التأويلات المعاصرة حول القوامة : تكفل الشارع عز وجل الأسرة بالرعاية من خلال معالجة قضاياها عبر خطاب إيماني وتشريعي ومقاصدي في كثير من آياته، ومنها آية القوامة {الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم} (النساء: 34). ومفهوم القوامة الوارد في الآية هو أحد المفاهيم المركزية التي صاغها الشارع الحكيم لضبط العلاقات الزوجية، ولذا حظي باهتمام علماء السلف وخصوصا المفسرين الذين فسروا القوامة ودواعيها ومحدداتها، وتابعهم العلماء المعاصرون الذين راحوا يعيدون النظر في المفهوم تحت تأثير المتغيرات الاجتماعية وردا على دعاوى احتقار الإسلام للنساء، وعلى هذا توالت الدراسات المعاصرة التي سعت إلى تأويل القوامة تأويلا عصريا وبيان مدى تأثر أطروحات الأقدمين بالسياق الثقافي والاجتماعي الذي نشأوا فيه.

في السطور التالية أتناول نماذج من اجتهادات المعاصرين لكني استبق أولا ببيان موجز حول تصورات الأقدمين للقوامة باعتبارها مقدمة ضرورية لبيان دواعي هذه الاجتهادات وما الذي تسعى لإعادة تأويله. وهل يمكنها القطع مع الرؤى التراثية أم يتطلب الأمر توفيقا بينها وبين والرؤى المحدثة.

القوامة في المنظور التراثي

 القوامة في اللغة؛ من قام بالشيء قياما فهو يقوم عليه، أي يحافظ عليه ويرعى مصالحه، جاء في المعجم الوسيط؛ القوام: قوام كل شيء عماده ونظامه وما يقيم الإنسان من القوت، وقوام الأمر ما يقوم به، وهو قوام أهل بيته يقيم شأنهم، والقوامة القيام على الأمر والمال أو ولاية الأمر.

والقيّم: السيد وسائس الأمر ومن يتولى أمر المحجور عليه، وقيّم القوم من يقوم بشأنهم ويسوس أمرهم.

وربما يجيء القيّام بمعنى المحافظة والإصلاح، كما ذكر الزبيدي في تاج العروس ومنه قوله {الرجال قوامون على النساء} وقوله { إلا ما دمت عليه قائما } أي ملازما محافظا[1].

وأما في الاصطلاح؛ فالقوامة تعني قيام الزوج على زوجته بالحماية والرعاية والصيانة والتدبير والإنفاق.

القوامة في كتب التفسير

وقد أوضح المفسرون ماهية القوامة في تفاسيرهم:

  • أورد الطبري في (جامع البيان) نقلا عن الضحاك الرجل قائم على المرأة، يأمرها بطاعة الله، فإن أبت فله أن يضربها ضربا غير مبرح، وله عليها الفضل بنفقته وسعيه، وعن السدي أنه “الرجال قوامون على النساء”، قال: يأخذون على أيديهن ويؤدبونهن[2].
  • ذكر الجصاص في (أحكام القرآن) أن قوامة الرجال على النساء تتضمن “قيامهم عليهن بالتأديب والتدبير والحفظ والصيانة لما فضل الله به الرجل على المرأة في العقل والرأي وبما ألزمه الله تعالى من الإنفاق عليها، فدلت الآية على معان: أحدها: تفضيل الرجل على المرأة في المنزلة وأنه هو الذي يقوم بتدبيرها وتأديبها، وهذا يدل على أن له إمساكها في بيته ومنعها من الخروج وأن عليها طاعته وقبول أمره ما لم تكن معصية،
  • ودلت على وجوب نفقتها عليه بقوله {وبما أنفقوا من أموالهم}[3]
  • وذكر ابن عطية في (المحرر الوجيز)، قوام “من القيام على الشيء والاستبداد بالنظر فيه وحفظه بالاجتهاد، فقيام الرجل على النساء هو على هذا الحد، وتعليل ذلك بالفضيلة والنفقة يقتضي أن للرجال عليهن استيلاء وملكا ما، قال ابن عباس: الرجال أمراء على النساء”[4].
  • وأما ابن كثير فيفسر معنى القوامة بقوله {الرجال قوامون على النساء} أي الرجل قيم على المرأة، أي هو رئيسها وكبيرها والحاكم عليها ومؤدبها إذا اعوجت، بما فضل الله بعضهم على بعض أي لأن الرجال أفضل من النساء، والرجل خير من المرأة، ولهذا كانت النبوة مختصة بالرجال”[5]
  • ولا يبعد عن ذلك قول البيضاوي “الرجال قوامون على النساء يقومون عليهن قيام الولاة على الرعية، وعلل ذلك بأمرين وهبي وكسبي فقال: {بما فضل الله بعضهم على بعض} بسبب تفضيله تعالى الرجال على النساء بكمال العقل وحسن التدبير، ومزيد القوة في الأعمال والطاعات، ولذلك خصوا بالنبوة والإمامة والولاية وإقامة الشعائر، والشهادة في مجامع القضايا، ووجوب الجهاد والجمعة ونحوها، والتعصيب وزيادة السهم في الميراث والاستبداد بالفراق. وبما أنفقوا من أموالهم في نكاحهن كالمهر والنفقة”[6].

