لا مشاعر تُشبه تلك التي تجتاح الحضور فوق المنصة ومن حولها في حفلات التكريم والتخرّج في المؤسسات التعليمية؛ مزيجٌ من الشعور بالفخر والإنجاز، والراحة من مشوارٍ طويلٍ؛ ثيابٌ سوداء لامعةٌ ذات ألوان لها معانٍ، وقُبّعاتٌ مربّعة تتطاير في الهواء، وفرحةٌ لا تضاهيها فرحة! فمن ذا الذي اخترع هذا؟ ومن أين أتت التكريمات والشهادات والاحتفالات لتعلن تحقيق إنجازٍ علميّ في حياة الخريجين؟
يعرفُ أكثرنا أنّ النظام التعليميّ الحديث جاءنا من الغرب، وهذه الثياب الغريبة والقبّعات العجيبة شاهدٌ صريحٌ على ذلك؛ وأسماء الشهادات التي ينالُها الخريجون عند إتمام كل مرحلة شاهدٌ آخر، فهذه ‘ليسانس‘ أو ‘بكالوريوس‘ تليها ‘ماجستير‘ ثم ‘دكتوراه‘؛ وكلُّ هذه الأسماء بعيدةٌ من لساننا كما هي الثياب بعيدةٌ من هندامنا الذي كنا نعرفه!
لكن هل كان عند أجدادنا شيءٌ يشبه هذه التقاليد: هل عرفوا الشهادات والاحتفالات؟ وهل تلقى المتفوقون التكريم وعاش أهلوهم الفرحة قُرب المنصّة؟ أم إن هذه التقاليد كانت هدية صرفة من العالم الغربيّ لنا وللعالم؟ ذلك ما تحاول هذه المقالة الإجابة عنه بحفر تاريخي في بعض الجذور التراثية لهذه التقاليد.
اصطلاح لغوي
كان العربُ -منذ القِدم- يستعملون مصطلح “الحِذق” بمعنى التخرّج في علمٍ ما أو كتابٍ بعينه، أو صنعةٍ من الحِرف؛ فكأن الحاذق هو الخرّيج، وكأن “الحَذاق” هو حفلُ التخرّج! ولذا جاء في ‘لسان العرب‘ لابن منظور (ت 711هـ) أن الحِذاقة هي: “المهارة في كلّ عمل، وحَذِقَ الشيءَ يَحذِقه.. حَذْقًا.. وحَذاقًا.. وحِذاقة؛ فهو حاذقٌ من قوم حُذّاق! يعني ماهرٌ متقِنٌ لصنعته. وحَذق القرآن والعِلم: تعلّمه وأتقنه، ويُقال لليوم الذي يختم فيه الصبي القرآن: هذا يومَ حَذاقه”. وقال شمس الدين ابن طولون الدمشقي (ت 953هـ) -في كتابه ‘فصّ الخواتم فيما قيل في الولائم‘- إن “وليمة الحِذاقة.. هي الإطعام عند ختم القرآن…، وكذا إذا تعلَّم الآداب”.
وأقدمُ ذكرٍ وقفنا عليه للحَذق -بمعنى التأهل في علم ما- هو ما ذكره الحافظ ابن عساكر (ت 571هـ) في ‘تاريخ دمشق‘، لدى ترجمته للشاعر الجاهليّ الشهير عَدِي بن زيد العِبَاديّ (ت 35 ق.هـ)؛ قال: “فلما تحرّك عدي بن زيد وأيفع (= شبّ) طرحه أبوه في الكُتّاب، حتى إذا حَذِق أرسله المرزُبان (= رُتبةٌ وظيفية عند الفرس) مع ابنه شاهان مرد إلى كُتّاب الفارسية، فكان يختلفُ مع ابنه ويتعلم الكتابة والكلام بالفارسية، حتى خرج من أفهم الناس بهما وأفصحهم بالعربية، وقال الشعر”. ففي هذا النصّ دعوى أن الكُتّاب كان عند العرب قبل الإسلام، وأن من يتخرّج فيه يُقال إنّه “حَذِق”.
والمتتبع لمصطلح “الحذق” في كتب التاريخ وتراجم الأعلام يجد أن استعماله غلب على البراعة في القرآن الكريم تحديدا؛ فإذا قيل: “حَذِق فُلان” فإنه يعني أتمّ تعلّم القرآن، واستُعمل أيضًا في البراعة في علوم الحديث والفقه والنحو، وفي علوم أهل الكتاب، وفي الطب والكتابة والحساب، وفي الغناء والصنعة عموما.
فأما حذق القرآن والحديث وعلوم الشريعة فلا يُحصى ذكره في الكتب؛ وأما النحو فقد وجدتُّ ياقوت الحموي (ت 626هـ) نقل -في كتابه ‘معجم الأدباء‘- شهادة “حِذق” كتبها الأخفش النحوي (ت بعد 452هـ) لتلميذه سليمان الشرفي ووثّقها بتاريخ منْحها؛ يقول فيها: “حَذِقَ عليّ هذا الكتاب -وهو كتاب ‘الفصيح‘- أبو القاسم سليمان بن المبارك الخاصة الشرفي -أدام الله أيامه- من أوله إلى آخره قراءةَ فهم وتصحيح، وقرأت أنا على عليّ بن عميرة -رحمه الله- في محلة باب البصرة ببغداد عند المسجد الجامع الكبير، وقرأ هو على أبي بكر ابن مقسم النحوي (ت 355هـ) عن أبي العباس ثعلب (ت 290هـ) رحمه الله. وكتب علي بن محمد الأخفش النحوي سنة اثنتين وخمسين وأربعمئة عربية”.
