رسالة البحث العلمي في علوم الشريعة اليوم تتلخص في السعي من أجل المحافظة على هذه العلوم، واستمرار عطائها، لما تحمل من قيم الأصالة والحضارة، وبهذه العلوم بنت أمتنا الإنسان فبنت به حضارة عابرة للقارات، فالبحث العلمي اليوم هو استئناف لتلك المسيرة واستدعاء لتلك القيم الرائدة لتفعيلها من أجل انطلاقة جديدة.

وهو يعبر كذلك عن التواصل العلميّ والمعرفـيّ عبر هذه القرون، ويساهم في امتداد الانجازات المعرفيّة عبر الأجيال واستمرارها وتطويرها، وبفضله تخلّد المعارف المختلفة في مسيرة الإنسانيّة، وكأنّ الأجيال الغابرة من المفكّرين والعلماء شاهدون في كلّ قرْن.

إنّ البحث العلميّ واجهة هوية كلّ أمّة، وإنّ أمّة تعطي البحث العلميّ قيمته أمّة واعية متحضّرة، وإنّ أمّة لا ترعى ذلك أمّة مخذولة قابلة للاحتواء.

والبحث العلميّ في حياة المجتمعات هو الواجهة المعبّـرة عن القوّة والضعف في كيانها، وهو العصب الذي يمدّها بالحركة والتفاعل والاستمرار، وانظر في واقع أمّتنا وواقع الأمم الأخرى المتقدّمة، ترى كيف كان موقع البحث العلميّ في صناعة أفكار تبني مجدها وصناعة أفكار تهدم كياننا- في مجال الإنسانيات على الخصوص-؛ فهو ينطلق من منظومات فكريّة إلى صناعة أفكار فاعلة في حياة المجتمعات إيجابًا أو سلبًا.

ولا عجب إذا علمنا أنّ البحث العلميّ في الأمم الأخرى تحتضنه مؤسسات وتديره “لوبيات” بميزانيات تعدل ميزانيات دول من دول العالم الثالث، بينما نرى في أكثر بلادنا العربية والإسلاميّة أنّ من أرخص الميزانيّات هي ميزانية البحث العلميّ والتطوير التكنولوجي، إذا ما قورنت ببعض المؤسسات غير المنتجة للمعرفة، غير الصانعة للحضارة.

إنّ الأمم الأخرى تعدّ البحث العلميّ أداة رئيسة في معادلة الصراع؛ فهي تعدّه مقوّما استراتيجيّا من مقوّمات البناء الحضاريّ، وفي الوقت نفسه سلاحا من أسلحة الهدم والدمار الحقيقيّة، فكم من أفكار قاتلة استوردت فدمّرت البنى الروحيّة والفكريّة والسلوكيّة والماديّة لشعوب العالم الثالث.

فمتى يعي أصحاب القرار في البلاد العربيّة والإسلاميّة أبعاد هذه الأزمة، فيعيدوا للبحث العلميّ مكانته اللائقة في إعادة بناء هذه الأمّة بناء قويّا يجعلها تسير مع الأمم الأخرى سير الشركاء الأنداد لا سير الأتباع، فتكون بهذا قد وفّت وأدّت الأمانة.

حاجة الإنسان للتواصل المعرفي في البحث العلمي

الإنسان- بطبيعة ضعفه – لا يستقل بنفسه وفكره؛ فهو يعطي ويأخذ، ويستفيد ويفيد، وإنّ الباحث- أيّ باحث – هو إنسان محتاج إلى غيره، فهو يبني إنجازه الفكريّ والمعرفـيّ على بعض جهد غيره، كما أنّ الآخر يبني إنجازه الفكري والمعرفي على بعض جهده وهكذا. إنّ استفادة الإنسان من أخيه الإنسان عبر الأجيال لا تنقطع، فمهما علِم فإنّه محتاج إلى غيره.

