كثير منا يمارس التخويف في كثير من مجالات الحياة، فالوالد يمارس أنواعا من التخويف على أولاده، والمدير يمارس التخويف- أحيانا- على موظفيه في المؤسسة، والأستاذ يمارس التخويف على طلابه في المدرسة أو الجامعة، غير أن أخطر أنواع التخويف هو التخويف الديني، لأنه يأخذ قدسية من قائليه، إذ يخرج باسم الله، وبطابع الحلال والحرام، فكل من يخالف الرأي فهو عاص لله ورسوله، بل ربما يدعي صاحب الرأي أن المخالف له خارج عن الملة، أو هو مبتدع على أقل تقدير…

وكلما قل مستوى الإنسان في العلم؛ كلما كان أشد تعصبا، واستعمالا للتخويف، خاصة التخويف الفقهي، المبني على الحلال والحرام، فإن كان يرى رأيا في مسألة خلافية، فهو يرى أن رأيه دين ووحي، وأن الآخر صاحب هوى.

سمعت مرة من إمام يبين للناس الرأي في إخراج زكاة الفطر قيمة، فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت عنه أنه كان يخرجها قيمة، ولم يثبت عن الصحابة أن أحدا منهم أخرجها قيمة، ثم ساق الأحاديث الواردة فيها، وعرج على رأي أبي حنيفة، ثم قال: فإن كان هناك وحي، وهناك رأي، فمن أتبع؟؟ أأتبع وحي الله ورسوله، أم أتبع رأي فلان أو فلان، مهما كان شأنه في العلم..

فتعجبت في نفسي، وقلت: مسكين ذلك الرجل، كان يمكن أن يرجح رأي الجمهور دون هذا التخويف الفقهي، فقد صور للناس أن أبا حنيفة صاحب رأي خالف الوحي، وهو يجهل أن إخراج القيمة هو رأي معاوية – رضي الله عنه- وعمل به في محضر من الصحابة، كما أنه رأي أمير المؤمنين التابعي الجليل عمر بن عبد العزيز- رحمه الله-، وهو رأي التابعي الكبير الحسن البصري، كما أنه رأي الإمام البخاري، وهو رواية عن الإمام أحمد، وهو اختيار الإمام ابن تيمية إن كانت هناك حاجة، فهل كل هؤلاء أصحاب رأي يخالفون الوحي؟؟

إنه لا بأس على الإنسان أن يرجح رأيا على آخر، وأن يبين أدلته التي يستند إليها، على أن لا يرهب الناس بالرأي المخالف، وأن يتهمه أنه خالف الوحي والدين، وأنه صاحب رأي وهوى، فضلا عن تأثير ذلك على العامة..

إن من وسائل التخويف الفقهي اختطاف حكم من آية أو حديث، دون النظر إلى تأويلها، وهي يحمل الدليل على الحقيقة أم المجاز؟  وهل هناك قرائن تصرفه عن ذلك الظاهر أم لا؟ وهل هو مطلق أم مقيد؟ وهو يأخذ حكم العموم أم الخصوص؟ وما علاقته بالأدلة الأخرى من الكتاب والسنة، وكيف نعمل أدوات الترجيح بين ما ظاهره التعارض، ثم بعد ذلك التحلي بأدب الخلاف، وعدم تحقير المخالفين وآرائهم، بل كما قال الأئمة: رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غير خطأ يحتمل الصواب..

إن الاجتهاد أول ما يقوم على جمع الأدلة في المسألة الواحدة، ثم يحاول الجمع بينها، وإلا نظر إلى النسخ، فإن لم يكن نسخ؛ أعمل الترجيح بأدواته.

ولهذا اعتنى العلماء ما يعرف بـ ( الوحدة الموضوعية) في القرآن الكريم، لأن جمع الآيات في الموضوع الواحد يعطينا صورة كاملة عن ذلك الموضوع.

كما أن من وسائل التخويف الفقهي الاستهزاء والسخرية، فيدعي البعض أن فلانا ليس صاحب علم، وأنه ليس فقيها، أو أنه مجرد مثقف عنده بعض المعلومات، أو أنه لا يمكن لمثل هذا أن يمثل الإسلام والفقهاء، وأنه مضل مبتدع، وأنه شر من اليهود والنصارى على الإسلام.

كما أن من وسائل التخويف الفقهي تخويف الناس، أنهم إن تركوا العمل بهذا الرأي الموافق للكتاب والسنة- كما في زعمهم- أن الله تعالى سيعذبهم، وأنهم يضرون بالإسلام والأمة، وأنهم يخدمون أعداء الإسلام من حيث لا يدرون.

كما أن من وسائل التخويف الفقهي هو لمز المخالفين في المجالس، وغيبتهم وادعاء أن مثل هذه الغيبة ليست محرما، لأنها تحذير من الوقوع في البدع والمنكرات، ولو كانوا صادقين، لفندوا الرأي دون قائله، فلقد كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أن إذا رأى منكرا، أن يقول:” ما بال أقوام يفعلون كذا”، فإن كان هذا الحال في المخالفة الصريحة، فما بالنا إن كان الأمر خلافيا، وكلا الرأيين مبني على الدليل والاجتهاد.

بل زاد خطر التخويف الفقهي أنه يترتب عليه إقصاء المخالفة له في المسائل الفرعية التي سوغ فيها الاختلاف، حتى اختيار بعض الوظائف يكون حسب الولاء للاتجاه الفقهي الذي يتبناه  المسؤول، مما يزيد الأمة تفرقا اختلافا.

إنه يجب علينا أن نفرق بين الاختلاف المحمود المبني على الدليل، والانتصار للرأي ما دمنا نؤمن بقوته، وبين أن نستعمل التخويف الفقهي للانتصار للنفس، ظانين أنه انتصار للحق، وماهو بذاك؟