شمولية استخدام
ولعلّ من طرائف “الحِذق” ما ذكره ابن أيبك الصفديّ (ت 764هـ) –في كتابه ‘الوافي بالوفيات‘- عند ذكره سيرة الشاعر عبد الوهاب بن محمد الأزدي الملقب بـ”المثقال”؛ إذ قال إنه “كان يألف غلامًا نصرانيًّا خمَّارًا واشتهر [بذلك]، وأقام ببابه في الحانة ثلاث سنين، و[كان] يدخل معه الكنيسة في [أيام] الآحاد والأعياد طول هذه المدة، حتى حذق كثيرًا من الإنجيل وشرائع أهله”! فهذا الرجل حَذِق الإنجيل بالصدفة لكثرة سماعه نصوصه!
أما حذق الغناء؛ فقد ذكر أبو البركات الموصليّ (ت 654هـ) -في ‘قلائد الجمان في أخبار شعراء الزمان‘- بيت شعرٍ سمعه من الشاعر أبي العز يوسف بن النفيس الإربلي (ت 638هـ) الذي كان يُلقّب بـ”شيطان الشام”، يصفُ فيه انصراف الناس عن الطاعات بعد رمضان:
وصار كلُّ “بلال” فوق مئذنة ** كأنَّه “معبَدٌ” في حِذق “إسحق”!
فيبدو أن هذه الآفة –انقلاب الحال بعض رمضان- قديمةٌ في الناس، لكن ما يعنينا في البيت أنه ذكر الحِذق مقترنًا بالموسيقى، وهو مذكورٌ كثيرًا. و”معبدُ” المذكور في هذا البيت هو معبد بن وهب (ت 126هـ) الذي كان أشهر مغنّي العرب، وأما “إسحق” فهو إسحق بن إبراهيم الموصليّ (ت 235هـ) وكان مغنيًا ومحدِّثًا وفقيهًا، وكان أعجوبةً من الأعاجيب بجمعه بين هذه المتناقضات وبراعته فيها كلّها، حتى وصفه الإمام الذهبي (ت 748هـ) -في ‘سير أعلام النبلاء‘- بأنه “الإمام العلامة الحافظ.. صاحب الموسيقى”!
أما الحذق في الصنعة الحِرفية فهو كثير الاستعمال في كلامهم، ومن أجمل ما وجدنا فيه ما ذكره الذهبيّ -في ‘السيِّر‘- لدى ترجمته للإمام أبي بكر القفال (ت 365هـ) وهو أحد أئمة الشافعية الكبار؛ فقد قال إنه “حذق في صنعة الأقفال حتى عمل قفلا بآلاته ومفتاحه، زنة أربع حبات (= خفيف الوزن والحجم)؛ فلما صار ابن ثلاثين سنة آنس من نفسه ذكاء مفرطًا، وأحب الفقه فأقبل على قراءته حتى برع فيه، وصار يضرب به المثل” في إتقانه.
مكافآت واحتفاء
كان الأهالي يدفعون رسومًا دراسية للمؤدّب مقابل تدريسه أولادهم في الكُتّاب، كما سيأتي في خبر عن الإمام الشافعيّ؛ وكانوا إذا حذق الصبيُّ وتخرّج في الكُتّاب أكرم أهلُه معلّمَه أيَّما إكرام. ومن نماذج ذلك أن الخطيب البغدادي (ت 463هـ) ذكر أن الإمام أبا حنيفة (ت 150هـ) حين حَذِق ابنه “حمّاد” وَهَبَ لمعلمه خمسمِئَة درهم.
وكان بعضُ المعلمين يتورّع عن أخذ الأجرة على تعليم القرآن، ولكنه يأخذها على ما سوى ذلك من العلوم؛ ذكر الخطيب البغدادي -في تاريخه- أن محمّد بن سعيد الكوفيّ الورّاق المؤدّب -والد المحدث الشهير أبي العباس ابن عُقدة النحوي (ت 333هـ)- كان يؤدب ولداً لابن هشام الخَزّاز وهو تاجر ثري، “فلما حَذِقَ الصبي وتعلم وجّه إليه ابنُ هشام بدنانير صالحة فردها، فظن ابن هشام أن عُقدةَ استقلَّها فأضعفها له، فقال عقدة: ما رددتُّها استقلالًا ولكنّي سألني الصبيُّ أن أعلّمَهُ القرآن، فاختلط تعليم النحو بتعليم القرآن؛ فلا أستحلُّ أن آخذ منه شيئًا ولو دفع إلى الدنيا”!!
أما احتفال التخرّج الذي كان يُسمّى “الحَذاق” فكأنه بقي مختصًّا –في الغالب- بإتمام تعلم القرآن الكريم تلاوةً وحفظًا ومدارسةً، وإن أقيمت احتفالات أخرى لمناسبات تخرج في علوم غير القرآن؛ كما سنذكر. وأقدمُ ذكرٍ لاحتفال “الحَذاق” –حسبما وقفنا عليه- جاء في أثرٍ عن الصحابيّ الجليل أبي مسعود الأنصاريّ (ت 39هـ)، وأورده الإمام البيهقيّ (ت 458هـ) في ‘السنن الكُبرى‘؛ فقد روى بإسناده إلى أبي مسعود الأنصاريّ -رضي الله عنه- “أن غلامًا من الكُتّاب حَذِق فأمر أبو مسعود، فاشترى لصِبيانه بدرهمٍ جوزًا، وكره النهب” الذي يفعله الصبيان للجوز المقسّم. وبهذا الأثر يكون أقدمُ احتفال تخرُّجٍ لدينا وقع في زمن الصحابة الكرام!