وإنّ الاستعانة بجهود من سبق ضرورة ملحّة لا يُستغنى عنها، والباحث مهما أوتـي من أدوات العلم والثقافة والمعرفة فإنّه يحتاج – كما قلت- أن يأخذ عن غيره ما ليس عنده أو ما يؤازره ويقوّي كيانه الفكريّ والمعرفـيّ. ولا يحسب من يستغني عن النقل عن غيره أنّ ذلك فخر له، بل هو نقص في حقيقة الأمر، إذ كيف له أن يميّز قيمة بحثه لموضوع ما بما سُبق إليه، أم كيف يدرك قيمة ما زاده على غيره إذا لم يهتم بما كُتب في موضوعه؟

ولقد أظرف القول في هذا السياق الإمام الزركشي في قوله: (اعلم أنّ بعض الناس يفتخر ويقول: كتبت هذا وما طالعت شيئا من الكتب، ويظن أنه فخر، ولا يعلم أن ذلك غاية النقص؛ فإنّه لا يعلم مزية ما قاله على ما قيل، ولا مزية ما قيل على ما قاله، فبماذا يفتخر) (1).

البواعث على البحث العلمي ومقاصده

لكلّ مطلوبٍ باعثُ رغبةٍ ورهبةٍ(2)، والبحث العلميّ من جملة المطلوبات، ولا بدّ للباحث من باعث عليه؛ ففي المنهج الإسلاميّ – في الأصل- هو رغبة فيما يرجوه الباحث من الله أوّلا، بما يقدّمه من علم شريف وفكر صحيح، وقد ينال مع ذلك بعض الحظّ الذاتيّ من ثناء ومجد وغير ذلك، ثم رغبة أيضًا في أداء واجب النصح للناس بتعليمهم وهدايتهم ونفعهم، وهذه منفعة عامّة. أمّا من جهة الرهبة فهو رهبة من سـوء العاقبة من مؤاخذة الله له على ما يقدمه وينشره أو على تقصيره في ذلك، قال تعـالى: { مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }. [ق: 18].

وقال أيضا: { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِۦ عِلْمٌ ۚ إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَٰٓئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْـُٔولًا } . [الإسراء: 36]. ولذا نجد كثيرا من علماء المسلمين قديما يُعنَوْن ببيان حسن القصد عند الدرس والتصنيف، فمنهم من كان يصدّر كتابه بحديث النيّات(3) كفعل الإمام البخاريّ في كتابه الصحيح إذ استهلّه بهذا الحديث “إنما الأعمال بالنيات” تذكيرا منه بهذا القصد النبيل، وقد قال الإمام عبد الرحمن بن مهدي: (ينبغي أن يجعل هذا الحديث رأس كل باب)(4).

أمّا في المنهج الغربيّ، فباعث الرغبة تتمثّل في رجاء المنفعة الذاتية أساسا في نيل الحظّ من ثناء ومجد وجزاء ونحو ذلك من الأغراض الدنيوية، وإن كان في جوانب منه ما يحصل به المنفعة العامّة لكن تبعًا لا قصدًا في كثير مما يُبحث، أو الرغبة في مواجهة تيار قيم الفضيلة ومبادئ الوحي والفطرة السليمة – في البحوث الإنسانية – والرهبة من ذلك في الوقت نفسه.

فالفرق في هذا بين المنهجين واضح؛ فإنّهما يختلفان باختلاف المبادئ والقيم والمقاصد والتصورات والغايات، وإن اتّحدت الوسائل.


مجالات البحث العلمي

إنّ من طبيعة البحث العلميّ أن يعالج موضوعات وقضايا متنوّعة لا تنحصر، وإذا أردنا أن نحدّدها أو نصنّفها فهي ترجع إلى محورين رئيسين:

  • الأوّل: إمّا أن يعالج قضايا في مجال العلوم الإنسانيّة من فكر ونفس واجتماع وسياسة واقتصاد وفلسفة وآداب وغيرها.
  • الثاني: وإمّا أن يعالج قضايا في مجال العلوم الكونيّة التجريبية من فيزياء وكيمياء ورياضيات وطبيعة وفلك… وغير ذلك.

فالبحث العلمي لا يكاد يخرج عن واحد من هذين المحورين.

هوية البحث العلمي وخلفياته

بناء على التصنيف الذي سبق، يمكن لنا الرؤية بوضوح في خلفيات البحث العلميّ وأهدافه وتأثيراته.
إنّ ما نستطيع الجزم به أنّ مجال العلوم الإنسانيّة خطر؛ إذ إنّ التعامل فيه إنّما هو مع الأفكار والتصوّرات، بينما مجال العلوم الكونيّة التجريبيّة أمرها أيسر إذ التعامل فيها إنّما هو مع المادّة والآلة، وأن العلوم الإنسانية لا تكاد تنفصم عن الإيديولوجيا والخلفية الثقافية بخلاف العلوم الكونية والتجريبية على الأغلب الأعم، يقول ستيفن دي تانسي في كتابه “علم السياسة: الأسس”: (إنّ من سمات النظرية العلمية أن تكون خالية من القيمة، فلا يوجد علم فيزياء يساري وعلم فيزياء يميني، بل يوجد علم فيزياء جيد وعلم فيزياء غير جيد فقط) (5).

