أوضح الأكاديمي الجزائري الدكتور قندوز ماحي، أستاذ الشريعة وتحقيق النصوص بجامعة تلمسان الجزائر، أن الهجوم على التراث العربي والإسلامي له عدة واجهات؛ تختلف في الأسلوب والطريقة وتتحد في الهدف؛ وهو الطمس والتغييب.

وأكد في حواره مع إسلام أون لاين ضرورة إحياء التراث، وصولاً إلى قراءة هذا التراث ونقده وتمحيصه وإعمال منهج التحليل والنقد فيه.. محذِّرًا في الوقت نفسه من القراءة الحداثية العابثة بالتراث ومفاهيمه وثوابته..

فإلى تفاصيل الحوار..

 

– إذا انطلقنا من تجلية المفهوم.. ماذا يعني “التراث” لديكم؟ وما أهميته؟

كلمة تراث مأخوذة من “الإرث” وهو كل ما تركه السابق للاحق من متاع مادي أو مكسب فكري سواء كان مكتوبا كالمخطوطات والمدونات أو شواهد الحجارة والبنايات وغيرها؛ وصار بالعرف العلمي غالبا على ما كتبه العلماء من مؤلفات ومصنفات مخطوطة باليد أو حتى بالآلات القديمة، ويحفظ في الخزائن والمكتبات والزوايا؛ ويتوجه الباحثون إليه بالدراسة والبحث والتحقيق والنشر.

أما فيما يخص أهمية التراث؛ فهو ذاكرة الأمم، وميراث الآباء والأجداد، وصلة الخلف بالسلف، والرصيد المعرفي الذي يبرز مكانة العلم في أي حضارة سابقة أو لاحقة.

كما يعد مصدر افتخار واعتزاز للأجيال المعاصرة، بما تركه لهم آباؤهم وعلماؤهم، ورصد للحركة العلمية والنبوغ الفكري للمجتمعات.

ويعد التراث تأريخا عظيما لجميع مجالات المعرفة والبحث العلمي الذي به يصنع الرقي وتعلو الحضارات؛ فالحضارة الإسلامية في بغداد ومصر والأندلس وبلاد المغرب وتركيا إنما خلفت لنا كما هائلا من بنات فكر علماء المسلمين لا تزال شاهدة على نبوغهم حتى الساعة؛ كما شيدت المكتبات والخزائن وترجمت الكتب من لغات كثيرة للعربية كانت سببا في تلاقح الأفكار والمعارف وتطور العقول وتوسع مجالات المعرفة.

 

– إذا كان التراث مهمًّا لهذه الدرجة، فلمَ الهجوم عليه وبصفة متكررة؟

الهجوم على التراث العربي والإسلامي خاصة في زماننا له عدة واجهات؛ تختلف في الأسلوب والطريقة وتتحد في الهدف؛ وهو الطمس والتغييب، مثل الغرب الحاقد على أمة الإسلام الذي أحرق الخزائن وسرق الكتب والآثار، ونهب التراث الفكري والمادي بكل ما أوتي من قوة أيام الاستعمار، وحتى في زماننا مع احتلال الدول وتخريب المجتمعات؛ فنجد مكتبات الجامعات الغربية مليئة بمخطوطات العرب والمسلمين، وحتى بعض الجهات الرسمية كالكونغرس الأمريكي والفاتيكان الإيطالي وغيرها من الدوائر الرسمية.

ومثل الحركة الاستشراقية التي عملت في شقها الكبير على تشويه حقائق الإسلام، ونقض أحكامه؛ وإن كان بعض الفضل يعود لها في إخراج وطباعة الدفائن والكنوز لتفوقهم في هذا الباب؛ فمن أوائل من اعتنى بالتراث العربي والإسلامي المستشرقون الذين درسوا الثقافة العربية وتمكنوا منها وكانوا يصاحبون الحملات العسكرية في البلدان العربية، وسطوا على كم هائل من المخطوطات والأرشيف وحملوه معهم إلى بلدانهم؛ فمنه ما تم إعدامه حرقا وإتلافا وتمزيقا، ومنه ما يزال في خزائنهم ومكتباتهم.