وهكذا؛ فكما يوزّع الناسُ الحلوى اليوم احتفالًا بالتخرّج فإنّ أسلافنا سبقوا بتوزيع الجوز، ويبدو أن هذه كانت سنّة متوسطي الحال، أما المُوسرون منهم فقد نثروا الذهب والفضّة والجواهر؛ كما سيأتي ذكره. وكانت العادةُ أن يُنثر الجوزُ نثرًا على رؤوس المحتفلين فيلتقطونه في سعادة وحُبور، غير أن أبا مسعود -كما هو واضحٌ في الأثر السابق- كره النثر، خشية تعويد الصبيان على المزاحمة والنهب.
وقد أخذ بهذا المذهب الإمام أحمد بن حنبل (ت 241هـ)؛ إذ روى تلميذه أبو بكر المروذي (ت 275هـ) -في كتابه ‘الورع‘- قال: “دخلتُ على أبي عبد الله (= الإمام أحمد) وقد حَذِقَ ابنُه، وقد اشترى جوزًا يُريد أن يَعُدَّهُ على الصبيان يقسِمُه عليهم، وكره النثر، وقال: هذه نُهبة”. واستشهد بخبر أبي مسعود السابق ذكرُه وقوّاه. وقد تحرّفت كنيته في النسخة المطبوعة –التي رجعنا لها- من كتاب ‘الورع‘ إلى “ابن مسعود”.
وفي عهد الصحابة أيضا؛ ربما سبقت نثرَ الجوز أو توزيعه وليمةٌ بهذه المناسبة، فقد ذكر ابن طولون -في كتابه السابق ذكره- أن الحسن البصريّ (ت 110هـ) قال: “كانوا إذا حذق الغلام -قبل اليوم- نحروا جزورًا (= جمل أو ناقة) واتخذوا طعامًا”. بل إنهم ذكروا أن ذلك كان سُنّة مستحبّة عند السلف؛ فابن طولون يروي أيضًا عن حماد بن سلمة البصري (ت 167هـ) عن حُمَيْدٍ الطويل (ت 142هـ) أنه قال: “كانوا يستحبون إذا جمع الصبي القرآن أن يذبح الرجل الشاة ويدعو أصحابه”.
حفل استثنائي
وإذا كان متوسطو الحال -أمثال الإمام أحمد- يوزعون الجوز قسمةً أو نثرًا؛ فإن أغنياء القوم وذوي الأموال والسلطة فيهم كانوا ينثرون الدُّرَّ والجوهر. فقد نقل لنا ابن عساكر -في ‘تاريخ دمشق‘- صورةً أسطورية عن “حَذاق” الأمير العباسي المعتزّ (ت 255هـ) ابن الخليفة المتوكّل (ت 247هـ) المعاصر للإمام أحمد. وكان المعتزُّ محبوبًا أثيرًا لدى والده، فأقام له حفلًا لا مثيل له في بذخه.
وذكر ابن عساكر أنه كان من مراسم الاحتفال أن يُلقِي الحاذق/ الخرّيج –وهو هنا الأمير المعتزّ- خُطبةً في المحتشدين للاحتفال، يراد بها أن تكون بُرهانًا على علمه وإعلانًا لتأهّله. وقد أجزل المتوكّل المكافأة لمؤدِّب ابنه الأمير: الشيخ محمد بن عمران؛ فأمر أن تُدفع إليه صينية فيها جوهرٌ تكون قيمته خمسة آلاف دينار ذهبًا (أي نحو 830 ألف دولار أميركي الآن).
وقرر المتوكّل أن يجعل “تحذيق” ابنه في قصرٍ مشهور من قصوره اسمه ‘بركوارا‘ (= الهناء) في مدينة سامراء، و”أخرج -من خزانة الجوهر- جوهراً بقيمة مئة ألف دينار (أي نحو 16.6 مليون دولار أميركي الآن) في عشر صواني فضة، للنِّثار على مَنْ يقرب من القوّاد، وأوعز إلى الناس من الأكابر.. بحضور ‘بركوارا‘ في يوم سُمّي لهم: ليشهدوا خُطبة الأمير المعتزّ”.
واحتشد الناسُ في ساحة الاحتفال وتوافدوا، فضربوا مضاربهم ثلاثة أيام قبل يوم تنظيمه، وأضيئت قاعة الاحتفال بالشموع الضخمة، وقيل: “إن الشمع كله كان عنبرًا إلّا الشمعة التي في الصحن فإنه كان وزنها ألف مَنٍّ (‘المَنُّ‘ كيلٌ قديم يساوي 40 غراما تقريبا)، فكادت تحرقُ القصر، ووَجَدَ من حرِّها من كان في الجانب الغربي من دجلة”!!
وحين انتظم الحفل “خرج المعتزّ من باب في جنبة الإيوان (= قاعة الاحتفال) حتى صعد المنبر، فسلّم على أمير المؤمنين وعلى من حضر ثم خطب، فلما فرغ من خطبته دُفعت الصينية إلى [شيخه] محمّد بن عمران، ونثر شفيعٌ [= خادم المتوكل الخاصّ] صواني الجوهر على مَن في الإيوان، ونثر الخدم الذين كانوا في الرواق والصحن ما كان معهم من العَين (= دنانير الذهب) والوَرِق (= دراهم الفضة)، وأقام المتوكل ببركوارا أيّامًا”، وقيل: “إنّه لم يُرَ يومٌ مثله سرورا وحُسنا وكثرة نفقة”.