فتأثير الأوّل – أعني مجال العلوم الإنسانيّة – على الأفراد والمجتمعات إيجابًا أو سلبًا، خيْرا أو شرّا أبلغ من الثانـي، فالبحث العلميّ هو واجهة الهويّة لكلّ أمّة؛ فهو الذي يعبّر عن معتقدها وفكرها وقيمها في الحياة وغيرها بحسب اختلاف تصوّرات كلّ أمّة لهذه الأمور، فلا يجوز أن يقال إنّ تراث الغرب تراث عالميّ إنسانـيّ لا جنسية ولا هوية له كما يزعم بعض الباحثين اليوم، قد يقال هذا في العلوم الكونيّة التجريبيّة، لكن في العلوم الإنسانيّة لا يصدق عليه هذا، ولكلّ شرعته ومنهاجُه وهويّتُه في معالجة قضايا الإنسان، وإن صدقت في ميزاننا – نحن المسلمين- بعض قضاياه كما في المنهج الغربـيّ.

قال الأستاذ الدكتور طه جابر العلوانـي: (لا يستقيم منطق القول بأنّ وحدة الأصل الإنسانـيّ تستلزم وحدة معارفه وعلومه ومناهجه وقيمه، لأنّ ذلك يجعل من علوم الحضارة الغالبة علوما عالميّة، وكذلك مفاهيمها ومناهجها؛ إذ إنّ وحدة الأصل الإنسانيّ لا ترتّب وحدة علومه ومعارفه؛ لأنّه لم يولد بهذه العلوم والمعارف ولكنّه يكتسبها من الوحي ومن تفاعله مع البيئة والمجتمع والزمان والمكان، ومن تراكم الخبرات وتوارثها ﴿وَٱللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنۢ بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْـًٔا وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلْأَبْصَٰرَ وَٱلْأَفْـِٔدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾، إذ إنّ السمع والبصر والفؤاد هي مداخل معرفة الإنسان، وبهذه المداخل يجب أن نعيد النظر فيما نتداوله من مفاهيم ومناهج، ونعيد تقويمها طبقا للنموذج الذي يبتغي الحضور من خلاله ويطرح للبشريّة لتقتدي أو تسير عليه)(6).

وقال الدكتور أكرم ضياء العمري: (ولا يعني ذلك أن نستسلم أمام مناهج البحث الغربيّة، فهناك أمور تحيط بها تتصل بالفكر وطابع الحضارة والمؤثرات التاريخيّة؛ فمثلا في نطاق تفسير الأحداث والنظرة إلى الإنسان والحياة نجد تبايُنًا ضخمًا بين الإسلام والفكر الغربيّ الحاضر. ولا يمكن فصل الفكر عن المنهج وقد يعترض معترض ويقول منهج البحث العلميّ منهج محايد فلماذا يزجّ المنهج في مؤثّرات فكريّة ؟

الجواب: لا نستطيع أن نفصل بين الفكر والمنهج لأنّ المنهج يستهدي بالفكر من ناحية ويقوده من ناحية أخرى، وفكر الغرب تشكّل ضمن مؤثّرات تاريخيّة وعقائديّة وجعلتهم مع التطوّر الطويل ينتقلون من الإيمان بالآلهة في عصر اليونان والرومان إلى الإيمان النصرانيّ ذي الطبيعة الكنسيّة وهيئة الإكليروس – طبقات رجال الدين حيث التنظيم الهرمي للكنيسة – إلى الإلحاد والنظرة العقليّة في القرن التاسع عشر الميلادي والتفلّت من سلطان الكنيسة التي اعتبرها الفكر الغربيّ الحديث حليفة للإقطاع والرجعيّة ومخدّرة للشعوب كما اعتبر فكرها الدينيّ مناقضًا للعلم، ومن هنا ظهرت النزعة اللادينيّة (العلمانيّة Secularism) وفي أحضانها نبت منهج البحث الغربيّ الحديث)(7).