بجانب، جهل المسلمين بالقيمة العلمية لتراث آبائهم ومكانته في البناء الحضاري فتسببوا في إتلافه والتفريط فيه؛ أو منعوه عمن يطلبه من المختصين والمهتمين، ومن ما دفن في الأرض وضاع إلى الأبد.

إضافة إلى الحرب المسعورة من طرف الحداثيين والعلمانيين؛ لأنهم يرون في التراث سببا لإعاقة انتشار أفكارهم المسمومة ومشاريعهم الهدامة التي تجعل الدين على هامش الحياة وبعيدا عن بناء الفرد والمجتمع؛ وهم يعانون عقدة نقص تجاه هذا التراث الهائل الذي تحتفظ به المكتبات ويسطع نوره على العقول، ويربط الأجيال الصاعدة بتاريخها وحضارتها وأمجادها وثوابتها وأسس دينها المتين.

 

– هل التراث له قراءة واحدة أم لدينا قراءات متعددة له؟ وماذا يعني هذا التعدد: ثراءً أو تنازعًا؟

تختلف قراءة التراث باختلاف التوجهات الفكرية والمدارس الفقهية والنظريات الحديثة، فمنهم من يجمد على القراءة الحرفية لتراث المسلمين؛ ولا يرى في مستجدات الحضارة وابتكارات الشعوب علاقة بهذا التراث؛ لأنه في نظرهم يتنافى ويهدم هذا التراث؛ وهذا الاتجاه لا يقدم خير للأمة إلا من جانب الوقوف الحرفي والتشبث الصوري بالتراث، ويصطدم مع القفزات البعيدة للتطور الذي تعرفه الحياة البشرية.

ومنهم من يلغي هذا التراث بشكل كامل أو جزئي ويرى فيه سبب تخلف المجتمعات الإسلامية؛ وأنه يجب التخلص من كتب الورق الأصفر والارتماء في أحضان الحضارة الغربية بعجرها وبجرها؛ وهؤلاء إنما انبهروا بالغرب وتأثروا به لأنهم عاشوا بين أحضانه وتثقفوا بمعارفه، واصطدموا بالواقع المتخلف الذي ترزح تحته البلدان العربية والإسلامية، فكانت ردة فعلهم قوية وقاسية تجاه الموروث الثقافي والعلمي لبلدانهم .

ومنهم من يرى ضرورة تطبيق النظريات الغربية الإبستيمولوجية والحداثية والعلمانية في فهم واستثمار  ما يصلح من هذا التراث وما لا يصلح؛ وهؤلاء في الغالب يقفون من التراث موقف المتوجس والمشكك؛ فيقتربون منه حينا ويهاجمونه حينا آخر لعدم استواء وثبات مواقفهم من قضية التراث.

والتراث يبقى تراثا؛ فقراءته تفهم زمانا ومكانا، ولا يمكن استجرار تجربة سياسية أو اجتماعية أو فكرية أو ثقافية مبنية على اجتهاد الأشخاص وفهومهم وجعلها نصا قطعيا يجب تطبيقه في كل زمان ومكان؛ فنحن ندرس هذا التراث ونمحصه ونستفيد منه، ولكن لا نقع أسرى العصور المتقدمة، ومكبلي القوة والإرادة.

والناس يختلفون بحسب الاستعداد والقابلية في فهم تراث أسلافهم؛ وهذا الاختلاف أكيد هو دليل تنوع وثراء وتواصل؛ لأن فيه الغث والسمين والنافع والضار.