ولقائلٍ أنْ يقول إنّ هذا البذخ مبالغٌ فيه، وإنّ هذا الاحتفال فيه تبذيرٌ كبير، وهو كذلك فعلا؛ لكنّه يبقى وثيقةً مهمّة على احتفالِ تخرّجٍ مهيب!! والمحزنُ في أمر المتوكّل أن احتفاءه المبالغ فيه بتخرج ولده المحبوب المعتزّ أثار غيرة ولده الآخر المنتصر (ت 248هـ)، فتآمر مع قادة العسكر حتى قتل أباه، وجلس مكانه على العرش!
ومن احتفالات التخرج الملكية التي رصدتها كتب التاريخ؛ الاحتفال بختم آخر الخلفاء العباسيّين بالعراق المستعصم بالله (ت 656هـ) للقرآن حفظاً. قال الإمام الذهبيّ في ‘تاريخ الإسلام‘: “قرأ القرآن على الشيخ علي ابن النيّار الشافعي (ت 656هـ)، وعُملت دعوة عظيمة وقت ختمه، وخُلِع على الشيخ وأعطِي من الذهب العَين ستة آلاف دينار” (أي نحو مليون دولار أميركي الآن).
هدايا الختم
وكان بعضهم يحتفلُ بختم القرآن الكريم بأن يُصلّي به الحاذقُ ويُزيّن المسجد بهذه المناسبة؛ فالمؤرخ المحدّث السخاويُّ (ت 902هـ) يقول -في كتابه ‘الضوء اللامع‘ عند ترجمة عبد الواحد بن الزين الطبريّ المكيّ (ت 827هـ)- إن والده اعتنى به “فحفّظه القرآن واحتفل لصلاته عند ختمه بوقيد (= إشعال مصابيح) المسجد والشموع”. وقد أصبح عادةً في الحجاز ومصر أن يؤم الطفلُ الناسَ في التراويح إذا أكمل حفظ القرآن وأتم اثنتيْ عشرة سنة من عمره، ولذلك نجد في ‘رحلة ابن جبير‘ معلومات وافرة عن إمامة الصبيان في التراويح بالحرم المكي والاحتفالات الكبيرة المصاحبة لها.
ولم يكن الاحتفال مقتصرًا على مَن يحفظ القرآن ويتعلمه؛ بل كان يمتدُّ إلى ختم كُتُب السُّنّة مثل ‘صحيح البخاريّ‘، فقد ذكر الحافظ ابن حجر (ت 852هـ) -في ‘الدرر الكامنة‘- أن جمال الدين الدروي (ت 795هـ) كان من أعيان حلب وتجارها، ومن عادته أنه “يواظب على دروس سماع ‘صحيح البخاري‘، وكان يعطي الخِلَعَ (= الجوائز من الثياب) يوم ختمه” فيوزعها على الحاضرين لمجلس الختم.
ويبدو أن هذه السُّنة الحسنة كانت دارجةً بين الموسرين من أعيان المسلمين، حتى كان بعض المحسنين من مسؤولي الدولة والمشايخ يكافئون تلامذتهم النجباء عند ختم كتب علمية معينة؛ فقد أورد السخاوي -في ‘الضوء اللامع‘- أن ابن المهاجر الزين الحلبي (ت 817هـ) مفتش الجيش المملوكي في حلب “كان يقرأ ‘صحيح البخاريّ‘ على الناس، ويعطي يوم ختمه القرّاء -الذين يحضرون عنده- من عنده”.
كما كانت تقام الولائم العظيمة لأجل ختم أحد الطلاب النجباء كتابا فقهيّا؛ فقد ذكر عفيف الدين اليافعيُّ (ت 768هـ) -في ‘مرآة الجنان‘- أنه قرأ كتاب ‘التنبيه‘ -في الفقه الشافعيّ لأبي إسحق الشيرازي (ت 476هـ)- على شيخه جمال الدين الذُّهَيبي المشهور بـ‘البصال‘ (ت 748هـ)؛ “فَأَوْلَمَ [شيخُه] عند ذلك وليمة كبيرة وذبح كبشين، وأطعم جماعة كثيرة”. وأفاد السخاوي –في ‘الضوء اللامع‘- بأن الشيخ محمد بن محمد ابن الكمال “تدرّب بالزين السنتاوي (ت 896هـ) فقيهه..، بحيث عمل له حين ختْمه عليه ‘للمنهاج‘ إجلاسا (= مجلسا) حافلا بالأزهر حضره الأكابر”.
ومع تقدم الزمن نجدُ تفاصيل جديدة لاحتفالات تقام بمناسبة ختم تدريس كُتُب علمية؛ فالمؤرخ محيي الدين العيدروس (ت 1038هـ) ترجم -في كتابه ‘النور السافر‘- للشيخ محمد بن أبي الحسن البكري الصديقي الشافعي (ت 993هـ)، وقال إنه كان يحتفلُ مع تلامذته عند ختم دروسه في التفسير والحديث والفقه وغيرهما، “وكان الشعراء -من فضلاء مصر المتمكنين في علم اللغة وقواعد الشعر ومذاهب الإنشاء- يقصدون يوم ختمه، فيكتبون القصائد البديعة في مدحه، وبيان ما مَنَّ الله به عليه من سائر النعم”.
تكريم وجوائز
وكان للأوائل والمتميزين من طلاب العلم نصيبٌ من التكريم، وقد تعددت صورُه في التاريخ الإسلاميّ. ولعلّ أقدم تكريمٍ إسلاميّ ناله طالبُ علمٍ مميز هو ما وقع لأبي هريرة (ت 59هـ) رضي الله عنه، طالبُ الحديث المجتهد بين يدي النبيّ ﷺ؛ فكرّمه لاجتهاده قولًا وفعلًا.