وعليه يمكن القول إنّ للبحث العلمي هويّته الروحيّة والثقافيّة في مجال الإنسانيّات بلا شكّ؛ فهو عند المسلمين يحمل- في الأصل- قيم الأصالة، والأفكار المنبثقة عنه يفترض أن تكون صالحة باعتبار أنّها تستمدّ صلاحيتها من مصدرين: الوحي والكون أو الوجود – وأقصد هنا ما يستفيده المسلم من تجارب وخبرات الإنسانية الصحيحة الصالحة المعالجة بالوحي-. وهو عند الغرب اللاّدينيّ يحمل قيم الفعاليّة بغضّ النظر عن صلاحها أو فسادها، بل إنّ كثيرا من دوائر الغرب تكرّس فكرة إقصاء القيم الفطريّة السويّة والفضيلة.

وقد عبّر عن هذا أحد علماء التربية الأمريكيين آلان بلوم Allan Bloom قائلا:


This folly means that men are not permitted to seek for the natural human good and admire it when found, for such discovery is coeval with the discovery of the bad and contempt for it. Instinct and intellect must be suppressed by education. The natural soul is to be replaced with an artificial one (8)

الترجمة : (إنّ هذه الحماقة تعني أنّه لا يسمح للناس أن يبحثوا عن الفضيلة الإنسانيّة الفطريّة ثم يلتزموا بها عند اكتشافها، لأنّ هذا الاكتشاف يصاحبه اكتشاف الشرّ والرذيلة وازدرائهما، ولهذا فإنّ الفطرة والعقل يجب أن يكبتا بالتعليم والروح الحقيقيّة يجب أن تستبدل بروح مصطنعة) (9)

فإنّ نظرية دارون – مثلا- ظلّت ردحا من الزمن مع بطلانها وفسادها لكنّها كانت فعّالة لأنّها ولدت في واقع سهّل لها النموّ والنضج والانتشار ثمّ احترقت بعد أن فتكت بأفكار جماعات من الناس وعقائدهم، بل لم يسلم حتى المجتمع العربيّ والإسلاميّ من شظايا هذه النظريّة ولو بقلّة.


مضامين البحث العلمي أو ما يتولد عنه من أفكار

إنّ البحث العلميّ من حيث مضمونه يتنوّع أنواعًا متعدّدة بحسب الأفكار التي يعالجها، ونتائجه بحسب طبيعة هذه الأفكار، ويمكن أن نحصرها فيما يلي:

  1. إمّا أن يتولّد عنه أفكار ميّتة (10) لا جذور لها ولا مُثل ولا أصول؛ فهي أفكار سلبيّة لا تمتّ إلى الأصالة بوثاق.
  2. وإمّا أن يتولّد عنه أفكار باطلة قاتلة مميتة(11) ترتبط ببيئات ثقافية أجنبيّة، فهي بمثابة النفايات السامّة، لكنّها مع ذلك قد تتّسم بالفعاليّة حينًا من الزمن تسهم في هدم المبادئ والقيم والأشخاص والأشياء، وفعاليّتها تستمدّها للأسف من حالة التخلّف الروحيّ والفكريّ لدى أفراد المجتمع العربـيّ والإسلاميّ لا من صحّتها أو أصالتها. فخذ مثلا النظرية الشيوعيّة أو اليسارية التي لا تزال طوائف من المجتمع العربيّ تؤمن بها، بل وتمثلها أحزاب رسميّة. إنّ هذه النظريّة فقدت هويتها وقيمها في المجتمع الذي ولدت فيه؛ لأنّها تحمل في كيانها بذور فنائها، لكن لا يخفى مدى ما أحدثته من دمار في عالم الأفكار والأشخاص والأشياء، لقد جنت على الشعوب التي كانت تؤمن بها الويلات، واليوم تريد هذه الدولة أن تبني كيانها على فكرة بديلة أخرى أو مذهب آخر “الديمقراطية” لكن الواقع المفروض عليها لم يسمح لها بولادة سليمة سويّة، لأنّ أيّ فكرة كي تعيش أو تستمرّ لا بدّ لها من حضن يناسبها وبيئة تلائمها. وهكذا يمكن القول إنّ أمّة تجتمع فيها الأفكار الميّتة والمميتة معناه نصب المقابر للقيم والمعرفة بل للهويّة والشخصيّة.
  3. وإمّا أن يتولّد عنه أفكار حيّة صحيحة صالحة، وهذه قد تكون فعّالة تسهم في بناء الإنسان في جانبيه الروحيّ والماديّ أو إعادة بنائه، أو استمرار بنائه، أو تحسين بنائه، وقد لا تكون فعّالة نظرًا للواقع أو البيئة التي تولد فيها كما هو الحال في واقعنا المعاصر؛ لأنّ فعالية الفكرة كثيرًا ما تكون مرتبطة بالحضور السياسيّ والاقتصاديّ والاستقلال في القرار. قال الأستاذ مالك بن نبي متحدّثًا عن طبيعة الأفكار وفعاليتها: فكرة أصيلة لا يعني ذلك فعاليتها الدائمة، وفكرة فعالة ليست بالضرورة صحيحة… والفكرة إذ تخرج إلى النور فهي إمّا صحيحة أو باطلة، وحينما تكون صحيحة فإنّها تحتفظ بأصالتها حتى آخر الزمن لكنّها بالمقابل يمكن أن تفقد فعاليتها وهي في طريقها حتى ولو كانت صحيحة، فلفعالية الفكرة تاريخها الذي يبدأ مع لحظة “أرخميدس”(12) حينما تأتي دفعتها الأصلية لتهز العالم أو يعتقد فيها نقطة ارتكاز لقلب العالم… فمثلا فكرة الدورة الدموية هي فكرة طبيب عربي في القرن الثاني عشر الميلادي هو “ابن النفيس” لكنّها لم تبدأ طريقها العلميّ إلا مع الطبيب الإنكليزي “هارفـي”(13) بعد أربعة قرون، فالزمن الذي وجدت فيه هو الذي ألجأها إلى الاغتراب لتجد فرصها الفضلى للتطبيق فيما بعد، لكنها في النهاية قد ظلت أربعة قرون صحيحة وصادقة دون أن تكون فعالة، وهذا شأن كثير من الأفكار العلمية التي تصادف حين مجيئها إلى الدنيا لحظة “أرخميدس” إلا بعد زمن طويل( 14).

