بمناسبة الذكرى السبعين لصدور كتاب “شروط النهضة” للمفكر الكبير مالك بن نبي، رحمه الله، تعتزم كلية الدراسات الإسلامية بجامعة حمد بن خليفة، عقد مؤتمر دولي، في الفترة من 2- 4 فبراير 2019م، من أجل تقييم شامل ومعمق ومتكامل لهذا الكتاب، وإجراء حوار علمي شامل حول مشروع النهضة الحضارية الذي طرحه بن نبي في إطار الرؤية السُّنَنية التي حرص على الالتزام بها، وتكريسها في منهجية دراسة الظواهر الفكرية والثقافية والاجتماعية والحضارية.

ويطمح المنظمون- كما جاء في الورقة التعريفية بالمؤتمر وأهدافه ومحاوره- إلى أن يكون المؤتمر فضاء للعلماء والمفكرين الباحثين لمدارسة هذا المشروع الفكري لمالك بن نبي والقيام بعمل تقييمي استشرافي؛ يقيم مشروع النهضة وأطروحته، ويستشرف آفاق تطويرها والانتقال بها إلى مستوى مستقبلي ينقل أمتنا من التناول الجزئي العشوائي لمشكلات نهضتها إلى التناول السنني العلمي القائم على إعمال سنن الله في الآفاق والأنفس والتاريخ؛ بهدف إحداث نقلة في واقع مجتمعاتنا الإسلامية نحو تحقيق السيادة والاستقلال والريادة الحضارية، واستعادة دورها الحيوي في المجتمع الدولي.

وقد أوحى لي هذا الاهتمام المشكور والمقدَّر بكتاب بن نبي المهم “شروط النهضة”، والذي كان علامة فارقة في الدراسات الحضارية، ككل أعمال بن نبي رحمه الله.. أوحى لي بضرورة الاهتمام بكتاب آخر، لا يقل مكانة في بابه، عن كتاب بن نبي في مجاله.. كما أنه أحدث دويًّا هائلاً يوم صدوره، وصار مقرونًا باسم مؤلِّفه، العلامة أبو الحسن الندوي، طلية حياته التي زادت على الثمانين عامًا، (1914- 1999م).. بحيث لا يُذكر أحدهما إلا وذُكر الآخر! رغم كثرة ما ألفه الندوي بعده من كتب ودراسات..!

إنه الكتاب المهم، والأبرز من بين كتب الشيخ العلامة المجدد أبو الحسن الندوي، رحمه الله رحمة واسعة: (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين)..

لقد كان هذا الكتاب عجيبًا حقًّا.. في توقيت صدور.. وفي استقبال الناس له.. وفي مضمونه!

– أما في توقيت صدوره؛ فقد ألفه الشيخ وسنه لم يتجاوز الثلاثين إلا بقليل، 31 عامًا، أي في عام 1945م، ومع ذلك جاء الكتاب طريفًا في فكرته، عجيبًا في محاوره، متدفقًا في معانيه، حارًّا في رسالته.. حتى لتشعر بأنه كُتب بمداد يتصل بروح الشيخ، وبهموم الأمة، وبالغيرة عليها، بل وبالإشفاق على الإنسانية كلها..!

– ولهذا، استقبله الناس استقبالاً حسنًا، فاق ما كان يؤمله الشيخ نفسه، وطُبع في مصر قبل أن يزورها الشيخ، فصار الناس يُعرِّفون به في المجالس والمنتديات، ويقولون: هذا صاحب كتاب ماذا خسر العالم؟!

كما توالت طبعات الكتاب، ونال تقريظ كبار المفكرين والباحثين، في مصر والعالم، ومنهم د. محمد يوسف موسى، د. أحمد أمين، د. أحمد الشرباصي، الشيخ الغزالي، د. محمد رجب البيومي.. وكل من قرأ الكتاب أُخذ به، ودُهش لفكرته وأسلوبه ومعالجته..