أما القول فإنه شهد له بالنباهة والأوليّة؛ فقد روى البخاريّ (ت 256هـ) -في صحيحه- بإسناده عن أبي هريرة أنه قال: قلتُ: يا رسول الله، من أسعدُ الناس بشفاعتِك يوم القيامة؟ فقال: “لقد ظننتُ -يا أبا هريرة– ألا يسألني عن هذا الحديث أحدٌ أولَ منك، لما رأيتُ من حرصك على الحديث! أسعدُ الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله، خالصًا من قِبَل نفسِه.
فهذا تكريمٌ قوليّ. وأما الفعليّ فقد كان مباركةً من النبيّ ﷺ له حلّت فيه حتى أصبح محدّث الصحابة؛ إذ روى البخاري أيضا -في صحيحه- عن أبي هريرة، قال: قلتُ: يا رسول الله، إني أسمع منك حديثًا كثيرًا أنساه؟ قال: “ابسط رداءك”، فبسطتُّه، قال: فغرف بيديه، ثم قال: “ضُمَّه” فضممتُه، فما نسيتُ شيئًا بعده.
ومن الصور البديعة لتكريم الطلاب في تاريخنا؛ الإعفاءُ من الرسوم الدراسية بسبب التميز العلميّ. فقد روى البيهقيّ في ‘مناقب الإمام الشافعيّ‘ (ت 204هـ) أنه “كان قليل ذات اليد”، و”لما أُسْلِمَ إلى الكُتّاب جعل يتعلم، فإذا فرغ من درسه علَّم صبيان الكُتّاب، فنظر المعلم فإذا ما يكفيه [الشافعي] من أمر الصبيان وينفعُه أكثر من أجرته، فلم يأخذ من أمِّه أجراً. فلم يزل على ذلك حتى حَذقَ (= تخرّج)”.
أما أغربُ تكريم لطالب متميز فهو ما ذكره أبو الفرج الأصبهانيّ (ت 356هـ) في أخبار الشاعر المشهور أبي نواس (ت 198هـ)، قال: “كان أبو نواس قد نشأ بالبصرة وقرأ القرآن على يعقوب الحضرمي، فلما حَذِقَ القراءةَ رمى إليه يعقوبُ بخاتمه، وقال: اذهب فأنت أقرأُ أهل البصرة”!! فهذا تكريمٌ بإهداء الأستاذ خاتمه الشخصيّ لتلميذه تقديرا لنجابته.
ومن تكريم الأوائل والمتميزين أنهم كانوا يرصدون جوائز للطلاب الذين يحفظون ديوان شعر أو كتابًا معينًّا؛ فقد روى الحافظ المزي –في كتابه ‘تهذيب الكمال‘- قول الحافظ أبي تُمَيْلة المروزي (ت بعد 190هـ): “كان أبي والمبارك -يعني أبا عبد الله بن المبارك (ت 181هـ)- تاجريْن، وكانا قد جعلا.. [لـ]ـمَن حفظ مِنّا قصيدة فله درهم. قال: فكنت أتحفّظ أنا وابن المبارك القصائد”.
وأورد الذهبي -في ‘تاريخ الإسلام‘- أن القاضي أبا زرعة الثقفي (ت 302هـ) كان يسعى في نشر مذهب الشافعي، ولذلك “شرط لمن يحفظ ‘مختصر المزني‘ مئة دينار (أي نحو 16.6 ألف دولار أميركي الآن) يهبها له”. ثم صارت هذه العادة مأثرة للتقليد حتى من بعض الملوك؛ فها هو تقي الدين المقريزي (ت 845) يفيدنا -في ‘المواعظ والاعتبار‘- بأن الخليفة الفاطمي الظاهر (ت 427هـ) “أمر الدعاة [في سنة 416هـ] أن يحفّظوا الناس كتاب ‘دعائم الإسلام‘ و‘مختصر الوزير‘، وجعل لمن حفظ ذلك مالا”.
ويقول الذهبي إن السلطان المعظّم ابن العادل الأيوبي (ت 624هـ) “كان يتعصب لمذهبه [الحنفي]، وقد جَعَلَ لمن عرض… ‘الجامع الكبير‘ [للإمام محمد بن الحسن الشيباني (ت 189هـ)] مئتيْ دينار”. ويفيد ابن خلكان (ت 681هـ) -في ‘وفيات الأعيان‘- بأن المعظّم هذا “شَرَط لكل من يحفظ ‘المفصَّل‘ للزمخشري (ت 539هـ) مئة دينار وخِلعة، فحفظه لهذا السبب جماعة”! بينما ينسب إليه ابن قطلوبُغا (ت 879هـ) -في ‘تاج التراجم‘- أنه رصد “لمن يحفظ ‘الإيضاح‘ ثلاثين دينارا، سوى الخِلَع”.
شهادة علمية
بدأ أصلُ الإجازة طريقةً من طُرق تحمُّل الحديث الذي كانت تجري روايته عبر عمليتين: إحداهما هي “تحمُّل الحديث” ويعني الحصول عليه، والأخرى هي “أداء الحديث” أي نقله إلى الآخرين. وأشهرُ طريقةٍ لتحمّل الحديث كانت “السماع”، أي يسمعُ الطالبُ من الشيخ فيحفظ من فمه مباشرةً، ويكتُب إذا تيسرت له الكتابة. ومن طُرُق تحمل الحديث “العَرْضُ” وهو معكوس السماع، حيثُ يقرأ الطالب من كتاب شيخه والشيخ يسمعُ ويُقرُّ أو يصحّح.