ولمزيد إيضاح أضرب مثالا واقعيا في تصوير هذا الواقع من خلال إبراز فعالية البحث العلميّ في بيئتين مختلفتين، ولنأخذ مثالا في مجال العلوم المادية. لو أخذنا أطروحتين لباحثين عربيين في موضوع واحد ولنقل في ميدان الزراعة، الأوّل: كان موضوع دراسته “السبل الناجعة في ريّ الأراضي الصحراوية في بلد من البلاد العربية”، قدّمه في جامعة عربية. والثاني: كان موضوع دراسته كالأوّل “السبل الناجعة في ري الأراضي الصحراوية- لكن- في صحراء كاليفورنيا”، قدّمه في جامعة أمريكية. فإنّنا نلاحظ – وهو الواقع – أنّ البحث الأوّل يولد في بيئة ميتة، لا قيمة للبحث العلميّ فيها، فلا يلقى اهتمامًا لدى “أصحاب القرار” أو الهيئات الرسمية المشرفة على البحث العلمي، فمصيره إلى الرفّ والتلف، بينما البحث الثاني فإنّه يولد في واقع يعطي البحث العلميَّ قيمته، ولا شكّ أنّ هذا يحظى بالقبول والاستغلال؛ لأنّ هذا النظام الذي ولد فيه ينطلق من ثقافة الهيمنة والقوّة، وهذه البحوث والدراسات يعدونها من وسائل الهيمنة.

وإنّنا نأسف حينما نجد كثيرًا من الباحثين العرب والمسلمين في دول الغرب – لا سيما أمريكا- يبذلون سنوات من أعمارهم، يقدّمون فيها أحسن ما عندهم من أبحاث علميّة راقية، ومن ابتكارات وإبداعات، لكنّها لا تعالج واقع بلدانهم، بل تعالج واقع البلد الذي يعيشون فيه، وعندما يُكتب لهم الرجوع إلى بلادهم – إن حصل ذلك- تبقى أبحاثهم وإبداعاتهم واختراعاتهم هناك ينتفع بها هؤلاء، مستثمرين جهودهم، وفي الغالب نجد مثل هؤلاء الباحثين المختصين يفرّون من ديارهم التي لا تعيش فيها أبحاثهم ودراساتهم، فتراهم يهجرون ديارهم إلى ديار الغرب طوعًا أو كرهًا. وما أكثر دراسات علماء هذه الأمة وأبحاثهم التي توجّه إلى بناء أمّة أخرى أجنبية أو استمرار بنائها قوية.