فضل التفقه في الدين: ليس هناك ميراث أعظم من ميراث الأنبياء بالطبع، وهم قوم لا يورثون دينارا ولا درهما، وإنما ورثوا العلم النافع، العلم الذي ينير الضمائر العمياء ويشرح الصدور للحق ويضيء العقل ويسدد اللسان ويصلح العباد والبلاد. والاحتفاء بهذا الميراث ضمان النجاة والفوز بالدارين.

وقد روي عن أبي هريرة، أنه مر بسوق المدينة، فوقف عليها، فقال: «يا أهل السوق، ما أعجزكم» قالوا: وما ذاك يا أبا هريرة؟ قال: «ذاك ميراث رسول الله يقسم، وأنتم هاهنا لا تذهبون فتأخذون نصيبكم منه» قالوا: وأين هو؟ قال: «في المسجد» فخرجوا سراعا إلى المسجد، ووقف أبو هريرة لهم حتى رجعوا، فقال لهم: «ما لكم؟» قالوا: يا أبا هريرة فقد أتينا المسجد، فدخلنا، فلم نر فيه شيئا يقسم. فقال لهم أبو هريرة: «أما رأيتم في المسجد أحدا؟» قالوا: بلى، رأينا قوما يصلون، وقوما يقرءون القرآن، وقوما يتذاكرون الحلال والحرام، فقال لهم أبو هريرة: «ويحكم، فذاك ميراث محمد »[1]. إلا أن الورثة كما لا يخفى ليسوا سواء من التركة بل يتفاوتون في نصيبهم.

فضل التفقه في الدين والحث عليه

نصوص الشريعة الإسلامية طافحة بفضل التفقه في الدين والحث عليه بدءا بما هو واجب عيني أو كفائي، كما في صريح قوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} [التوبة: 122]. وقال ابن حزم في تفسير الآية:

“فبيَّن الله عز وجل في هذه الآية وجهَ التفقه كله، وأنه ينقسم قسمين: أحدهما: يخُصُّ المرءَ في نفسه؛ وذلك مُبَيَّنٌ في قوله تعالى: ﴿وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ﴾، فهذا معناه: تعليم أهل العلم لمَن جَهِلَ حُكمَ ما يلزمه.

والثاني: تفقُّهُ من أراد وجهَ الله تعالى؛ بأن يكون مُنذِرًا لقومه وطبقته، قال تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43]، ففرض على كل أحد طَلَبَ ما يلزمُه، على حسَب ما يقدر عليه من الاجتهاد لنفسه في تعرُّف ما ألزمه الله تعالى إياه”[2]. والتفقّه في المرحلتين – فرض عيني أو فرض كفائي- متحتم من حيث الجملة بلا مناص.

تفسير الخطيب البغدادي للآية {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ}

وفي تفسير آخر للآية ما ذكره الخطيب البغدادي في كتابه الفقيه والمتفقه بقوله: “فجعلهم فرقتَيْن، أوجب على إحداهما الجهاد في سبيله، وعلى الأخرى التفقه في دينه؛ لئلا ينقطع جميعُهم إلى الجهاد فتَنْدَرِسَ الشريعة، ولا يتوفروا على طلب العلم؛ فتَغلِب الكفار على الملة، فحَرَسَ بَيْضَة الإسلام بالمجاهدين، وحَفِظَ شريعةَ الإيمان بالمُتعلِّمين”[3].

ولا عذر لأحد فيما كان عليه فرضا عينيا من العلم، حتى وإن لم يقدر على التلقي والفهم فإنه يلزمه سؤال أهل العلم، وإلا يكون آثما. وهذا هو معنى من معاني قول أبى الدرداء رضي الله عنه: “كن عالماً أو متعلماً أو محباً أو متبعاً، ولا تكن الخامس فتهلك”[4].

منزلة أهل العلم

يظهر بشكل واضح في صفحات القرآن الكريم وسطور الأحاديث النبوية التنويه الإشادة بمنزلة أهل العلم وتقديمهم على سائر البشر، ومن ذلكم قوله تعالى: {هَل يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]، وقوله عليه الصلاة والسلام: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين»[5]. ولا ينشرح صدر أحد للعلم إلا أراد الله به خيراً، ومن لم يتفقه في الدين ولم يفكر في الطلب فهو على خطر، وقد كان من أوصاف المنافقين عدم الفهم والفقه {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ} [المنافقون: 7] وغيرها من الآيات، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: “خصلتان لا تجتمعان في منافق، حسن سمت، ولا فقه في الدين”[6]، فجعل الفقه في الدين منافيا للنفاق كما قال ابن القيم[7].

