قبل التطرق للاقتصاد القائم على المعرفة نعلم إن الغاية من خلق الإنسان هي العبادة، وفي سبيل ذلك؛ يجب على الإنسان أن يعمر الدنيا، يقول الله تبارك وتعالى: “هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ۚ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ (61)” (هود).

والتوجيه الإسلامي في الاقتصاد يقوم على مبدأ الحرية؛ أي حرية الفرد في ممارسة أعماله. ولا يترك هذه الحرية بإطلاقها؛ ولكن يقيدها بالصالح العام، وضمان حرية الآخرين، وبالإصلاح وليس الإفساد. وتقوم المنافسة الحرة في الإسلام على القيم الإيمانية والأخلاقية، وليست كما في النظام الرأسمالي؛ منافسة قطع الرقاب.

والقراءة الحرة توسع أفق الإنسان، وتصقل معارفه، وتجعلها متجددة باستمرار، وتؤدي القراءة في فروع المعرفة المختلفة إلى زيادة الفهم والاستيعاب، كما أن المنافسة الحرة هي أساس كل تقدم؛ لأنها هي التي توقد شعلة الابتكار والنمو، كما أن الحرية هي التي تؤدي إلى وجود الاختلافات بين الشخصيات والتنوع في التفكير العقلي، وتنوع التجارب، وخلق مجتمع ميال إلى المعرفة والابتكار؛ لأن الرغبة في التمييز هي الدافعة إلى التجربة والاختراع والنمو. 

ولقد سخر الله للإنسان ما في الأرض، وأعطاه نعم كثيرة، وعلى الإنسان أن ينتفع بهذه النعم، ويعمل على المحافظة عليها. يقول الله تبارك وتعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ(الملك: 15).

والاقتصاد القائم على المعرفة ميدانه الفكر والتطبيق، وبعديه هما الاقتصاد والتكنولوجي، وتوجد ضوابط شرعية في مجال الاقتصاد القائم على المعرفة؛ ومن واجبات الإنسان سواء أكان باحثاً أو منتجاً، مستثمراً أو مسوقاً الالتزام بهذه الضوابط عبادة وطاعة وامتثالاً لهدي رسول الله . ولكي نوضح ذلك نطرح سؤالين:

 السؤال الأول: ما هو تعريف الاقتصاد المبني على المعرفة؟

 والإجابة ترتكز على محورين كما يلي:

  1. تطور العلاقة بين الاقتصاد والفن الإنتاجي (التكنولوجي):

في مجال علاقة الاقتصاد بالتكنولوجي، ووجوب الاستفادة من التقنيات المعاصرة، فإن الاقتصاد لا يهتم بالفن الإنتاجي – وهو التكنولوجي – في ذاته؛ ولكن يهتم به من حيث تأثيره في الحياة الاقتصادية.

 ويتمثل الفن الإنتاجي في تطبيق العلوم الطبيعية والرياضية المختلفة، على الأشياء. والفن الإنتاجي هو مجموعة القواعد الفنية والوسائل التطبيقية التي تحكم عملية الإنتاج سواء قوى عينية مثل الآلات والمعدات، أو القوى البشرية وهي اليد العاملة والتي تتمثل في تنظيم العمل وآلية العمل وتنظيم العمل والقواعد الفنية في تصنيع المُنتَج. ويهدف الفن الإنتاجي إلى تخطي القيود التي فرضتها الطبيعة على الإنسان، وذلك عن طريق استخدام الموارد والقوى التي أنعم الله بها على الإنسان، واكتشاف المزيد منها واختيار طرق الإنتاج. والفن الإنتاجي أحد أهم عوامل التقدم المادي؛ لأنه يحدد الإنتاجية المادية للعمل ويحدد بالتالي حجم الإنتاج، وكما يقال فإن تاريخ ارتفاع مستوى المعيشة هو نفسه التقدم المستمر في الفن الإنتاجي. ويرتكز الفن الإنتاجي أساساً على الاختراعات، ولا يكفي الاختراع العلمي، بل لابد من تطبيق الاختراع في الميدان الاقتصادي.

 وقد تغير الفن الإنتاجي تغيراً كبيراً، ولكنه أصبح أكثر سرعة مع الثورة الصناعية، ابتداءً من النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ثم مع الثورة الإلكترونية فيما بعد الحرب العالمية الثانية، ثم مع ثورة المعلومات والاتصالات منذ نهاية القرن العشرين.  وزادت زيادة كبيرة خلال الربع الأول من القرن الواحد والعشرين. ويعتبر الفن الإنتاجي هو الركيزة لهذه الثورة.ولذلك فإن التقنيات الحديثة وسيلة للاستفادة من النعم التي خلقها الله تعالى.

ما هو الاقتصاد القائم على المعرفة؟

أقدم تعاريف علم الاقتصاد أنه علم الثروة (الرفاهية المادية)، وبالمفهوم الشامل؛ يدخل فيه الوسائل المادية والوسائل غير المادية؛ لأن الإنتاج لا ينصرف إلى خلق المادة بل إلى خلق المنفعة. فإنه يعرف بأنه علم إشباع الحاجات، أي أن فكرة إشباع الحاجات حلت محل فكرة الرفاهية المادية، مما أدى إلى تحسين في التعريف الذي أعطى للاقتصاد. ثم أن الاقتصاد علم المبادلة، وعلم الندرة النسبية (علم الاختيار)، وظل تعريف علم الاقتصاد بعلم الندرة أساسي في ظل زيادة الحاجات بالنسبة للموارد.