ويفهم من كلام المفسرين أن معنى القوامة لديهم يدور حول خمسة أشياء:

  1. الرجل رئيس على المرأة وهي مرؤوس له.
  2. هو من يتولى أمرها ويرعى شئونها، هو ما يعني ضمنيا عدم قدرتها على رعاية أمرها بنفسها.
  3. هو من يتولى الإنفاق عليها.
  4. له ولاية التأديب إن ضلت الزوجة أو أخطأت.
  5. له ولاية الإلزام؛ فيلزمها بالمحافظة على الفرائض واجتناب النواهي[7].

محاولات إعادة التأويل

الكثير من الدارسين الإسلاميين يعتقد أن المعاني التي ارتبطت بمفهوم القوامة بحاجة إلى إعادة نظر لأنها لم تعد تواكب المتغيرات الاجتماعية التي شهدتها بلدان العالم الإسلامي من حيث تولي النساء الولايات العامة وتحصيلهن الدرجات العلمية وما إلى ذلك، فضلا عن كونها صارت مجالا للطعن في الإسلام ووصمه بالتحيز للرجال.

ومن ثم ظهرت محاولات لإعادة تأويل المفهوم بعضها محاولات جمعية من مثل ندوة “تعميق وتأصيل المعرفة بمفهومي القوامة والولاية” التي تبنتها الرابطة المحمدية للعلماء بالمغرب التي صدرت عنها أوراق علمية قاربت الموضوع من زوايا مختلفة شرعية واجتماعية، والكتاب الجمعي الذي أصدرته حركة مساواة بعنوان (القوامة في التراث الإسلامي: قراءات بديلة)، إضافة إلى عشرات الدراسات والبحوث الفردية التي بحثت كيفية تأويل مفهوم القوامة تأويلا عصريا مثل دراسة (القوامة الزوجية: دراسة في المفهوم والسياق الاجتماعي المتغير) لمحمد أبحطيط وغيرها كثير.

كتاب (القوامة في التراث الإسلامي: قراءات بديلة)
كتاب (القوامة في التراث الإسلامي: قراءات بديلة)

التأويلات المعاصرة حول القوامة

وبصفة عامة انطلقت المحاولات المعاصرة في إعادة التأويل من النقاط التالية:

أولا: التطور التاريخي للمفهوم

وهو ما يعني أن المفهوم لم يكن محملا بالمدلولات والمعاني التي أشرنا إليها سابقا منذ البداية، ولكنه اكتسبها من خلال التفاسير التي تراكمت عبر قرون حيث تأثر بالبيئة الاجتماعية للمفسرين، وهو الفرض الذي تبنته أميمة أبو بكر في بحثها (التراث التفسيري لمفهوم القوامة بوصفه صياغة تأويلية) وفيه تتبعت تاريخيا تطور المفهوم في التراث التفسيري ابتداء من الطبري وحتى تفسير الشعراوي، وتوصلت أن الخطاب التفسيري المتعلق بالقوامة مر بأربع مراحل:

  •  الأولى من مفهوم وصفي محايد إلى مفهوم معياري يتعلق بالسلطة،
  • والثانية عملية الترسيخ من خلال اعتبار القوامة ركيزة للتفوق المعنوي،
  • والثالثة توسيع رقعة المفهوم من خلال ربطه بمفهوم الدرجة،
  • والرابعة ربط المفهوم بالفطرة النسائية وهو ما تجلى في التفاسير المعاصرة. 