فوائد التفقه في الدين

المطلع على أخبار أهل الخير من هذه الأمة قديما وحديثا يجد فيها نقولا وأفعالا ترشد إلى مدى عظمة العلم في نفوسهم ومدى إجلالهم وتضحيتهم في تحصيله والتفقه في الدين، لأنه “ما عُبِدَ اللهُ بمثل الفقه”[8]. وقد جاء عن عدد من الصحابة الكرام وغيرهم مقولة شهيرة التي تقول: “لَأنْ أتفقّه ساعة، أو لَأنْ أجلس في مجلس فقه ساعة أحبّ إليَّ من كذا وكذا” نظرا لفضل التفقه في الدين وأهميته ولآثاره الطيبة على الخاصة والعامة، ومن ذلكم:

1. يورث الخشية

الخشية وليدة العلم الموروث من النبي عليه الصلاة والسلام وأساسه وثمرته، وهي الداعية إلى حسن الاعتقاد والعمل والسمت وخصال الخير، ولهذا خصص الله تعالى بها أهل العلم دون غيرهم من الخلق فقال عز من قائل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 21]. وهكذا حصر الخشية في العلماء الربانيين العاملين في مورد المدح لبيان علو مرتبتهم. وقال الحسن رحمه الله: “العالم من خشي الرحمن بالغيب، ورغب فيما رغَّب الله فيه، وزهد فيما سخط الله عنه”[9]. ثم تلا الحسن الآية السابقة.

2. يرفع صاحبه إلى المقام المحمود

وقال سهل التستري: “من أراد النظر إلى مجالس الأنبياء، فلينظر إلى مجالس العلماء، فاعرفوا لهم ذلك الفضل ومقام الأنبياء الجليل”[10]. وقال سفيان بن عيينة: “أرفع الناس منزلة عند الله من كان بين الله وبين عباده، وهم الأنبياء والعلماء”[11]. ولا ينال هذا المقام بجاه ولا بنسب ولا بعرق وإنما بالعلم والفقه في الدين؛ ولو كان صاحبه وضيعا أو خسيسا فإنه سيرفعه ويشرفه ويسعده.

وفي صحيح مسلم: أن نافع بن الحارث أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه وهو بعفسان، وكان قد أستعمله على أهل مكة فقال له: “من أستخلفت على أهل الوادي؟” فقال: “أستخلفت عليه بن أبجه”. فقال: “من ابن أبجه؟” قال: “رجل من موالينا”، فقال عمر: “أستخلفت عليهم مولى؟” فقال: “إنه قارئ لكتاب الله، عالم بالفرائض”. فقال عمر: “ألا إن نبيكم قال: «إن الله يرفع بهذا العلم أقواما ويضع به آخرين»”. وكم من أئمة سلف الأمة أصلهم موالى.

3. حضور الملائكة مجالس العلم

تعد مجالس التفقه في الدين من محطات الملائكة البررة وغايتهم المنشودة، وكلما وجدوا مجلسا يتدارس فيه العلم والفقه في الدين وذكر الله تعالى بادروا إليه ليحفوا بأهله، وتنزل عليهم السكينة وتغشاهم الرحمة، فيزداد شهود المجلس طمأنينة النفس والرّاحة والحلاوة، حتى عبر بعضهم عن ذلك بأنها جنة الدنيا. كما قال عليه الصلاة والسلام للصحابة – جوابا لقولهم: يا رسول الله، إنا إذا رأيناك رقت قلوبنا وكنا من أهل الآخرة… فقال: “لو أنكم تكونون على الحال التي أنتم عليها عندي لصافحتكم الملائكة بأكفهم، ولزارتكم في بيوتكم”[12]. وهذا من آثار مجالس أهل العلم وحلق الذكر.

4. يمنح صاحبه ملكة فقه الأولويات في الدين

العلم الصحيح هو الذي يهدي بصاحبه إلى وضع كل شيء في محله الأليق به شرعا، فلا يقدم ما حقه التأخير أو يجعل الفاضل مفضولا، بل يجعله العلم مراعيا لفقه الأولويات في العبادات والأحكام والمعاملات وغيرها، فيبدأ بالفرائض قبل النوافل والأصول قبل الفروع والمصلحة العامة قبل الخاصة. ومن صورها:

أ. الاهتمام بأعمال القلوب قبل أفعال الجوارح

لأن مدار حقيقة الأعمال كلها الباطن، وهو محل نظر الله تعالى من العباد، كما قال عليه الصلاة والسلام: «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم»[13]. وإذا صلح القلب صلح العمل وإلا فلا، ومن رزق الفقه فهو الذي يهتم بهذا الجانب أكثر.

ب. تقديم النفع المتعدي على القاصر

الحرص على تعليم الناس وإفادتهم أعظم من القيام والصيام المجرد، لأن نفع العالم ممتد إلى الآخرين ويستمر بينما فائدة الصلاة والصوم مختصة بالعابد. ولذا قال عليه الصلاة والسلام: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه»[14].