أربعة محاور:

– أما موطن العجب في “مضمون الكتاب”- وهذه نقطة مهمة- فهو أنه لا ينطلق من الشعور بالضعف والوهن، وإنْ كان يرصد مظاهره ويحلل أسبابه، بصراحة وعمق؛ وإنما ينطلق من أربعة محاور أساسية:

– الاعتزاز بالإسلام وبتجربته الفريدة في التاريخ.

– الإيمان بقدرة الإسلام على أن يجعل أمته تستأنف دورها في قيادة البشرية.

– الإشفاق على الإنسانية التي أصابها القلق والتيه، نتيجة ما أصاب المسلمين من انحطاط وتقهقر.

– التعامل مع الحضارة الغربية، ليس من موقع الندية فحسب، بل من موقع الأستاذية.. باعتبار أن الإسلام خاتمة الرسالات، والمهيمِن على ما سبقه من كتب وشرائع، والوحيد القادر على انتشال عالمنا من التيه.

بجانب ذلك، جاءت معالجة الشيخ لهذه الفكرة ولتلك المحاور، عجيبةً في تركيبيَّتها وفي مَزْجِها بين معارف عدة وعلوم شتى.. فالشيخ رحمه الله- كما برز جليًّا في الكتاب- يتمتع بعمق معرفي في النواحي المتصلة بالإسلام وعلومه، وبالتاريخ وفلسفته، وبحركة المجتمعات وسُننها، وبالحضارة الغربية ونشأتها وثغراتها ومواطن العلل فيها.. مع بيانٍ مشرق سلسل لا تقعر فيه ولا إغراب..

هذا الرؤية المركَّبة، والمناهج المتعددة التي مزج الشيخ بينها بمهارة فائقة، أتاحت لكتابه أن يجيء بوصفه دراسةً أمينةً لـ”الخط البياني” المتصل بالإسلام وحقائقه وتاريخه، وبمسيرة البشرية عمومًا.. صعودًا وهبوطًا، قوة وضعفًا.

كما أن الشيخ رحمه الله كان صريحًا في نقد “الذات” بمثل صراحته في نقد “الآخر”.. حتى إن بعض الباحثين ليأخذون على الشيخ “قسوته” في استخدامه لكلمة “الانحطاط”، بدلاً من كلمات أخرى أخف وطأة في التعبير عن حالة التراجع الحضاري للمسلمين! وقد غاب عن هؤلاء أن النائم يحتاج لوسائل أشد في التنبيه، كلما كان مستغرقًا في نومه!

يضاف لهذا، أن الشيخ رحمه الله مطلع على الخريطة الجغرافية الحضارية للعالم، بحيث يعرف الشرقَ في أقصاه وأدناه وأوسطه، والغربَ في شرق وغربه.. ويعرف العرب والعجم.. فهو ابن القارة الهندية بكل تنوعاتها، وهو ابن الإسلام بكل امتداداته، وهو دارس للغرب بكل تفاصيله..

وتلك ميزة مهمة تضاف لرؤية الشيخ الفكرية المركَّبة.. وجعلت من كتابه نسيج وحيده..

شهادات

ويكفي للإشارة إلى أهمية (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين) ما قاله د. محمد يوسف موسى في تقديمه للكتاب، فقد قال: “وأشهد أني قرأت الكتاب حين ظهرت طبعته الأولى في أقل من يوم، وأغرمت به غرامًا شديدًا، حتى لقد كتبت في آخر نسختي، وقد فرغت منه: (إن قراءة هذا الكتاب فرض على كل مسلم يعمل لإعادة مجد الإسلام)”.

