- عصرنا أشد حاجة إلى الاجتهاد من أي عصر مضى
- العملية الاجتهادية تعتمد على المزاوجة بين “النص” و”الواقع”
- صحة الاجتهاد تقتضي الإلمام بمقاصد الشریعة ومراعاة فقه الواقع
- الاجتهاد المعاصر ينبغي أن يصبح مشروعًا فكريًّا يستوعب كافة القضايا
- المجامع الفقهية لها دور مهم في التبصير بأحكام القضايا المستجدة
- من مزالق الاجتهاد: سوء فهم النصوص، القياس الفاسد، تجاهل الإجماع
جاء الإسلام ليمتد أفقًا وعمقًا في الزمان والمكان، ولتشعّ أنورُاه في النفس والوقائع هدايةً وتوجيهًا. و”الاجتهاد” هو أحد الوسائل المهمة لتحقيق ذلك؛ لأنه يثبت قدرة النصوص المحدودة على أن تمتد بمظلتها لتشمل المستجداتِ غير المحدودة؛ فلا تخلو واقعة من حكم، ولا يكون حدث إلا وللإسلام فيه كلمة. في هذا الحوار مع الأكاديمي المصري الدكتور عبد الرحمن حسانين، الأستاذ المشارك بكلية العلوم الإسلامية بجامعة المدينة العالمية بماليزيا، والخبير السابق بالموسوعة الفقهية الكويتية؛ نتعرف كيف تقتضي صحة الاجتهاد الإلمام بمقاصد الشریعة ومراعاة فقه الواقع، وعلى مفهوم الاجتهاد، وأهم ضوابطه ودواعيه ومزالقه، كما نتطرق إلى مسيرة الاجتهاد المعاصر، ودور المؤسسات والمجامع الفقهية في دفع حركة الاجتهاد وتفعيلها.. فإلى الحوار:
نريد أن نعرف القراء بمسيرتكم العلمية؟
حصلت على ليسانس الدراسات الإسلامية من كلية الآداب بجامعة المنيا، جمهورية مصر العربية، بتقديرممتاز عام 1989م، ثم الماجستير في الشريعة الإسلامية من كلية دار العلوم بجامعة المنيا عام 1994م، ثم الدكتوراه في الشريعة الإسلامية من الكلية نفسها، بتقدير مرتبة الشرف الأولى عام 1996م، ثم حصلت على درجة أستاذ مساعد 2008م، وبدأت رحلتي العملية بتعييني معيدًا بكلية الدراسات الإسلامية والعربية فرع الفيوم جامعة القاهرة (دار العلوم حاليًا) 1990م، ثم انتقلت إلى كلية دار العلوم جامعة المنيا.
وقمت بالتدريس خلال الفترة من 1996 إلى 2022 بعدة جامعات؛ وبدأت أولاً بالتدريس بقسم الشريعة الإسلامية بكلية دار العلوم جامعة المنيا، ثم بقسم الدراسات الإسلامية بجامعة جيزان بالمملكة العربية السعودية، ثم بقسم الفقه وأصوله بكلية العلوم الإسلامية بجامعة المدينة العالمية بماليزيا،، وقد شرفت أيضًا في عام 2012 م بتولي عمادة معهد الثقافة الإسلامية بالمنيا والتابع لوزارة الأوقاف بجمهورية مصر العربية، وعملت في عام 2014م اختصاصيًّا بإدارة الموسوعة الفقهية بوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بالكويت.
ومن خلال مسيرتي العلمية والعملية أشرفت وناقشت عشرات الرسائل العلمية (الماجستير والدكتوراه) في الشريعة الإسلامية بجامعات المنيا والقاهرة والأزهر الشريف والمدينة العالمية بماليزيا، وأنجزت العديد من الأبحاث والمؤلفات في الفقه وأصوله، وكذلك حضرت العديد من المؤتمرات العلمية في مصر وماليزيا وغيرها، وشاركت في عديد من اللجان العلمية والإدارية بالكليات التي عملت بها.
ومن أبحاثي: عقد الاستصناع وتطبيقاته الحياتية المعاصرة. قاعدة الاستصحاب: دراسة أصولية مقاصدية وتطبيقاتها الفقهية والقانونية (مشترك). تحديد جنس الجنين في الشريعة الإسلامية. خيار الرؤية في التشريع الإسلامى. إحياء الأرض الموات بين الفقه الإسلامي والقانون الوضعي الليبي: دراسة مقارنة (مشترك). وأما كتبي فمنها: أحكام الميراث في التشريع الإسلامي. أحكام المعاملات في الفقه الإسلامي. التشريع الإسلامي: تاريخه وخصائصه ومصادره. أحكام العقود في الفقه الإسلامي.