وعن نافع قال:” جاء رجل إلى ابن عمر فقال: يا أبا عبد الرحمن علمني شيئا أنال به خيرا قال: «تفقه في الدين» قال: ما أراه فهم عني فعاوده قال: إنما أسألك أن تعلمني شيئا أنال به خيرا قال ابن عمر: «ويح الآخر أليس الفقه في الدين خيرا من كثير العمل؟ إن قوما لزموا بيوتهم فصاموا وصلوا حتى يبست جلودهم على أعظمهم لم يزدادوا بذلك من الله إلا بعدا»[15]، وذلك بسبب جهلهم في الدين وعدم نفعهم الآخرين.

جـ. العناية بما لا ينقطع من العمل الصالح وإن قل

بدلا من كثرة العمل المنقطعة كما قال : «أحب الأعمال إلى الله تعالى أدومها، وإن قل»[16].

د. ترتيب الأولويات وفق الأحوال والأمكنة والأشخاص

والأفضل في وقت حضور الضيف مثلًا: القيام بحقه، والاشتغال به عن الورد المستحب، وكذلك في أداء حق الزوجة والأهل. والأفضل في أوقات السَّحر: الاشتغال بالصلاة والدعاء والذكر والاستغفار”[17]. وهذا يعكس في الواقع فضل التفقه في الدين ومكانته.

فضل التفقه في الدين
طالب العلم يتلو القرآن الكريم

5. يسبب نيل ثناء الخالق ودعاء الخلق

من أعظم ما يناله من تفقه في الدين ثناء الله تعالى عليه ودعوات أهل السماء والأرض، وهذا الذي أخبر به نبي الله عليه الصلاة والسلام قائلا: “إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير”[18]. ومعلم الخير هم حملة العلم الذين يبلغون عن الله تعالى ودينه، ولذا رفع شأنهم بالثناء وبدعوات المخلوقات لهم من السماء وبرا وبحرا بالاستغفار والرحمة.

6. يمنح صاحبه الفوز بنضارة الوجه

من ثمرات التفقه في الدين دخول في دعاء النبي عليه الصلاة والسلام لمن اعتنى بستنه رواية ودراية حيث يقول: “نضَّر الله امرأً سمع منا شيئًا فبلغه كما سمع؛ فرُبَّ مبلَّغٍ أوعى مِن سامع”[19].

وقال الحافظ المنذري: “ومعناه الدعاء له بالنضارة وهي النعمة والبهجة والحسن فيكون تقديره: جمله الله وزينه”[20]، أي بزينة الدين باطنا وظاهرا، لقيامه برواية السنة ونشرها وتبليغها إلى فقهاء الإسلام. وقال سفيان بن عيينة: “ليس من أهل الحديث أحد إلا في وجهه نضرة لهذا الحديث”[21].

7. مسلك إلى الجنان

من فضائل التفقه في الدين أن مجرد السلوك فيه والخوض يكون سببا لتسهيل المسلك إلى الجنة كما قال عليه الصلاة والسلام: “ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما، سهل الله له به طريقا إلى الجنة”[22]. وظاهر الحديث عام يشمل كل طالب العلم يسعى إلى مجالس العلم بحسن النية وسواء فهم ما يتعلم أو لا يفهم، لأن لفظ “ومن سلك طريقا…” من صيغ العموم، وهذا يدل على مكانة فضل العلم في الإسلام.

8. يجعل أهله أحياء

حياة العلماء العلمية حياة باقية خالدة وحاضرة بين الناس، حيث يبقى الله تعالى لهم الذكر الجميل بدعاء لهم وترحم عليهم إما عن طريق تراثهم العلمي أو طلابهم البررة ومن بعدهم، وليس هذا لأحد إلا لأهل العلم، وتاريخ الدنيا شاهد على هذا. “

ما الفخر إلا لأهل العلم أنهم ... على الهدى لمن استهدى أدلاء 

وقد كل أمرئ ما كان يحسنه ... والجاهلون لأهل العلم أعداء

ففز بعلم تعش حياً به أبداً ... فالناس موتى وأهل العلم أحياءُ[23]

9. يجعل أجر العمل مستمرا بعد الوفاة

من فضائل التفقه في الدين جريان أجر العلم بعد الموت ما دام الناس منتفعين بعلم الذي خلفه الإنسان، سواء كتابة أو تلقينا أو تربية ونحوها، لقول النبي : “إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له”[24].

ومن أجل هذا كان يقول الحسن: “لأن أتعلم باباً من العلم فأعلمه مسلماً أحب إلي من أن تكون لي الدنيا كلها أجعلها في سبيل الله تعالى”[25].

وبه أوصى ابن عباس رضي الله عنهما للأزدي عندما يسأله عن الجهاد فقال: “ألا أدلُّك على خيرٍ من الجهاد؟”، فقلت: بلى، قال: “تَبني مسجدًا، وتُعلِّم فيه الفرائض والسنة، والفقه في الدين“[26].

وقد استحق العلم هذه الفضائل وغيرها لأنه ركيزة الدين ودعامته، وبه يعرف حق الله تعالى وحق العباد، ويتبين الحلال من الحرام، وهو في الواقع بريد إلى رضوان الله تعالى وإلى فسيح الجنان.