أما د. محمد رجب البيومي فكتب في مقال مستفيض: “وقد كدت أتهم نفسي في شدة إعجابي بهذا الكتاب المبدع؛ ولولا أن الإعجاز وقف على كتاب الله وحده، لقلت إنه الكتاب المعجز؛ ولكني رأيت كبار الكتاب المنصفين يقولون ما أقوله، وفي طليعتهم أستاذي الكير الدكتور محمد يوسف موسى… إن التوفيق لم يرجع إلى معرفة الكاتب بالإسلام معرفة حقه فقط، بل يرجع مع ذلك إلى معرفة بالبلاء الثقيل الذي عم العالم بمجافاته الإسلام، والذي مكَّن الغرب أن يتحكم بقوته الباطشة في الشعوب. وفي أثناء الازدهار الباهر الذي غشي العيون متأثرة بمدنية الغرب، كان المؤلف الشاب يلمح الدودة الكامنة في جذع الشجرة، والسوس السارب في ساقها وفروعها رغم ما يلوح من اخضرارها الزائف؛ وقد عملت هذه المهلكات المبيدة عملها في الشجرة الممتدة حتى ارتمت على الأرض طريحة حين قامت الحرب العالمية الثانية، فأكلت أوروبا أول ما أكلت، والله لا يهدي القوم الظالمين“.

ونقل د. البيومي في مقاله ما سجله د. شكري فيصل عن الكتاب حيث قال: “شيء آخر يمتاز به المؤلف ويرتفع به إلى مصاف كبار المفكرين المسلمين، وذلك هو نظرته الشاملة العالية إلى تطور الحياة الإنسانية، فإن الأبواب الخمسة التي كسر عليها الكتاب لتدل على هذا الأفق العالي الذي يجتذب التاريخ الإسلامي والتاريخ العام، ويركزه فيه؛ فمن خلال صفحات الكتاب تستطيع أن تصفي تاريخ الدولة الإسلامية والدول الأوروبية من حيث الحياة الاجتماعية والدينية على السواء، كما تلم بالخطوط العريضة للحركات الدينية، وبتلاقيها وتوازيها واقتراب بعضها من بعض، وبالاتجاهات، وما كان من انحدارها وارتفاعها ومن إشراقها وأفولها”.

رسالة الكتاب

إن الرسالة الأساسية للكتاب هي أن انحطاط المسلمين أولاً، وفشلهم وانعزالهم عن قيادة الأمم بعدُ، وانسحابهم من ميدان الحياة والعمل أخيرًا، لم يكن حادثاً من نوع ما وقع وتكرر في التاريخ من انحطاط الشعوب والأمم.. إنما كان- بحسب تعبير الندوي- مأساة إنسانية عامة لم يشهد التاريخ أتعس منها ولا أعم منها.. والعالم لم يحسب إلى الآن الحساب الصحيح لهذا الحادث، ولم يقدره قدره، وليس عنده المقياس الصحيح لشقائه وحرمانه.

كما أن الكتاب لا يدرس تاريخ المسلمين من زاوية العالَم؛ وبالتالي كان من الممكن أن يتساءل، كما يتساءل معظم الناس: ماذا خسر المسلمون من واقعة كذا؟ أو ماذا خسر المسلمون بسبب النهضة الغربية؟.. وإنما يجعل المسلمين محور الارتكاز، ونقطة الدوران، فيقول: ماذا خسر العالم حين تخلف المسلمون عن حمل رسالتهم وأداء ودورهم؟ وما بوسع المسلمين أن يقدموه لأنفسهم ولغيرهم من نور وهداية؟

للهيئات والباحثين

لهذا كله.. فإنني أوجه الدعوة للهيئات العلمية ، وللباحثين الجادين، أن يتخذوا من مناسبة مرور خمسة وسبعين عامًا على صدور الكتاب- وهي المناسبة التي ستحل بعد عامين- فرصة لمدارسة هذا السفر القيم، ولفتح باب الحوار حول رسالته وتأثيره في تقويم الفكر الإسلامي المعاصر وترشيده، وفي إعادة الثقة والوعي للذات الإسلامية، بجانب دوره في رصد حركة التاريخ العالمي وعلى كل الدوائر الحضارية شرقًا وغربًا..

بهذه الرؤية الشاملة والمنهج المركَّب في التناول.. وبالثقة والاعتزاز في الانطلاق.. وبالندية والإشفاق عند التعامل مع الآخر.. بهذا كله يكتسب الكتاب أهميته، ويستحق منا أن نوليه حقه من الفحص والدرس والمتابعة..

ما زلنا بحاجة إلى صوت العلامة أبو الحسن الندوي رحمه الله، وإلى كتابه الأكثر من مهم..!