نتناول في هذه المقالة التصورات التي تؤثر على نظرة الباحث للتراث، وتؤثر في منهجيته وطريقة تعامله العلمي والمنهجي كما تساعد الباحث في تحديد موقفه من التراث، وتتضمن هذه التصورات ما يتعلق بطبيعة النظر إلى التراث ذاته، ومدى حاكميته أو معياريته المعرفية، ومنها ما يتعلق ببشرية التراث وظرفيته التاريخية والمكانية، ومنها ما يتعلق بلغته، وخصائصه من حيث الشمول والكلية أو التخصيص والجزئية. 

نسبية التراث 

ليس للتراث صفة الإطلاق، لأنه بالأساس نتاج حركة الفكر في زمان ومكان معينين، يمكن أن يتضمن في تفاعله مع حاضرنا بعض القضايا والمشكلات، ويمكن أن يختلف، والبحث عن الأسس المعرفية التي انطلق منها ومنهاجية التعامل مع هذا الواقع ومتضمناته وقضاياه هي أولى في التناول من تعميم الأحكام التي صدرت عنه في هذا الزمان والمكان المعينين.  

فالتراث ناشئ من تفاعل المسلمين مع ظروفهم الحياتية في تطبيق أسس الدين وأحكامه، وهذه الظروف تتغير بتغير الزمن، فيكون لكل ظرف منها اعتباراته الخاصة في التفاعل مع الوحي فهمًا وتنزيلًا…وهذا يتطلب في درسه والتعامل العلمي معه، أن يعرض التراث في تقريراته الوصفية مقرونًا بظروفه وملابساته الواقعية التي نشأ فيها. وأن يكون ذلك ضمن تقييمه وتوظيفه أي على ذلك الأساس من التاريخ الذي يربط فيه بالاجتهاد التراثي في الفهم والتطبيق بالأسباب التي أفضت إليه من الظروف الحياتية التي عاش فيها المجتهدون والعلماء ومارسوا اجتهادهم في ضوء التعاليم الدينية.   

إن الارتباط الظرفي للتراث لا ينفي الاستفادة منه أو توظيفه في الحاضر، فالكثير من القضايا والمشكلات المعاصرة ترتبط ببعض عناصرها وجذورها في الماضي أو تتكرر بنفس الكيفية، وهذا أدعى إلى الاستقراء الكامل للتراث في جوانبه الفكرية واستخلاص أهم القواعد والنظريات التي أنتجت وإعادة قراءتها في ضوء الواقع المعاصر (الزمان والمكان) ومحاولة تجريد هذه القواعد لاستخدامها في حال صلاحيتها للمشكلات والقضايا الراهنة.

 1- بشرية التراث: هذا المبدأ بالمبدأ السابق، فالتراث التربوي نسبي لأنه منتوج بشري بالأساس وإن استند في هذا الإنتاج إلى مرجعية الوحي، إلا أنه في النهاية ليس وحيًا؛ بل هو فهم بشرى يمكن أن يتغير بتغير الأفهام والأزمان والأماكن..ويمكن أن يكون هناك مشتركات عبر هذه المتغيرات لأن التراث التربوي موضوعه الأساس” الظاهرة الإنسانية” والإنسان حاصل فطرة ثابتة ومكتسبات دنيوية متغيرة، تكاد تقترب مشكلاته في كل زمان ومكان، وهو ما يفيد في درس التراث لا سيما الذي يتعلق ببناء الإنسان منه، الذي استطاع إنزال قيم الوحي في الواقع وهو يحمل رصيد تجربة في هذا المجال.

إن التراث نتاج بشري، حاصل تفاعل بين الفهم الإنساني للوحي والواقع المعاش بقضايا ومشكلاته وتفاعلاته وجدليته، وهذا يعنى أن التراث هو الفهم الإنساني للإسلام وللواقع على السواء. أي أن التراث ليس له قداسة إلا بقدر اقترابه من القواعد والأحكام الدينية، وأن الحلول ومناهج العمل الفكري التراثي هو عمل بشري منزوع عنه أية قداسة، وقابل للنقد والتمحيص والتطوير، بصفة أنه فعل بشرى اجتهادي إن أول شروط قراءة التراث وأهمها، تجاوز القداسة فيه، وتخطى الحواجز التي تمنع الفكر من مطاولة مساحات قد تكون لدى البعض محرمة أو لا مفكر فيها. 

