تشغل كتب التراجم والطبقات حيزا كبيرا في المكتبة الإسلامية التي تضم عددا لا يحصى منها تغطى عصور الإسلام منذ ظهوره حتى يومنا هذا، وهو ما يشي بأصالة هذا الفن من جهة وأنه لم يستنفد أغراضه المعرفية في عصرنا كما هو الحال مع كثير من فنون التصنيف الأخرى.
ماهية التراجم ونشأتها وتطورها
التراجم هي نوع أدبي يتناول تعريفا بحياة رجل أو أكثر تعريفا يطول أو يقصر، وقد يكون ذاتيا أو يترجم الإنسان فيه لغيره[1]، وهناك بضع مصطلحات في اللغة العربية تشير إليها وأكثرها استخداما السيرة والترجمة، وغالبا ما تكون الترجمة قصيرة تحوي مجرد معلومات عن حياة المترجم له، أما السيرة فهي عادة مفصلة تضم السياق السياق التاريخي العام لحياة صاحب السيرة وتفصيلات معمقة، وهناك أيضا مصطلح (التعريف) وهو أقل استخداما من المصطلحين الأولين وكان ظهوره بعد العصر العباسي، وأخيرا هناك (المناقب) وهي نوع من الكتابة التبجيلية وتستخدم مع الأولياء والصالحين أو الولاة الورعين مثل الخليفة عمر بن عبد العزيز.
وأول ظهور للتراجم كان وثيق الصلة بعلم الحديث، إذ احتاج المسلمون إلى تتبع سير المحدثين وتمييز من يمكن الوثوق بروايته ممن لا يوثق بروايته، وكان ثمرة ذلك ظهور (علم الرجال)، وأدى التوسع في جمع هذه السير إلى جمع مادة غزيرة متعلقة بالفقهاء والمتكلمين وغيرهم، حتى شملت فئات أخرى كالنحاة والشعراء والأطباء والقضاة وغيرهم، وعلى الرغم من تشعب الطبقات وعدم اقتصارها على فئة المحدثين إلا أنها لم تفقد الخصائص التي تربطها بعلم الحديث، فقد تطور الشكل السائد للكتابة في التراجم ولكنه كان على غرار السيرة النبوية، حيث كتبت تراجم مطولة منذ العصر العباسي.
وإذا كان جل المؤرخون متفقون على أن كتب التراجم ظهرت بعد قرنين من وفاة الرسول، نظرا للحاجة إلى معرفة حال رواة الحديث والرغبة في جمع ما يمكن جمعه عن الصحابة وعن التابعين، وهذه المادة كانت هي أساس كتب التراجم، إلا أن المستشرق بول في دائرة المعارف الإسلامية يذهب إلى أن أصل هذا النوع من التصنيف هو اهتمام العرب عموما بالأنساب حيث وجدت قبل كتاب الطبقات لابن سعد أو في زمانه، سلسلة من كتب الطبقات لم يصل إلينا معظمها، منهم كتاب واصل بن عطاء المتوفى في أوائل القرن الثاني المعنون (طبقات أهل العلم والجهل)[2]، ويعزز هذا أن كتب التراجم في القرون اللاحقة كانت تضم تراجم مسيحين ويهود وصابئة نجدها في (طبقات الأطباء) لابن أبي أصيبعة، أو لدى القفطي في كتابيه (إنباه الرواة على أنباه النحاة) أو (إخبار العلماء بأخبار الحكماء)، أو مبعثرة في كتب التراجم[3]. لكن هذا لا ينهض دليلا على انتفاء الصلة بين التراجم وعلم الحديث لأن مناهج التراجم ومادتها الأولى استقت من معين الحديث ومن أجله، وقد تكون تطورت لاحقا وانفصلت جزئيا عن الحديث، لكن هذا لا ينفي الاتصال الوثيق في البدايات على الأقل.
التراجم وأنواعها
يصنف المؤرخون العدد الكبير من كتب التراجم تصنيفات متفاوتة، إذ يذهب عبد الغني حسن في كتابه (التراجم والسير) إلى أنها تنقسم إلى:
تراجم عامة جامعة، ويقصد بها تراجم طائفة من الرجال يختلفون صناعة وطبقة وعصرا ومكانا، إلا أنهم يشتركون في صفة واحدة هي الجدارة والاستحقاق لأن يترجم لهم، وفي هذه الكتب تكون الترجمة حسب سني الوفاة أو حسب الترتيب الأبجدي، ومن أمثلته (معجم الأدباء) لياقوت الحموي.