 

– ما موقع التراث من محاولات النهوض واستئناف الشهود الحضاري؟ وهل يمكن الاستغناء عنه في هذا النهوض؟

مهمة النهوض بالأمة من سباتها وتخلفها مهمة شاقة ومتعبة وتحتاج إلى تضحيات جسام ووقت طويل، والشهود الحضاري نتيجة وحتمية لتوافق السنن الإلهية مع المجهودات المخلصة من أبناء الأمة وعملهم الدؤوب لاستعادة مقاليد قيادة المجتمعات وفق شرع الله وأحكامه.

والتراث جزء لا يتجزأ من مكونات النهضة والإقلاع الحضاري؛ لأنه يدل على مدى النبوغ الفكري والتقدم العلمي وإحكام زمام العلوم والمعارف، ومدى رسوخ العلوم في المجتمعات؛ بدون رصيد معرفي لا تستطيع الأمم أن تصنع مجدا ومستقبلا ولا حضارة؛ وعليه لا يمكن الاستغناء عنه بحال من الأحوال؛ ولا تزدهر المعارف وتتسع المباحث إلا بجو من الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي وهذه ركائز النهضة والتطور؛ بالإضافة إلى العامل البشري الذي يشكل حجر الزاوية في أي إقلاع حضاري منشود؛ وللأسف هذه العوامل تكاد تختفي في العالم العربي لأسباب كثيرة كالاضطرابات السياسية والعوائق الفكرية والاجتماعية وتسلط الغرب على المنظومات الحاكمة فهجرت العقول إلى بلاد الغرب حيث وجدت مرتعا لها للبحث والدراسة والتطوير والاحترام للمكانة والإنسان.

 

– كيف نعيد الفاعلية للتراث؟

يمكن إعادة الفاعلية للتراث من خلال الأمور التالية:

– حفظ الموروث الفكري والحضاري وتخزينه والاعتناء به بشتى الطرق الحديثة والمعاصرة؛ وكذلك بترميمه ورقمنته وتصويره…إلخ.

– تصنيف هذا التراث بحسب الأهمية والدور العلمي والمكانة البحثية.

– تحقيق ما يستحق التحقيق والطباعة والإخراج.

– إنشاء فرق بحثية ومخابر ومراكز دراسات لتنقية وتصفية هذا التراث والاستفادة مما يمكن الاستفادة منه- وهو كثير- في تطوير المنظومة الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية للمجتمعات المسلمة؛ وتقديم الحول الناجعة لكثير من المشكلات المعاصرة.

– ترجمة الأعمال المهمة المعرفة بالثقافة الإسلامية والتراث العربي للغات العالم حتى يستفيد منها غير العرب.

– تشجيع الباحثين والمهتمين من خلال تحفيزات مادية وامتيازات متعددة.

– إلقاء الضوء على كتب التراث من خلال القراءات النقدية الفاحصة والمتأنية؛ وكتابة بحوث جامعية وأكاديمية حولها.

– تيسير هذا التراث على الشبكة العنكبوتية حتى يتسنى للباحثين والمهتمين سرعة الوصول إلى مبتغاهم منه ودراسته والاستفادة منه.

 

– كيف ننتقل في “إحياء التراث” من مجرد نشر أمهات كتبه وتحقيقها، إلى قراءته قراءةً متجددة؟

في كل الأحوال لا بد من تركيز الجهود على تحقيق وطباعة ما يمكن أن يسهم في النهضة العلمية للمجتمعات، وما يراه المختصون مفيدا ومهما ويقدم إضافة نوعية للمعرفة الإنسانية.

ثم تأتي مرحلة ثانية وهي قراءة هذا التراث ونقده وتمحيصه وإعمال منهج التحليل والنقد؛ فما كان خاصا بوقت ومكان، ولا يمكن له أن يفيد في الحاضر والمستقبل فهذا يتبرك بالاحتفاظ به وصونه ورعايته في المكتبات والمتاحف؛ وما كان مفيدا في خدمة المجتمع ثقافيا وعلميا وفكريا لابد من استثماره وإعماله للاستفادة منه.

