام ناقته فخاض بها المخاضة، فقال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين: أأنت تفعل هذا، تخلع خفيك وتضعهما على عاتقك وتأخذ بزمام ناقتك وتخوض بها المخاضة؟ ما يسرني أن أهل البلد استشرفوك؟! حيث كان القساوسة واقفين على أسوار بيت المقدس يشاهدون هذا الموقف، فكيف يراه القساوسة والبطارقة وهؤلاء النصارى وهو على تلك الهيئة؟ فقال عمر: أوه لو يقول ذا غيرك أبا عبيدة، جعلته نكالاً لأمة محمد – ﷺ – إنّا كنا أذل قوم، فأعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة بغير ما أعزنا الله به، أذلنا الله.
مشاريع العودة للجاهلية
لعلك بدأت تدرك الآن سر الجهود المبذولة هنا وهناك، سواء من الشرق أو الغرب وأحياناً كثيرة بأيدي العرب أنفسهم، في تركين أو تحجيم شأن الدين في إدارة البلاد والعباد، وبالمثل يقال في أمر التقليل من شأن لغتهم الأم.
إن أمة العرب، من مشرقها إلى مغربها، كان للدين واللغة الأثر البالغ في إعلاء شأنها بين الأمم، سواء شئنا أم أبينا، وأي إزاحة لهما من حياتها، فالطريق إلى الجاهلية ستكون سالكة مرة أخرى، وحياة التشرذم والتبعثر بين الأمم يكون قد حان وقتها، بل لا أكون متشائماً إن قلت، إننا فعلاً نعيش هذه الحياة، ليس العرب وحدهم هذه المرة، بل غالبية أمة الإسلام. الأمة التي يعمل كثيرون جهدهم اليوم في تشويه صورتها، وصورة أتباع دينها، وتفتيت أي شكل من أشكال التجمع والتوحد بينهم.
لكن رغم ذلك كله، فإن الأمل بالله كبير في صحوة تتجدد ويشتد عودها، فأمة الغرب التي ظلت قروناً تسيطر على العالم، تستعد للأفول بعد أن وصلت للذبول التدريجي، فيما غيرها من الأمم منشغلة بذاتها ومشكلاتها، ليبقى الأمل في أمة محمد – ﷺ – أن تستعيد وعيها وتدرك قيمتها ومكانتها ودورها التاريخي، لتقود البشرية المنهكة من جديد، وما ذلك على الله بعزيز { وَیَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَۖ قُلۡ عَسَىٰۤ أَن یَكُونَ قَرِیبࣰا } (الإسراء: 51).