تراجم خاصة، تخص عصرا معينا، أو سنوات محددة، أو فئة معينة من الناس وتعرف باسم “كتب الطبقات”، وتشغل الحيز الأكبر من المكتبة التراثية، ومن أمثلته (الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة) لابن حجر العسقلاني، والذي ضم تراجم النساء إلى جوار الرجال.
أما يونج فيضع كتب التراجم ضمن ثلاث فئات وهي:
-كتب التراجم المخصصة لأشخاص مميزين في مجال بعينه (الطبقات)، مثل: الفقهاء، المفسرين، النحاة، الحفاظ، الأدباء، الشعراء، الفلاسفة، ومن أمثلتها (طبقات فحول الشعراء) لابن سلام الجمحي، و(إنباه الرواة على انباه النحاة) للقفطي.
-كتب تراجم محلية لأشخاص في مدينة معينة أو بلد بعينه، ومن أمثلتها (تاريخ بغداد) للخطيب البغدادي، و(تاريخ دمشق) لابن عساكر، و(الإحاطة في تاريخ غرناطة) لابن الخطيب.
– كتب تراجم عامة تتناول البارزين في مختلف مناحي الحياة، وفيما بعد تطورت حتى صارت تراجم مئوية تتناول مختلف طبقات الناس الذين عاشوا في قرن من القرون الهجرية، ومنها كتاب ابن حجر (الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة).
وعادة تضم كتب التراجم والطبقات عددا ضخما من التراجم، فقد جمع ابن خلكان في (وفيات الأعيان) أكثر من ثمانمائة ترجمة، وابن حجر في (الدرر الكامنة) ما يربو عن خمسة آلاف ترجمة، على حين أورد ابن الأثير في (أُسد الغابة) ما يزيد عن سبعة آلاف ترجمة.
خصائص التراجم
تتسم كتب التراجم الإسلامية بسمات معينة أخذت في التبلور منذ كتاب (الطبقات الكبير) لابن سعد الذي كان أول كتاب تراجم إسلامي واسع النطاق، إذ يضم الكتاب 4250 ترجمة منها 600 للنساء، وهو أمر لافت في هذه المرحلة المبكرة، والمساحة المخصصة لكل شخص تتوازى مع أهميته، وعلى سبيل المثال فهناك نحو ثمانين صفحة لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وثمانية صفحات لمحمد بن أفلح، وفي هذا الكتاب نجد الخصائص الأساسية للكتابة في التراجم من مثل: الاهتمام بنسب كل شخص، دراسة السياق التاريخي العام الذي عاش فيه، والتعريف بمنجزه الفكري وأعماله، وبمضي الوقت صار لدينا مناهج معتمدة في الكتابة تتسم بخصائص معينة نذكر من بينها:
- التراجم بين الطول والقصر، قد تطول التراجم وقد تقصر، وهذا يرجع إلى كاتب الترجمة ومنهجه، أو إلى المُترجم له وأهميته ومدى توفر المعلومات حوله، وعلى سبيل المثال ترجم ياقوت الحموي في (معجم الأدباء) للشاعر أبي العلاء المعري في مائة وعشر صفحات، وترجم لبعض الرجال في أربعة أسطر لا غير، ويذكر عبد الغني حسن أن الترجمة ربما تطول لأسباب سياسية فهذا ابن الخطيب الأندلسي في (الإحاطة) يترجم لمحمد بن يوسف بن إسماعيل ملك غرناطة في قرابة ستين صفحة وهو في ذلك يجامل مليكه ويتقرب إليه، لكن هذا لا ينبغي أن يفهم منه أن التزلف للحكام كان هو القاعدة المتبعة أبدا لأن المؤرخ السخاوي في كتابه (الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ) يشير إلى ضرورة كون الترجمة للمترجم له (بعبارة لا تزيد عنه ولا تنقص) واشترط أن لا يغلب المؤرخ الهوى فيجامل ويطنب من يحب ويحط من قدر من لا يهوى.
