ظهر المذهب الحنبلي على يد الإمام الجليل أحمد بن حنبل في بلاد العراق، في القرن الثالث الهجري، في أحضان العصر العباسي، حيث كانت النزاعات الفكرية والكلامية حديث الوقت، واتسع نطاق الفقه ونضج غرسه، وجمعت فيه المدونات المطولة، وكثرت المناظرات والمسجلات العلمية في الفقه والعقائد، وتعددت المذذاهب الفقهية. وكان الإمام أحمد المؤسس الأول لهذا المذهب وواضع أصول فقه الحنابلة التي تفرعت المدرسة عليها بعد ذلك.

ومما يشد الانتباه في انطلاق هذا المذهب أن الإمام أحمد لم يتصدر للفتيا والإجابة عن الأمور التشريعية إلا بعد بلوغه سن الأربعين، وتوفر جميع وسائل العلم والتفقه.

 وقد كان الإمام أحمد ينحو منهاج التفرغ لطلب الحديث وتحصيل العلم، قبل الاشتغال في الفتيا والتدريس، ولا شك أن هذا المنهج مما عزز مكنته العلمية. فإنه اشتهر عن الإمام أحمد، أنه من أحذ العلماء الأفذاء الذين تفوقوا في علم رواية الحديث النبوي وحفظه والإكثار من البحث عن علل الحديث ورجال الإسناد، وبعد نضوجه في هذا المجال توجه إلى الفقه والفتيا، لهذا السبب تميز فقه الحنابلة بشدة التمسك بالسنة النبوية والعمل بها، وتقديمها على الرأي والاجتهاد.

ولعل هذا المنهج ساهم في احتياطه الشديد في التفقه والفتيا، ويعتمد في اجتهاداته الفقهية على العزائم لا يهاب أحدا، يخالفه في رايه أو يوافقه، فكان يعتمد عَلَى كتاب ناطق أو خبر موافق أو قول صحابي جليل صادق ويقدم ذلك عَلَى الرأي والقياس[1].

أحمد بن حنبل الفقيه الذي غلب عليه الحديث  

هو إمام المحدثين وشيخ الإسلام في العلم والأحكام، أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال  الذهلي، الشيباني، المروزي، ثم البغدادي، أحد الأئمة الأعلام. ويلتقي ابن حنبل في نسبه مع الرسول صلى الله عليه وسلم في نزار بن معد بن عدنان. اشتهرت نسبة أحمد إلى جده “حنبل”، وأما أبوه فهو محمد، وذلك لأن جده كان أشهر من أبيه كونه واليا للأمويين على “سرخس” من أعمال خراسان، وكان مع ذلك من الدعاة إلى الخلافة العباسية. ولقد مات والد ابن حنبل وهو طفل صغير، ولا يتذكر أنه رآه ولذلك نشأ يتيما تكفله أمه وترعاه وتقوم على تربيته، واسمها صفية بنت ميمونة الشيباني.

ولد سنة أربع وستين ومائة، وطلب العلم وهو ابن خمس عشرة سنة، في العام الذي مات فيه مالك، وحماد بن زيد، وذلك سنة مائة وتسع وسبعين للهجرة النبوية.

قال الإمام أحمد: سمعت من علي بن هاشم سنة تسع وسبعين، فأتيته المجلس الآخر، وقد مات. وهي السنة التي مات فيها مالك، وأقمت بمكة سنة سبع وتسعين، وأقمت عند عبد الرزاق سنة تسع وتسعين. ورأيت ابن وهب بمكة، ولم أكتب عنه[2].

حبب إلى الإمام أحمد طلب العلم بشغف، فأخذ عن القاضي أبي يوسف صاحب أبي حنيفة، ثم ترك ذلك، وأقبل على سماع الحديث، وقد رحل في طلب العلم، وبلغ في رحلاته مكة والمدينة واليمن والكوفة والبصرة والشام[3].

لقد أكثر في سماع الحديث والرواية عن الشيوخ، وكانت عدة شيوخه الذين روى عنهم في (المسند): مائتان وثمانون ونيف. فقد روى عن هشيم بن بشير وأحسن وجود حتى صار من أعرف الناس بمرويات هشيم، وهو أكثر شيوخه الذين لازمهم (من سنة 179 وحتى 183هـ).