أما اقتصاد المعرفة فهو اقتصاد قائم على خلق وتداول المعرفة، ويتميز بأن تكاليف العمالة أقل أهمية، كما أن بعض المفاهيم الاقتصادية المتعارف عليها في علم الاقتصاد مثل الندرة؛ أصبحت غير صحيحة. وفي تعريف آخر لاقتصاد المعرفة؛ أنه إنتاج السلع والخدمات بالاعتماد على الأنشطة كثيفة المعرفة التي تسهم في تسارع وتيرة التقدم التكنولوجي والعلمي وأيضاً التقادم السريع في نفس الوقت.

والاقتصاد المبني على المعرفة knowledge-Based Economic هو مرحلة تالية لإنتاج المعرفة، وهو تحول إلى اقتصاد يعتمد على القيمة المضافة الناتجة من المعرفة. ولكي تكون المجتمعات قائمة على المعرفة، فقد أصبحت الاستثمارات في قطاعات التعليم والتنمية البشرية هي ركيزة الاقتصاد، وبالتالي أساس للتنافس الدولي.  

ويؤدي الاقتصاد القائم على المعرفة إلى زيادة قدرة الاقتصاد على المنافسة. ولذلك فإن الدول التي تبنت استراتيجيات قائمة على اقتصاد المعرفة؛ قامت بتطوير قطاعات التعليم ودعم برامج التدريب؛ لخلق قيمة مضافة في الاقتصاد؛ تتمثل هذه القيمة في رأس المال البشري الذي يتمكن من خلق ابتكارات وتطوير التكنولوجي وتطوير صناعات تسهم في اقتصاديات تلك الدول، وقد حجزت دول كثيرة لنفسها مكاناً متقدماً من حيث الصادرات على مستوى العالم من خلال استراتيجية الاقتصاد القائم على المعرفة. وغالبية صادرات هذه الدول منتجات تعتمد على العقل البشري المدرب والمرتكز على المعرفة التراكمية Knowledge Intensive.

والسؤال الثاني: ما هي علاقة الاقتصاد المبني على المعرفة بـ الاقتصاد الإسلامي ؟

والإجابة: إسلامية المعرفة هي علاقة بين علوم الوحي من ناحية، وعلوم الكون والعلوم الإنسانية والاجتماعية من ناحية أخرى. وعلوم الكون ليس فيها إسلامي أو غير إسلامي؛ إلا في مجال التطبيق، وأن تكون المصلحة أكبر من المفسدة؛ بشرط ألا تكون هذه المصلحة براجمتيه؛ ولكن مصلحة معتبرة شرعاً. وأهم الضوابط الشرعية للاقتصاد المبني على المعرفة في الإسلام؛ ما يلي:

  1. الإيمان الراسخ الذي يحقق توازن السلوك بين ابتغاء الدنيا والآخرة، ومن ذلك الإيمان بأن الله تعالى أمر بالسعي في الأرض والبحث والتنقيب والمحافظة على النعم وتنمية الموارد. مع وجوب الالتزام بالقيم الأخلاقية الفاضلة في المعاملات الاقتصادية؛ لأنها من موجبات البركة والنمو. إعطاء الأهمية الأولى إلى رأس المال البشري، والتنمية في المنهج الاقتصادي الإسلامي بالإنسان وللإنسان. والاقتصاد القائم على المعرفة يدفع الشركات للنظر إلى العاملين من منظور جديد، ففي هذا الاقتصاد يكون العاملون هم الشركة، والناتج هو المعرفة، وأصبحت الشركة في ظل الاقتصاد القائم على المعرفة هي مجموعة من الأفكار بعد ما كانت مجموعة من الأصول الثابتة.
  2. وجوب أن تكون مجالات المعرفة نافعة وغير ضارة؛ فهناك فرق بين العلم النافع والعلم الضار، وألا تتعارض مع أحكام ومبادئ الشريعة الإسلامية. قال رسول الله  “الكلمة الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق الناس بها”.
  3. السعي للإصلاح في الأرض وعدم الإفساد من ركائز الاقتصاد القائم على المعرفة، يقول الله تبارك وتعالى: “وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ” (الأعراف: 85). والأمثلة كثيرة، ومنها حماية البيئة من التلوث؛ لأنها من أهم مجالات الإصلاح في الأرض. وعلاقة الإسلام بالكون والبيئة هي علاقة بمخلوق يسبح الله تعالى، وليس عملية قهر الطبيعة. 
  4. يجب في مجال الاقتصاد المبني على المعرفة؛ الالتزام بالأولويات الإسلامية في الإنفاق. ويستلزم ذلك زيادة الإنفاق على التعليم؛ باعتباره عملية مستمرة، والاستثمار في اكتساب المهارات. وتوجيه الموارد الاقتصادية نحو الصناعات المعرفية بالتوازي مع الموارد الموجهة نحو الاستثمارات التقليدية. 
  5. ومن مؤشرات توجه بلد معين إلى قطاع الصناعات المعرفية: الإنفاق على البحث والتطوير، وعدد العاملين في هذا القطاع، وزيادة إنتاج وصادرات التكنولوجيا المتقدمة – المنتجات التي تتميز بكثافة التطوير والبحوث – مثل أجهزة الحاسب الآلي، والمنتجات الصيدلانية، والأجهزة الكهربائية. وهي من مجالات الاستفادة من تكنولوجيا المعلومات والتطبيقات المعرفية في التنمية.  
  6. إن الضوابط الشرعية في مجال الاقتصاد القائم على المعرفة تركز على النعم الكثيرة التي سخرها الله للإنسان، وعلى الإنسان وهو ينتفع بهذه النعم؛ أن يبحث وينقب ويجرب، وأن يرتكز على الإيمان والعمل الصالح والتفاعل مع الغير والتحلي بالأخلاق الفاضلة.