- التثبت والتحقيق، حرص كُتاب التراجم على التحقق من صحة المعلومات الواردة فيها، وهو ما نجده مثلا لدى ابن خلكان في كتابه الذائع (وفيات الأعيان) حيث يقول في مفتتحه (إني بذلت الجهد في التقاطه من مظان الصحة، ولم أتساهل في نقله ممن لا يوثق به، بل تحريت فيه حسبما وصلت القدرة إليه)، ويضيف أنه نقل عن المصادر المدونة ولم يكتف بها وإنما أضاف إليها بعض المصادر الشفهية (وأخذت من أفواه الأئمة المتقنين ما لم أجده في كتاب)، وهذا التثبت عُرف به معاصره ياقوت الحموي في كتابه (معجم الأدباء) حيث حرص على توخي الدقة في إثبات سنوات وفاة المترجم لهم، وإذا تعارضت روايتين كان يقابل رواية برواية ويرجح بينهما[4].
- الإنصاف والتجرد، وهما صفتان لازمتان للمترجم لأن غيابهما يعني غلبة الهوى وافتقاد الموضوعية، ويعد ياقوت الحموي مثالا جيدا للمترجم العفيف الذي يمر مر الكرام على ضعف الناس وخواص شئونهم، وما عرف عنه قط أنه وقع على عيب لرجل وحاول إظهار؛ فإذا ما اضطر لذلك ذكره بصيغة الفعل المبني للمجهول، كما صنع في ترجمته لمعاصره الشاعر ابن عنين فقد قال عنه “ويقال أنه يُخل بالصلاة، ويصل ابنة العنقود، ورماه أبو الفتح بن الحاجب بالزندقة، والله أعلم بصحة ذلك.
- الترجمة للنساء، لم يسقط مؤلفو التراجم المرأة من حسابهم وإنما أنصفوها وترجموا لها أسوة بالرجال، وهو تقليد ظهرا مبكرا على يد ابن سعد واستمر حاضرا في القرون التالية إذ ترجم ابن حجر لمئات النساء في مصنفه، ولم يقف الأمر عند هذا الحد إذ ذهب بعضهم إلى إفراد النساء بمصنف خاص كما فعل ابن طيفور في (بلاغات النساء)، واقتفى أثره الأبيوردي الذي وضع كتابا بعنوان (تاريخ النساء)، ويذكر السخاوي أن لابن عساكر كتاب عنوانه (معجم النسوان) وهو مفقود، وهذه المصنفات تبرهن على تقدير كتاب التراجم لإسهامات النساء الأدبية والمعرفية.
- ترتيب الأعلام: إذا تصفحنا كتب التراجم والطبقات وبحثنا عن كيفية ترتيب الأعلام، وجدنا أن هناك طريقتين في ترتيب الأعلام، الأولى هي الترتيب حسب حروف المعجم، وقد جرى معظمهم على هذه الطريقة كما صنع ابن خلكان في (الوفيات) وياقوت في (معجم الأدباء)، وابن حجر في (الدرر الكامنة)، والسخاوي في (الضوء اللامع)، ومن جروا على هذه الطريقة اختلفوا أيضا فبعضهم افتتح التراجم بالمحمديين أو الأحمديين تيمنا بالأسم الشريف ثم رتب الأسماء بعد ذلك كما صنع الخطيب البغدادي في (تاريخ بغداد) والسيوطي في (بغية الوعاة)، أما الطريقة الثانية فهي ترتيب الأسماء تصاعديا حسب سنة الوفاة، بحيث يفتتح من الأقدم إلى الأحدث، وممن اتبع هذه الطريقة ابن رجب في (طبقات الحنابلة)، وابن العماد في (شذرات الذهب).
وفي الأخير يمكن القول إن كتب التراجم والطبقات تقدم مادة أساسية لا غنى عنها لدراسة الحضارة الإسلامية، ولهذا ذهب ريتشارد بولييت إلى أنها “أعظم مصدر غير مستهلك من المعلومات عن الشرق الإسلامي في العصور الوسطى”، وهو قول لا يبعد عن الحقيقة ذلك أن كتب التراجم أخذت تجتذب المؤرخين لما تقدمه من معلومات وحقائق قيمة لا نجد لها نظيرا في كتب التاريخ العام حول التاريخ السكاني والاجتماعي والاقتصادي للعالم الإسلامي، وهو ما دفع بعض الدارسين الغربيين إلى تأسيس مشروع دولي يتخذ من باريس مقرا له يستهدف إعداد قاعدة بيانات مفهرسة حول الأشخاص المعروفين في العصور الإسلامية استنادا على كتب الطبقات والتراجم، والحق أن المؤسسات البحثية في العالم الإسلامي أجدر للنهوض بمثل هذا المشروع الذي يتبين منه الوجه الإنساني والاجتماعي لمن شيدوا الحضارة الإسلامية.