إن دقائق الاستنباط الفقهي تستخرج من دقائق النظم القرآني بوسيلة البلاغة والبيان. فالقرآن معجزة ومنهج حياة وتشريع. ويتسم التعبير فيه بالدقة والإحكام في التعبير عن الحكم الشرعي؛ تستخرج دقائقه بلطف عجيب ونظر المتأمل الأريب، إذ لا يمكن استنباط الحكم الشرعي إلا من فهم عمق الدلالة في النص المعجز؛ لأن هناكَ مناطقَ مشتركةً يجلسُ فيها الفقهاء، والمفسرون، والبلاغيونَ، وبينهم محبرةٌ واحدةٌ يغمسون فيها أقلامهم.
فيدهشك البيان المعجز وهو يقرر مصارف الزكاة في قوله تعالى : ( إِنَّمَا ٱلصَّدَقَـٰتُ لِلۡفُقَرَاۤءِ وَٱلۡمَسَـٰكِینِ وَٱلۡعَـٰمِلِینَ عَلَیۡهَا وَٱلۡمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمۡ وَفِی ٱلرِّقَابِ وَٱلۡغَـٰرِمِینَ وَفِی سَبِیلِ ٱللَّهِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِیلِۖ فَرِیضَةࣰ مِّنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ عَلِیمٌ حَكِیم) [سورة التوبة 60]
فإن معجز البيان يستوقف أساطين البلغاء ويشحذ عقول الفقهاء!
ما مناسبة ذكرها في سياق آيات الحديث عن المنافقين والنفاق؟!
ما دلالة القصر بإنما وتصدره النظم المحكم دون غيره من أساليب القصر في البيان!
كيف ربى البيان المحكم النفوس بإيحاء تربوي في سياق تقرير حكم شرعي فسمى الزكاة صدقات في هذا المقام؟!
ثم تنحني ناصية البيان وتدهش ربات الخدور من قلائد العقيان؛ من اقتران “اللام” في الأصناف الأربعة الأول، والعدول عنها إلى حرف الظرفية “في” بقية الأصناف؛ وما دلالة ذلك في الأحكام؟!
فإن هذه الآية تتحدث عن الأصناف الثمانية الذين تعطى لهم الزكاة، ولكن السياق خص الأصناف الأربعة الأول بـ (اللام) فقال: “للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم” ثم تحول عن (اللام) إلى حرف الجر (في) الدال على الظرفية، فقال: “وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل”.
وذلك كما يقول الزمخشري: “للإيذان بأنهم أرسخ في استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره؛ لأن (في) للوعاء، فنبه على أنهم أحقاء بأن توضع فيهم الصدقات ويجعلوا مظنة لها ومصبَّا، وذلك لما في فك الرقاب من الكتابة أو الرق أو الأسر، وفي فك الغارمين من الغرم من التخليص والإنقاذ، ولجمع الغازي الفقير أو المنقطع في الحج بين الفقر والعبادة، وكذلك ابن السبيل جامع بين الفقر والغربة عن الأهل والمال، وتكرير (في) في قوله: “وفي سبيل الله”، فيه فضل ترجيح لهذين على الرقاب والغارمين”.
ويرى ابن المنيّر: “أن الأصناف الأربعة الأوائل ملاك لما عساه يدفع إليهم، وأن ما يأخذونه ملكاً، فكان دخول اللام لائقاً بهم، وأما الأربعة الأواخر فلا يملكون ما يصرف نحوهم، بل ولا يصرف إليهم، ولكن في مصالح تتعلق بهم. فالمال الذي يصرف في الرقاب إنما يتناوله السادة المكاتبون والبائعون، فليس نصيبهم مصروفاً إلى أيديهم حتى يعبر عن ذلك (باللام) المشعرة بتملكهم لما يصرف نحوهم، وإنما هم مَحالٌّ لهذا الصرف والمصلحة المتعلقة به، وكذلك العاملون إنما يصرف نصيبهم لأرباب ديونهم تخليصاً لذممهم لالهم، وأما سبيل الله فواضح فيه ذلك، وأما ابن السبيل فكأنه كان مندرجاً في سبيل الله، وإنما أفرد بالذكر تشبيهاً على خصوصيته”.
وكلا المعنيين اللذين ذهب إليهما الزمخشري وابن المنير يتسع لهما النص القرآني فيكون التحول إلى حرف (في) قد دل على دلالتين بارزتين هما:
أولاً: الدلالة على أن الأصناف الأربعة الأخيرة أهم من الأصناف الأربعة الأُوَل، وأولى بأن توضع فيهم الصدقة والزكاة، وذلك بدلالة حرف الجر (في) الدال على الظرفية والوعاء، وكأن هذه الأصناف الأربعة هي وعاء لهذه الزكوات وظرف لها ينبغي وضعها فيه.
وثانياً: دل حرف الجر (في) على أن الأصناف الأربعة الأوَل يأخذون تلك الزكوات على سبيل التمليك بدلالة حرف الجر (اللام)، بينما الأصناف الأخيرة تصرف في مصالحهم الزكوات ولا يملكونها – كما علل ذلك ابن المنير- بدلالة حرف الوعاء والظرفية (في)، وكأن التعبير القرآني يشير إلى أن تصرف فيهم وفي شؤونهم وما هو في مصلحتهم.
وألمح دلالة ثالثة يشي بها السياق ويحتملها النص القرآني من خلال حرف الظرفية (في) وما يوحي به من الدلالة على التقصي والبحث عن الأحوج والأنسب في الأصناف الأربعة الأخيرة، لتوضع فيهم الزكاة، وذلك لاتساع دائرتها، وتفاوت أصنافها أهمية واحتياجاً، على خلاف الأُوَلِ فأصنافهم معلومة بينة.