لو بدأنا بتحرير مفهوم “الاجتهاد”.. فماذا نقول؟
بالنظر إلى تعريفات علماء الأصول لمفهوم “الاجتهاد”، نجد أنها تعددت وتنوعت؛ فنجد على سبيل المثال لا الحصر عند الآمدي والشاطبي والشوكاني وغيرهم تدور تعريفاتهم للاجتهاد بأنه بذل الوسع أو استفراغه في نيل حكم شرعي عملي بطريق الاستنباط، وعند ابن الهمام، وعلاء الدين البخاري وابن قدامة جاءت تعريفاتهم بأنه بذل المجهود أو الطاقة من الفقيه في طلب العلم بأحكام الشرع.
وبناء على ذلك يمكننا القول بأن “الاجتهاد” هو بذل الوسع والجهد والطاقة لتحصيل الحكم الشرعي العملي بطريق الاستنباط من النصوص الشرعية، أي بذل الوسع العلمي المنهجي لتحقيق التفاعل المستمر بين النصوص الشرعية والعقل المسلم والواقع الإنساني. وقد بين الدكتور القرضاوي أن الاجتهاد من الدين، وهو أصل من أصوله التي تثبت حيوية الإسلام وقدرته على إيجاد الحلول المناسبة لمشكلات الحياة المتجددة، والمجتهد الحق هو الذي ينظر إلى النصوص والأدلة بعين، وينظر إلى الواقع والعصر بعين أخرى؛ حتى يوائم بين الواجب والواقع، ويعطي لكل واقعة حكمها المناسب لمكانها وزمانها وحالها.
ويعتبر علماء الدين الإسلامي الاجتهادَ من أهم الوسائل التي يتمكن بها العالم المختص من التوصل إلى الأحكام الشرعية في مسائل الحياة المتجددة.
وما أهم ضوابط الاجتهاد؟
من أهم ضوابط الاجتهاد، بعد الالتجاء إلى اﷲ وسؤاله العون والتوفيق، أن يكون معتبَرًا ومَبنيًّا على رؤية شرعية صحيحة، وبذل أقصى الجهد للوسع العلمي المنهجي في تتبع الأدلة، والبحث عنها في مظانها، وبيان منزلتها والموازنة بينها إذا تعارضت، بالاستفادة مما وضعه أهل الأصول من قواعد التعادل والترجيح، وأن تكون المسألة المجتهَد فيها غير منصوصٍ عليها بنصٍّ قاطعٍ أو مجمع عليها. ومن المعلوم أن مجال الاجتهاد هو في الأحكام الظنية الدليل؛ أما ما كان دليله قطعيًّا فلا سبيل إلى الاجتهاد فيه (لامساغ للاجتهاد في مورد النص).
وكذلك من ضوابط الاجتهاد، ضرورة الجمع بين الفقه والحديث؛ حتى لا يتم الاستشهاد بأحاديث ضعيفة أو موضوعة ويبني عليها أحكامًا. وكذلك طالب الحديث بلا فقه معرَّضٌ للضياع. ومن الضوابط المهمة أيضًا مراعاة فقه الواقع ومسايرة روح العصر، وأن يراعي الناظر في النوازل عند اجتهاده الواقعَ المحيط بالنازلة؛ وذلك أن كثيرًا من الأحكام الشرعية الاجتهادية تتأثر بتغير الأوضاع والأحوال الزمنية والبيئية.
هل هذه الضوابط هدفها تفعيل عملية الاجتهاد وصيانتها، أم كبح العقل وتعطيله؟
لا شك أن هذه الضوابط هدفها تفعيل عملية الاجتهاد وصيانتها، حتى لا تخرج مخالفة للشريعة وقواعدها؛ بل إنها تدفع عملية المزاوجة بين النظر في الأدلة الشرعية واستنباط الأحكام الشرعية باستصحاب فقه الواقع، بتنزيل النص الشرعي كتابًا وسنةً على الواقع، وتقويم سلوك الناس ومعاملاتهم به.
وهذا الأمر يتطلب أول ما يتطلب بعد فقه النص النظر إلى الواقع البشري وتقويمه، انطلاقًا من النص، مع مراعاة كيفيات تنزيله في ضوء هذا الواقع المتغير.