ومع مرور الزمن وتطور علم الحديث، ونشْأة الكتب والمصنفات الحديثية؛ بدأ المشايخُ يناولون النابهين من تلامذتهم الكتب ويأذنون لهم بروايتها، فتُسمّى هذه “المناولة”، ويُسمّى الإذن بالرواية “الإجازة”؛ أي أن الشيخ ناوله الكتاب وأجاز له أن يروي ما فيه. ثم صار الطالبُ يحصل على كتاب شيخه فيدارسه في شيء منه، ويطلب منه الإذن في روايته فيأذن له أو يجيزُه، فتُسمّى هذه “إجازة” من الشيخ.
وهذه الإجازة تنفعُ من تحصّل على الحديث ولم يسمعه من الشيخ، أما إذا سمعه منه فلا حاجة له بها. قال الخطيبُ البغداديّ في كتابه ‘الكفاية في علم الرواية‘: “فهو (= طالبُ الحديث) إذا سمعه لم يحتج إلى أن يأذن له [الشيخ] في أن يرويه عنه، ألا ترى أن رجلا لو سمع من رجل حديثًا ثم قال له المحدث: لا أجيز لك أن ترويه عني، كان ذلك لغوًا وللسامع أن يرويه، [سواء] أجازه المحدث له أو لم يجزه”. فهُنا العِبرة عندهم بالعلم لا بالشهادة (الإجازة/ الإذن).
ثم صار كثيرٌ من المشايخ يكتبون الإجازة لتلامذتهم ويوقعونها بخطّهم، فتحولت “الإجازة” من مجرّد الإذن بالرواية إلى شيء يُشبه “الشهادة” العلمية في زماننا. ثم توسّع استعمال الإجازة؛ فصار المشايخُ يجيزون طلبتهم بالإقراء أو الإفتاء أو القضاء، ثم توسع أكثر فأكثر حتى صار يشملُ العلوم العربية الأخرى كالنحو وغيره، ثم انتقل إلى العلوم الطبيعية فاستُحدثت إجازات (شهادات) في الطبّ وغيره.
وقد كان من نباهة مؤسسي “جامعة الأزهر” المصرية -بصورتها الحديثة- أن عرّبوا أسماء الشهادات الجامعية؛ فسمّوا شهادة البكالوريوس باسم “الإجازة العالية”، فأحيَوْا استعمال هذا المصطلح وذكّروا بوجود الشهادات العلمية في تراثنا من قديم.
نصوص شاهدة
وقد عقد الإمام القلقشندي (ت 821هـ) فصلًا بديعًا في كتابه ‘صبح الأعشى في صناعة الإنشا‘، تحدّث فيه عن الإجازات وأنواعها؛ وصنع الدكتور عمر موسى باشا بحثًا فريدًا في الإجازات، اعتمد فيه كثيرًا على الإمام القلقشنديّ. والناظرُ في ‘صبح الأعشى‘ -ثم في بحث الدكتور باشا- يجدُ أن الإجازة تحوّلت إلى “شهادة علمية” بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. ولعلّ أهمّ ما ذكره القلقشنديّ هو نصُّ الإجازة التي حازها وهو ابن إحدى وعشرين سنة، وأعطاه إياها شيخُه الإمام سراج الدين ابن الملقّن الشافعي (ت 773هـ).
فقد جاء في هذه الإجازة: “وأذن وأجاز لفلان المسمّى فيه (= القلقشندي) أدام الله تعالى معاليه، أن يدرّس مذهب الإمام المجتهد المطلق العالم الرّبّاني أبي عبد الله محمد بن إدريس المطّلبيّ الشافعيّ، رضي الله عنه وأرضاه وجعل الجنّة متقلّبه ومثواه، وأن يقرأ ما شاء من الكتب المصنّفة فيه، وأن يفيد ذلك لطالبيه حيث حلّ وأقام، كيف ما شاء متى شاء وأين شاء، وأن يُفتي من قصد استفتاءه خطًّا ولفظاً، على مقتضى مذهبه الشريف المشار إليه: لعلمه بديانته وأمانته، ومعرفته ودرايته، وأهليّته لذلك وكفايته”. وكانت فوق ذلك شهادةً موثقةً بزمانها ومكانها وكاتبها.
ومن أطرف الإجازات/ الشهادات العلمية -من حيث سبب منحها- ما ذكره المقريزي في كتابه ‘المقفَّى‘ عند ترجمته لزين الدين الدمشقي الشافعي (ت 651هـ)، وكان قاضيًا فقيهًا عالمًا وشاعرًا يقول الشعر ارتجالًا؛ فذكر أنه طلب من الإمام العز ابن عبد السلام (ت 660هـ) إجازةً علميّة، فأنشده الشيخ:
لو كان فيهم مَن عَراه غَرامُ ** ما عنّفوني في هواه ولاموا
فارتجل زين الدين قطعة شعرية في الحال، منها:
لكنّهم جهلوا لذاذة حبّه ** وعلمتها فلذا سهرتُ وناموا
لو يعلمون كما علمت جميعه ** جنحوا إلى ذاك الجناب وهاموا
فما كان من الإمام العز ابن عبد السلام إلا أن قال: “اشهدوا عليّ أني أجزته بالفتوى والتدريس والشعر”!!