وتستخلص الباحثة من هذا أن القوامة لا تعني علو المرتبة أو التميز الأخلاقي للرجال، وتقترح عدة إمكانيات تفسيرية منها ما يتعلق بالكسب والإنفاق الأسري ومنها ما يتعلق بمسئولية الرجال الأخلاقية تجاه الأقارب من النساء[8].

ثانيا: النظر الكلي للقوامة

ركز أحمد الخمليشي على أن مفهوم القوامة ينبغي أن يقرأ ويفسر على ضوء النصوص الأخرى التي تضبط العلاقة الزوجية فإذا كنا نقرأ قوله تعالى { واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن} ونقرأ كذلك (الرجال قوامون على النساء) فإن أمامنا أيضا (ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن) و(عاشروهن بالمعروف) وغيرها من الآيات التي ينبغي أن تقرأ مجتمعة للوصول إلى الوضعية الحقوقية للمرأة المسلمة داخل الأسرة أما عزل آية والتركيز عليها وتفسيرها تفسيرا فرديا فإنه يؤدي إلى محاذير في الفهم[9].

ثالثا: المساواة والقوامة صنوان

لاحظ أحمد العبادي أن حديث القرآن عن علاقة النساء بالرجال في سورة النساء جاء في سياق الحديث عن الأسرة وتوزيع العمل والأنصبة حيث جاءت آية القوامة تالية للآيات التي تتحدث عن الأنصبة والحقوق وحول هذا يقول: “ولحكمة إلهية قرن القرآن الكريم في آيات القوامة بين مساواة النساء للرجال وبين درجة القوامة التي للرجال على النساء، بل وقدم هذه المساواة على تلك الدرجة، عاطفًا الثانية على الأولى بواو العطف دلالة على المعية والاقتران، أي أن المساواة والقوامة صنوان مقترنان يرتبط كل منهما بالآخر وليسا نقيضين، حتى لا يتوهم واهم أن القوامة نقيض ينتقد من المساواة[10].

رابعا: القوامة والفضل

ركز بعض المفسرين المعاصرين على مسألة الفضل الواردة في آية القوامة ومنهم الشيخ الطاهر بن عاشور الذي أثار تساؤلا حول المراد بالفضل من قبيل: هل هو فضل الرجال على النساء أم فضل فريق من الرجال على فريق من الرجال، أم فضل النساء على الرجال؟ وقد انتبه ابن عاشور إلى مسألة هامة وهي أن بيت النبوة كانت تنفق عليه السيدة خديجة من مالها، وأنه كان يعلم أن الإنفاق ربما يكون من الزوج أو الزوجة، ومن ثم استخلص أن القوامة ترتكز على الفضل المرتبط بالصلاح والإحسان لا الغلبة أو الأنوثة والذكورة[11].

خامسا: القوامة بين الإطلاق والتقييد

لم يجعل الإسلام القوامة للرجل بإطلاق ولم يحرم منها المرأة بإطلاق كما يرجح عمران جمال حسن، وإنما جعل للمرأة رعاية أو قوامة في المجالات التي تبرع فيها مصداقا لقول الرسول “كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته”، ومن جانب آخر فإن قوامة الرجل مقيدة بضوابط ثلاثة هي: المهر إذ أجمع العلماء على أنه لا وطء بغير صداق دينا أو نقدا، والنفقة وهي واجبة بنص ثابت (لينفق ذو سعة من سعته)، والمعاشرة بالمعروف وقد ذهب الجمهور إلى أنها مندوبة ومستحبة بينما اختار المالكية وجوب العشرة بالمعروف ديانة، وإذا اختل ضابط من هذه الضوابط الثلاثة كان الرجل فاقد القوامة.[12]

الخلاصة

خلاصة ما سبق، هناك جهود تبذل من قبل العلماء المعاصرين لأجل إعادة تفسير مفهوم القوامة تفسيرا عصريا وحججهم الأساسية في هذا المجال أن دلالات المفهوم تطورت عبر العصور، وأن القوامة تظل مقيدة بضوابط ثابتة، وأنها لا تنتقص من مبدأ المساواة، وهذه الجهود كما نلحظ لا تدعو إلى نبذ التأويلات التراثية وإنما تدعو إلى فهمها في سياق العصور التي صدرت فيها، وتسعى بعضها من جانب آخر إلى التوفيق بينها وبين المستجدات المعاصرة.