محمد إقبال يرى أن الاجتهاد هو “مبدأ الحركة في الإسلام”.. فما دور “الاجتهاد” في تفعيل الشريعة، والفكر الإسلامي عمومًا؟
الاجتهاد يقوم بدور نقل الفكر الإسلامي من حيز النظرية إلى حيز التطبيق، ويبين لنا حيوية الشريعة الإسلامية، ويفصح عن مكنونها في صلاحيتها لكل زمان ومكان. وهو ضرورة حيوية وعمل مشروع؛ لأن النصوص الشرعية محدودة، والحوادث غير محدودة ولا متناهية في مختلف العصور والأزمنة.
كما أن الاجتهاد هو الذي يعطي الشريعة خصوبتها وثراءها، ويمكّنها من قيادة زمام الحياة إلى مايحب اﷲ ويرضى، دون تفريط في حدود اﷲ ولا تضييع لحقوق الإنسان، وذلك إذا تمت مراعاة الضوابط السابق ذكرها.
أين تقع “المقاصد” في العملية الاجتهادية؟ وهل هي- أي “المقاصد”- تصلح وحدها مقياسًا للاجتهاد، أم تأتي متكاملةً مع “الأحكام الفقهية”؟
العلم بمقاصد الشریعة مهم جدًّا لعملية الاجتهاد؛ حيث لا تتم إلا به. وقد بين ذلك الإمام الشاطبي في (الموافقات) فقال: “إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين: أحدهما فهم مقاصد الشريعة على كمالها، والثاني: التمكن من الاستنباط، بناءً على فهمه فيها”.
ومن هنا يتبين لنا أن دور المقاصد مهم وأساسي في عملية الاجتهاد؛ لأنه يؤهل المجتهد للاجتهاد واستنباط الحكم الشرعي من الأدلة الشرعية، بالإضافة إلى أنه يؤدي إلى إيجاد علاقة متوازنة بين الفروع المستنبطة والأصول الكلية، فلايحدث التعارض بينهما، ويمنح الاستنباط قوة تؤدي إلى قبوله عند المجتهدين والاتفاق عليه، كما أن تفعيل المقاصد يؤدي إلى رفع الحرج والتيسير للأمة.
وبذلك لا یكفي وجود النصّ وحده لصحة الاجتهاد، إلا بتفعيل المقاصد في العملية الاجتهادية، وتكون هي الأساس الذي يعتمد عليه المجتهد في المسائل المستجدة التي لا نص فيها.. كما تتكامل المقاصد مع الأحكام الشرعية، ولا تنفصل عنها. وعملية الاجتهاد تستوعب تلك العلاقات.
الاجتهاد له دواعٍ أساسية ثابتة؛ مثل قابلية النص للقراءة المتعددة، وأن النصوص المحكمة قليلة بالنظر لغيرها.. هل يمكن القول بأن الواقع المعاصر أضاف دواعيَ جديدة؟
من المعلوم أن النصوص متناهية والقضايا لا متناهية؛ مما يجعل أهمية للاجتهاد ليستوعب كافة قضايا ومسائل الاجتماع الإنساني، وفي جميع المناحي؛ حيث يغدو شأنًا أوسع من أن يستوعبه فقهاء النص وحدهم أو فقهاء الواقع وحدهم. ولذا، فإن الاجتهاد في العصر الحالي أصبح ضرورة حتمية لمواجهة مستجدات العصر، ولازمًا لكل المجتمعات الإنسانية، وضرورة من ضرورات الحياة.
ومن دواعي الاجتهاد حاجة الناس إلى التيسير والتخفيف في الأحكام الفرعية العملية، بمراعاة الواقع، ولا سيما من كان يجتهد لعموم الناس؛ فإن المطلوب منه رعاية الضرورات والأعذار والحالات الاستثنائية.
وإذا كان الاجتهاد محتاجًا إليه في كل عصر، فإن عصرنا أشد حاجة إليه من أي عصر مضى؛ نظرًا لتغير شئون الحياة عما كانت عليه في الأزمنة الماضية، وتطور المجتمعات تطورًا هائلاً، بعد الثورة التكنولوجية التي شهدها العالم. لهذا، كان من الضرورات المعاصرة أن يعاد فتح باب الاجتهاد فيه من جديد.
والاجتهاد الذي نعنيه ينبغي أن يتجه أول ما يتجه إلى المسائل الجديدة، والمشكلات المعاصرة، يحاول أن يجد لها حلاً في ضوء نصوص الشريعة الأصلية.
كيف ترون مسيرة الاجتهاد المعاصر؟
إذا كانت مجالات الاجتهاد واسعة ومتعددة، فإن الاجتهاد المعاصر ينبغي أن يركز على مجموعة من القضايا التي تتطلب هذا النوع من الاجتهاد ليتواءم في دقته وقوته مع قوة ودقة تلك القضايا، وأهميتها في حياة الأمة، وببعض صور الاجتهاد الفردية.