واتسعت الإجازات لتشمل جميع العلوم؛ إذ منحت مراكز علمية إسلامية “إجازات” في العلوم الطبيعية، منذ أمر الخليفة العباسي المأمون (ت 218هـ) ثم أخوه المعتصم (ت 227هـ) بإجراء اختبارات للصيادلة يمنحون على أساسها شهادات تراخيص بمزاولة عملهم، وكذلك فعل الخليفة المقتدر (ت 320هـ) مع الأطباء حين أمر “بمنْع سائر المتطببين من التصرف إلا من امتحنه.. [كبير الأطباء] سنان بن ثابت (ت 331هـ)، وكتب له رقعة بخطه بما يطلق له من الصناعة”؛ حسبما يفيدنا المؤرخ الطبي ابن أبي أصيبعة (ت 668هـ) في كتابه ‘عيون الأنباء في طبقات الأطباء‘.
وقد نشرت عدة مواقع مغربية إلكترونية صورةً لـ”إجازة” صادرة في جامعة القرويين بمدينة فاس، ولا تزال محفوظة في مديرية التاريخ العسكريّ بالرباط. وقد مُنحت هذه الشهادة للطبيب عبد الله بن صالح الكتاميّ الذي عاش في القرنين السادس والسابع الهجرييْن، وكان طبيبا وصيدلانيا بارعا في بلاط دولة الموحدين.
ومما جاء في هذه الشهادة: “فأُذِنَ له بتلقي الشهادة من العلماء المعترَف لهم بالعلم والورع وحسن التدبير، فقد شهدوا بكونه بحراً يقف الأطباء في ساحله، وعجزوا عن مجاراته في ميادين صناعة الطب والبيطرة والصيدلة، عارفا مهندسا حاذقا كيِّسا، وهو رجل صالح لا يُتّهم بجريمة ولا خيانة، يلازم الصلوات الخمس بالجماعة والأذكار وغير ذلك من أفعال البر.
ويشهد الأطباء والحجّامون بأنه مارس بميادين الطب والبيطرة والصيدلة، وأنهم يشهدون له بإجازته في ذلك إجازة تامة شاملة عامة. وذلك في العاشر من شهر رجب الخير عام 603 هجرية، بحضور الطبيب ابن البيطار (ت 646هـ) والطبيب أبي العباس النباتي (ت 637هـ) والطبيب ابن الحجاج الإشبيلي، كان الله لهم. فهذه شهادةٌ في الطبّ عمرها أكثر من ثمانية قرون، ويُلاحظُ أن الجانب السلوكيّ والأخلاقي -في شخص هذا الطبيب- كان حاضرًا ومهمًّا في الشهادة التي مُنحت له.
أزياء خاصة
وإذا كان الخريج اليوم يلبسُ ثوبًا مخصوصًا يوم حفل تخرّجه يدلُّ على تأهله؛ فإنّ هذا التقليد لم يغب عن العلماء في القديم، فكانوا يلبسون “الطيلسان” الذي كان سمتًا للعلماء يُعرفون به في مناطق واسعة من العالم الإسلامي، حتى إنّ الإمام الإسنوي الشافعي (ت 772هـ) عدّ عدولَ العالم عن الطيلسان إلى غيره من أنواع الزِّي -غير المألوفة للعلماء- مما يخرمُ مروءته؛ يقول في كتابه ‘نهاية السُّول‘: “فلوْ لبس الفقيهُ القَبَاءَ (= ثوب ضيّق).. رُدّت روايته وشهادته”.
وأما أصل اتخاذ العلماء له زيًّا به يُعرفون؛ فقد ذكر سبط ابن العجمي (ت 884هـ) -في ‘كنوز الذهب في تاريخ حلب‘- أن أول من اتخذه هو أبو يوسف القاضي (ت 182هـ) صاحب الإمام أبي حنيفة؛ قال ابن العجمي: “وهو (= أبو يوسف) أول من غيّر لباس العلماء إلى هذه الهيئة التي هي عليها الآن، وكان ملبوسُ الناس من قبل ذلك شيئًا واحدًا، لا يتميز [فيه] أحد على أحد”.
وقد جاء في بعض الأخبار أن الشيخ المدرّس كان يتولّى إلباس “الطيلسان” بيده لتلميذه إذا تخرّج بدرجة الامتياز؛ فقد ذكر الإمام الذهبي -في ‘تاريخ الإسلام‘- عند ترجمة أبي الحسن ابن الجُمَّيْزِي (ت 649) وكان مُسْنِد الديار المصرية في زمانه، أنه قال: “وألبسني في هذا التاريخ شيخنا أبو سعد (= ابن أبي عصرون المتوفى 585هـ) الطَّيْلسان وشرّفني به على الأقران. وكتب لي: لمَّا ثبت عندي عِلمُ الولد الفقيه الإمام بهاء الدين أبي الحسن بن أبي الفضائل -وفّقه اللَّه- ودينُه وعدالتُه؛ رَأَيْتُ تمييزه من بين أبناء جنسه وتشريفه بالطَّيْلَسان؛ والله يرزقه القيام بحقّه”.
فهذه شهادةٌ مكتوبة وتخرّجٌ مشفوعٌ بإلباس ثوب خاصّ بمناسبته، وما زال هذا التقليد معمولًا به في بعض الجامعات العالمية حتى الآن؛ حيث يُلبِس المشرفُ العلمي الطالبَ ثوبَ التخرج بيديه عند إعلان منحه الدرجة العلمية.
ومن الثياب التي كانت لها دلالة علمية في الأندلس قَلَنْسُوَّة يُسمّونها “القالِص” -أو “القالِس”- وتُجعل على الرأس، وكان “لا يجعل القالِصَ عندهم على رأسه إلا من حفظ ‘الموطأ‘ (= موطأ الإمام مالك بن أنس المتوفى 179هـ)، وقيل: من حفظ عشرة آلاف حديث عن النبي ﷺ، وحفظ [كتاب] ‘المدونة‘” في الفقه المالكي؛ كما ذكر المقري التلمساني (ت 1041هـ) في كتابه ‘نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب‘.