ويترتب على هذا المبدأ –أيضًا- الفعل النقدي للتراث وما يحتويه إن عملية نقد التراث ينبغي أن تكون عملية مستمرة لتحقيق فعل التراكم العلمي والإنساني، وهذا يتطلب تحديد تصور سليم لطبيعة التراث من حيث الفاعل المنتِج والقواعد والمنتج الذي ظهر في مضمون وشكل الحضارة الإسلامية، وهذا يتطلب تحرى الاستقامة العلمية في درس التراث التربوي، والتمحيص وإتمام النظر العقلي، والبحث والتمييز في جوانب هذا التراث وعناصره بين الكليات والجزيئات والأصول والفروع والأسس المعرفية والأحكام التفصيلية.   

التمييز بين الوحي والمنتوج البشري “التراث 

 يرتبط هذا المبدأ أيضًا بالمبدأين السابقين، فمن الضرورات المعرفية في درس التراث التربوي الإسلامي التمييز بين الوحي والتراث ؛حيث ينبغي عند التعامل مع التراث التربوي التمييز بين الوحي وبين الناتج الفكري للعقل المسلم الناتج عن التقائه بالمستجدات في ضوء تصوراته الفكرية المستمدة من الوحي، إلا أن نتاج هذا التفاعل يظل متمايزاً عن المؤثر الأساس “الوحي” ويمكن الحكم عليه بالقرب أو البعد عن هذا المؤثر “الوحي”؛ لاختلاف مصدرية نشأة كلًا منهما، وطبيعته، ومكانته في الاعتقاد في التصور الإسلامي، وطريقة التعامل مع كل منهما. 

إن التراث الإسلامي وإن كان لا يدرس ولا يحلل إلا في إطار الإسلام نفسه، إلا أنه في ذات الوقت يقتضى التفرقة بين الأصل السماوي الذي جاء به الوحي وما يتصل به من السنة التي صدرت عن الرسول – صلى الله عليه وسلم – باعتباره المبلغ المعصوم، وبين اجتهادات العلماء والفقهاء والمفسرين في جوانب التراث المختلفة التي يمكن أن توصف بأنها استجابات العصور والبيئات المختلفة…كذلك فإن تراث الأجيال المتأخرة، وخاصة ما يتصل منه بالحواشي والمتون على الكتب القديمة، فإنه ينظر إليه في ضوء تحديات عصره، وكل ما يتصل بالتجميعات التي قام بها المفكرون المسلمون بعد حملة التتار على بغداد وبعد الحروب الصليبية .

الوعي والشمول 

 إن درس التراث لا يصلح معه النظرة الجزئية أو الوعي المشوه للإنتاج الذي تم عبر قرون، وهو ما يدفع إلى قراءة التراث وفقًا لمنهجية علم اجتماع المعرفة، تلك المنهجية التي تدفع إلى الإحاطة الزمانية والمكانية والاجتماعية والثقافية في قراءة التراث قراءة واعية وهذا يعنى “فقه واقع هذا التراث ومحيطه وعلاقة التفاعل بين التراث وواقعه تأثيرًا وتأثرًا على النحو الذي يمكن معه استنباط منهج التراث الفاعل وإمكانات الاستفادة منه في فقه الواقع المعاش وتغييره إلى ما يتسق مع مكانة التراث وأهميته…وهذا يقتضى الإحاطة بجوانب التراث – قدر المستطاع – وتحقيق انفتاح الأمة على كل التراث المذهبي وغيره…والتخفيف من حدة الانغلاق الذي تحياه عناصر الأمة3، “واعتبار هذا الاختلاف مظهرًا من مظاهر سعة الفكر الإسلامي وعمق النظر العقلي، فهو اختلاف تنوع لاختلاف تضاد”4.    

ومن جوانب الوعي والشمول التمييز في التراث بين عناصر أربعة عناصر عند الدرس العلمي هي: الفاعل المنتِج للتراث، والمستهدف من المُنتج، وفاعلية وحركة هذا المنتج في واقعنا المعاصر، وفقه الواقع المعاصر للوصول إلى الغاية القصوى من الاستفادة من هذا التراث وما يتضمنه من نواح معرفية و قيمية وعلمية.