وقد ظلت حركة الفقهاء مستمرة واجتهاداتهم معبرة عن اجتهادات فردية، ولم يظهر الاجتهاد المطلق إلا في ظروف خاصة عند التأزم وانسداد الأفق، كمثال ابن تيمية (ت 728هـ) في مطلع القرن الثامن الهجري؛ الذي دعا إلى لعودة إلى الأصول.. وفي أواخر القرن العاشر الهجري دعا السيوطي إلى الاجتهاد المطلق، غير المقيد بالمذاهب. غير أنه من الملاحظ أن كلاًّ من ابن تيمية والسيوطي قَصَرَا دعوتيهما الاجتهاديتين على مجال “الأحكام الشرعية”؛ لأن الحاجة كانت مقصورة آنذاك، على ذلك المجال الذي يتناول علاقات “النصوص” بالوقائع المستجدة. وظل الاجتهاد الجزئي هو المنفذ الوحيد الذي استغله المتأخرون ليجتهدوا في كثير من النوازل والفتاوى، وممارسة عملية الترجيح والتخريج كشكلين بارزين من أشكال الاجتهاد.
وعلى العموم، إن كان الاجتهاد فرديًّا أو جزئيًّا فإن آثار علماء الشريعة المعاصرين ملأى بالاجتهادات، سواء في كتبهم ودراساتهم أو مشاركاتهم في وضع القوانين المدنية والجنائية والأحوال الشخصية وغيرها؛ أمثال الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر الأسبق، والشيخ مصطفى الزرقا، والشيخ علي الخفيف، والشيخ محمد أبو زهرة، والشيخ محمد فرج السنهوري، والشيخ عبد الوهاب خلاف، والشيخ محمد الزفزاف، والدكتور محمد سلام مدكور، والدكتور عبد الكريم زيدان، وأمثالهم في العالم العربي والإسلامي.
وهل هذه المسيرة تأتي متوازيةً مع التحديات والمستجدات المطروحة على الفقه والفقيه، أم متأخرة عنهما؟
في الحقيقة نحتاج المزيد من الجهود لتقدم هذه المسيرة، والتي بدأت من عشرات السنين؛ لحاجة الأمة لحلول للقضايا المستجدة بمختلف المجالات الحياتية. ونرجو من الله أن تتقدم المسيرة لتواكب حركة العصر المتجددة بعون من الله والمزيد من الجهود للعلماء والمؤسسات الأكاديمية والمجامع الفقهية.
في العملية الاجتهادية هناك نصٌّ وواقع.. هل الاتجاه الصحيح يكون من النص إلى الواقع، أم من الواقع للنص، أم هي عملية مزاوجة بينهما؟
العملية الاجتهادية تعتمد على المزاوجة بالفعل بين النص والواقع؛ لأن تطبيق الأحكام يتعلق بإنزال حكم النصوص على الوقائع، والتفسير والاجتهاد لاستخلاص الحكم الجديد؛ وذلك بتحريك النص الثابت على الوقائع المتغيرة، بعملية مزاوجة بينهما تهدف إلى التمكن من فهم الوحي الإلهي من جهة، والتمكن من فهم الواقع الإنساني الذي يراد تطبيق الحكم عليه من جهة أخرى.
فالاجتهاد لا ینبني فقط على النصّ اللفظي، بل يتجاوزه إلى الروح.. ویتعدَّى المنطوق إلى المفهوم.. وینظر في حال الناس كما ینظر في أحوال الألفاظ.. ویعالج التعارض بین المصلحة والمفسدة، كما یعالج التعارض بین االظاهر والمؤول، وبین العام والخاص، وبین المطلق والمقید، وبین الحقیقة والمجاز، ویدفع تعارض النصّ مع المصلحة بالترجیح أو الجمع كما یدفع أي تعارض وتدافع.
ويمكننا القول بأنه لا یكفي وجود النصّ وحده لصحة الاجتهاد، وإنما لا بدّ من مؤهلات ضروریةٍ وشروطٍ أساسیةٍ فوق شرط التمكّن في النظر النّصّي؛ منها الإلمام بمقاصد الشریعة، والنظر في الشریعة وأدلتها وأحكامها، ومراعاة فقه الواقع.
ما المزالق التي يمكن أن تحرف العمل الاجتهادي عن مساره واتجاهه؟ وكيف نتجنبها؟
من أهم المزالق التي تحرف العمل الاجتهادي عن مساره واتجاهه، غفلة المجتهد عن النصوص الشرعية؛ نتيجة الجهل بها، أو العدول عنها لهوى أو غير ذلك؛ مما يجعل الاجتهاد مرفوضًا لمخالفته النصوص الشرعية، والتي كان لزامًا على المجتهد الرجوع إليها.