ألقاب أكاديمية
أما أهل علم السلوك من المتصوّفة فقد اختصّوا بإلباس من يجيزونه “خِرْقَة التصوّف”، وهم يُسندونها –كما قال ابن خلدون (ت 808هـ)- إلى عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو ما يبدو أن ابن خلدون لم يكن مقتنعًا به؛ إذ تعقبهم بقوله إن عليًّا رضي الله عنه “لم يختصّ -من بين الصّحابة- بتخلية ولا طريقة في لباس ولا حال.
وبغضّ النظر عن صحة أصل ذلك التقليد الصوفيّ؛ فإنه كان راسخًا عند أصحابه دلالةً على أن صاحبه حاز “سَنَداً تربويا” في طريقتهم السلوكية. وقد عُني بذكره في تراجم العلماء والأعيان -من المتصوفة- الحافظ ابن حجر في كتابه ‘إنباء الغُمْر بأبناء العُمْر‘، وكذلك ابن العماد الحنبليّ (ت 1089هـ) في كتابه ‘شذرات الذهب‘. وكان شيوخ التصوف يقرنون إلباس الخرقة بالإجازة العلمية ويجعلونهما في سياقٍ واحد.
فقد ذكر ابن العماد في ترجمة المحدّث الفقيه اللّغوي أبي الفتح العوفي الشافعي الصّوفي (ت 906هـ) أنه “قرأ على الحافظ شمس الدّين أبي الخير المقدسي الحموي صحيحيْ البخاري ومسلم… وغير ذلك. وأجازه بجميع ما تجوز له روايته، وألبسه خِرقة التصوف أيضًا”.
وذكر المحدّثُ والمؤرخُ ابنُ أيبك الصفديّ الشافعيّ (ت 764هـ) -في كتابه ‘أعيان العصر‘- أنه شخصيا لبس “خِرقة التصوّف” من يد شيخه مجد الدين الأقصُرائيّ (ت 740هـ)، محددا تاريخ ذلك؛ فقال: “ولبستُ منه خرقة التصوف في سنة ثمان وثلاثين وسبعمئة، وقال (= الأقصُرائيّ): “لبستُ الخرقة الصوفية من يد الشيخ العارف الكامل كمال الدين العجمي، وهو لبسها من يد الشيخ أبي منصور العراقلية، وهو لبسها من يد الشيخ بدر الدين العراقلية، وهو لبسها من يد الشيخ أوحد الدين الكرماني (ت 634 هـ)….
فذكر للخرقة إسنادًا طويلًا على الطريقة الحديثية، ويبلغ به عليّ بن أبي طالب عن النبيّ ﷺ! ولعلّ تشكيك ابن خلدون في جديّة أسانيد “الخرقة الصوفية” في محلّه، وهي وإن كانت تقليدًا ذا طابعٍ روحانيّ تعبّدي، فإنّها تُعدُّ سابقةً من جهة كونها مَنْحًا لـ”رُتبة تربوية” بإلباس ثوبٍ خاصّ، كما هو حاصلٌ للخريجين في عصرنا!
وكما تطلق الجامعات اليوم على خرّيجيها ألقابًا بحسب المرحلة التي ينتمونها مثل: ‘الدكتور‘ و‘البروفيسور‘ أو ‘الأستاذ‘، وغير ذلك من الألقاب؛ فإن التاريخ الإسلاميّ عرف ألقابًا أكاديمية أيضًا، فعند المحدّثين نجدُ ألقاب ‘المُسنِد‘ و‘الحافظ‘ و‘الحاكم‘. وقد عقد السيوطي (ت 911هـ) -في كتابه ‘تدريب الراوي‘- فصلًا بعنوان: “فائدةٌ في حدّ الحافظ والمحدث والمُسنِد”، وفرّق بين هذه الرتب ومعاني كل منها، ومكانة مَنْ تصدُق عليه علميا.
وعند الفقهاء نجدُ لقب ‘الإمام‘ الذي يعني غالبا -إذا أُطلِق في كُتب مذهب فقهي معيّن- الإمامَ المتبوع لأصحاب ذلك المذهب، وكذلك نجد ألقابًا علمية تحيل إلى بلوغ أصحابها مراتب علمية خاصة، مثل: ‘المجتهد‘ و‘المحقق‘ و‘حجة الإسلام‘ و‘شيخ الإسلام‘. ولم تخلُ العلوم الطبيعية أيضا من ألقابٍ ذات دلالات أكاديمية، كإطلاق لقب ‘الشيخ الرئيس‘ على الفيلسوف والطبيب ابن سينا (ت 428هـ).
وهكذا فإن يكن نظامُنا التعليمي الحاليّ بكامله شِبْهَ مستورَد من النظام الأكاديمي الغربي الحديث، وليس الشهادات ومراسم التخرج فحسب؛ فإنّ في تاريخنا العربيّ والإسلامي من السبق في هذا المجال ما يستحقُّ النظر والاحتفاء، والمزيد من البحث عنه والاهتمام به، وربط جذور ذلك بالتقاليد العلمية العالمية في وقتنا الحاضر؛ فما أشبه الإنسان بالإنسان على اختلاف الأزمنة والأمكنة، وما أقرب التقاليد من بعضها في أصل فكرتها وإن تطورت قوالبها من عصر إلى آخر، ولعلّ للجديد بالقديم اتصالًا أكبر مما نظنّ!