 

– في “القراءة المتجددة” للتراث.. كيف يمكن أن نتجنب القراءات المتجاوزة له من جهة، والمحرِّفة أو المطوِّعة له من جهة أخرى؟

القراءة المتجددة للتراث لا بد أن تبنى على أسس وقواعد علمية؛ دون إجحاف ولا تفريط، دون تقديس ولا تبخيس، ننتفع بما ينفع وندع ما يضر ولا يقنع؛ ولا أظن علماء المسلمين قد أغفلوا هذه القواعد في تعاملهم مع الثروة الهائلة من الكتب والمخطوطات التي وقعت تحت أيديهم.

وقد وضع علماء الحديث قواعد دراسة النصوص ونقل الأخبار والأحاديث وهي البدايات الأولى عند المسلمين للتعامل مع نصوص السنة، وجاء علماء الأصول فقعدوا قواعد وضوابط فهم النص القرآني والحديثي، لذلك فقراءة التراث الإسلامي والعربي لا بد أن تمر عبر القنوات الشرعية والأصيلة؛ حتى نتجنب القراءات غير الصحيحة أو المغلوطة أو المحرفة أو الجزئية أو غير العلمية لتراثنا العربي والإسلامي.

 

– ما مؤاخذاتكم على القراءات المعاصرة للتراث، ولنأخذ حسن حنفي نموذجًا؟

التراث عند حسن حنفي هو محاولة كل عصر أن يفهم أو أن يكوَّن نظريات من خلال فهمه لأصول الدين (القرآن والسنة) من خلال الواقع. وأول ما يُلاحظه قارئ كتاب حنفي (التراث والتجديد)- كما ذكر أحد الكُتاب- هو صراخ الواقع الكامن في السطور.

بل يمكن أن نقول إن حسن حنفي أسَّس ما يُسمَّى بـ “إيديولوجيا الواقع”. فقد انطلق في مشروعه من التراث بقتلِه بحثاً وفهمه، من أجل إعادة بنائه مرة أخرى من خلال علومه لأجل الواقع. والواقع هو الذي أنشأ علوم التراث ابتداء، بل هو الذي على أساسه نزل الوحي كاستجابة للواقع. أيْ أنَّ حنفي يعتقدُ بأسبقية الواقع على الفكر، مع هذا، لا يرفض حسن حنفي التفسيرات القديمة أو العلوم القديمة للدين. لا، لا يقول ذلك. بل يقول بأنَّ هذه العلوم وهذه التفسيرات كانتْ مناسبة لواقعهم هم المُختلف عن واقعنا التاريخي والزماني الآن. لهذا اجتهد في إعادة بناء العلوم القديمة ورؤيتها من خلال واقعنا الآن”.

وحسن حنفي وغيره من المنتقدين للتراث الذين يرفعون دعوى التجديد والتحديث؛ لهم منطلقات كثيرة فمنهم الحاقد ومنهم المتأثر بالغرب ومنهم من دفعه الواقع المزري للمسلمين للتحرر والانعتاق ومحاولة النقد.

والذي نراه في هذا المقام أن التراث العربي والإسلامي ليس نصا مقدسا ولا ثابتا غير قابل للنقد؛ باستثناء نصوص القرآن والسنة المحكمة؛ وهذان الأصلان لا بد من إخراجهما من مسمى التراث؛ لأنها نصوص الوحي وثوابته؛ فكل شيء عداهما يمكنه نقده ومراجعته وفق الضوابط والقواعد الشرعية، والذي ننكره هو الهدم الكامل لجهود السابقين والارتماء البغيض في أحضان الغرب الحاقد؛ وبين ذلك تبقى مساحات الحوار والنقاش العلمي والأخذ والرد والقبول والرفض دون إلغاء لطرف على حساب طرف آخر.