ومن المزالق أيضًا سوء فهم النصوص الشرعية أو تحريفها، والقياس الفاسد في غير موضعه؛ كأن يقيس النص القطعي على الظني في جواز الاجتهاد فيه، أو يقيس الأمور التعبدية المحضة على أمور العادات والمعاملات في النظر إلى حكمها ومقاصدها، واستنباط علل لها بالعقل ترتب عليها الأحكام.. كذلك التجاهل والإعراض عن إجماع الفقهاء المتيقن والمستقر عليه العمل باتفاق المذاهب الفقهية في عصورها المختلفة. ومن الأمور المهمة التي تحرف العمل الاجتهادي عن مساره، الغفلةُ عن واقع العصر ونوازله.
كيف ترون دور المؤسسات والمجامع الفقهية في دفع حركة الاجتهاد وتفعيلها؟
في الحقيقة أصبح دور المؤسسات والمجامع الفقهية دورًا مهمًّا في تبصير الأمة بالأحكام الشرعية في القضايا المستجدة؛ وذلك عن طريق الاجتهاد الجماعي، والذي له أهمية بالغة في التشريع الإسلامي؛ لتحقيقه مبدأ الشورى في الاجتهاد، وتبادل وجهات النظر بين العلماء المتخصصين في الشريعة الإسلامية، ويكون أكثر دقة وإصابة من الاجتهاد الفردي، ويسد إلى حد كبير الفراغ الذي يحدثه غياب المجتهد المطلق، وييسر للأمة استمرار الاجتهاد، ويمنع أسباب توقفه أو إغلاق بابه، كما أنه يفيد من الاجتهاد الفردي الذي يمكن أن يكون رافدًا من روافد الاجتهاد الجماعي، فيتم تصويبه أو إقراره واعتماده.
والأمر أيضًا في هذه المجامع ليس قاصرًا على علماء الشريعة، بل هي تضم كذلك العلماء والمفكرين المتخصصين في شتى العلوم والمعارف الإنسانية.. وتسعى المجامع الفقهية إلى تحقيق مجموعة من الأهداف، تصب في الاهتمام بمشكلات الأمة ووضع الحلول الشرعية المناسبة لها، والسعي إلى توحيد التشريعات لكافة الأقطار الإسلامية، ليكون بذلك نواة لوحدة الأمة الإسلامية، وإثراء فقهها الإسلامي.
ما أهم القضايا أو المجالات المعاصرة التي ترونها أكثر استدعاءً للاجتهاد؟
ينبغي أن يصبح الاجتهاد المعاصر مشروعًا فكريًّا يستوعب كافة قضايا ومسائل الاجتماع الإنساني، وفي جميع المناحي؛ حيث يغدو شأنًا أوسع من أن يستوعبه فقهاء النص وحدهم أو فقهاء الواقع وحدهم.
ومن أهم المجالات التي تستدعي الاجتهاد فيها مجال التعامل المالي والاقتصادي والاجتماعي؛ وعلى سبيل المثال لا الحصر، في الشركات والتأمين والبنوك، والأسهم، والبيوع الحديثة، وكذلك في المجال العلمي والتطبيقي، والطبي كزراعة الأعضاء والتلقيح المجهري والهندسة الوراثية وعمليات التجميل.. وغيرها من قضايا ملحة، وكذلك إعادة النظر في التراث الفقهي.
المناهج الجامعية.. هل هي مناسبة لتشكيل “باحث فقهي” يمكنه لاحقًا التفاعل بإيجابية مع الدور الاجتهادي المطلوب؟
في الحقيقة ومن خلال خبرتي العملية في مجال التدريس الجامعي بالأقسام الشرعية، نجد أن المناهج الجامعية ما زالت على غير الصورة المرجوة؛ من تكوين الملكة الفقهية للخريج، وتشكيل الباحث الفقهي المنشود.. فلابد أن تحتوي هذه المناهج على أهداف تنتج ثمرات تخدم هذا الأمر، ولا تكتفي بالتلقين والحفظ وعرض نصوص تراثية فقط، بل يجب أن تهتم المناهج بالقضايا الفقهية المعاصرة التي تواجه الناس، والنوازل والمستجدات ومراعاة فقه الواقع، والدراسات التطبيقية؛ حتى يتخرج الطالب ملمًّا بالقضايا وحلولها من وجهة نظر الشريعة الإسلامية.