قال الإمام أحمد: مات هشيم ولي عشرون سنة، فخرجت أنا والأعرابي – رفيق كان لأبي عبد الله – قال:

فخرجنا مشاة، فوصلنا الكوفة -يعني: في سنة ثلاث وثمانين- فأتينا أبا معاوية، وعنده الخلق، فأعطى الأعرابي حجة بستين درهما، فخرج وتركني في بيت وحدي، فاستوحشت، وليس معي إلا جراب فيه كتبي، كنت أضعه فوق لبنة، وأضع رأسي عليه.

وكنت أذاكر وكيعا بحديث الثوري، وذكر مرة شيئا، فقال: هذا عند هشيم؟

فقلت: لا.

وكان ربما ذكر العشر أحاديث، فأحفظها، فإذا قام، قالوا لي، فأمليها عليهم[4].

وروى عن وكيع بن الجراح وعبد الرحمن بن مهدي وخلق كثيرون. وقد تبحر في علم الحديث وفاق أقرانه أمثال يحيى بن معين، وأودع الأحاديث التي رواها في كتابه المسند، وقد حوى الكتاب أكثر من ثلاثين ألف حديث وكان يقول: “جمعته وانتقيته من أكثر من سبعمائة ألف حديث.

قال ابن الجوزي: قد كان أخمد يذكر الجرح والتعديل من حفظه إذا سئل عنه كما يقرآ الفاتحة.

أما في مجال الفقه، فقد نال منزلة الاجتهاد والنهاية في الفقه والاستنباط رغم أنه اشتهر بالحديث أكثر من شهرته بغير ذلك من العلوم، فكان إماما في الفقه والفهم وكان إذا تكلم في الفقه تكلم كلام رجل قد انتقد العلوم، فتكلم عن معرفة.

وكما سبق أنه اعتنى بآراء الفقهاء في عصره وتتلمذ على القاضي أبي يوسف وروى عنه، وتفقه على الإمام الشافعي كذلك، وهذا يؤكد على أنه رحمه الله تعالى نال قصب سبق في الفقه، واستحق أن يصفه أبو القاسم الجبلي بقوله: “كان أحمد بن حنبل إذا سئل عن المسألة كأن علم الدنيا بين عينيه.

وقد ساق الذهبي في كتابه “السير” عن شهادات العلماء بفقه الإمام أحمد، ومن ذلك ما قال إبراهيم الحربي: رأيت أبا عبد الله، كأن الله جمع له علم الأولين والآخرين من كل صنف، يقول ما شاء ويمسك ما شاء.

ونقل عن رجل أنه قال: ما رأيت أحدا أعلم بفقه الحديث ومعانيه من أحمد.

وأما ابن راهويه – وهو أحد رفقائه – يقول: كنت أجالس أحمد وابن معين، ونتذاكر، فأقول: ما فقهه؟ ما تفسيره؟ فيسكتون إلا أحمد.

قال أبو بكر الخلال: كان أحمد قد كتب كتب الرأي وحفظها، ثم لم يلتفت إليها[5]. وكان يقول الشافعي شيخه يقول عنه: خرجت من بغداد وما خلفت بها أحدا أتقى ولا أروع ولا أفقه أظنه قَالَ ولا أعلم من أحمد بن حنبل.

وإن شهادة الإمام الشافعي – وهو من هو في الفقه والربط بين النص والاجتهاد – بهذا العَلَم تكفيه شرفا.

وكان من قوة اتصال الإمام أحمد بالشافعي أنه أدرك أربعين سنة من حياته ولازمه مدة طويلة، وكان الشافعي من قوة ثقته بأحمد أنه رشحه لولاية قضاء اليمن، وأشار بها عليه، روى البيهقي من طريق المزني، عن الشافعي أنه قال للرشيد: إن اليمن تحتاج إلى قاض، فقال له: اختر رجلا نوله إياها، فقال الشافعي لأحمد بن حنبل، وهو يتردد إليه في جملة من يأخذ عنه: ألا تقبل قضاء اليمن. فامتنع من ذلك امتناعا شديدا، وقال: إني إنما أختلف إليك لأجل العلم المزهد في الدنيا، أفتأمرني أن ألي القضاء؟ ولولا العلم لما أكلمك بعد اليوم. فاستحيى الشافعي منه[6].

ومن سعة فقهه رحمه الله أنه كان يسأل عن مذاهب الأئمة والفقهاء قيعرفها معرفة الخبير بها، العالم بدقائقها، يقول ابن تيمية: “.. حنبل وأحمد بن الفرج كانا يسألان الإمام أحمد عن مسائل مالك وأهل المدينة، كما كان يسأله إسحق بن منصور وغيره عن مسائل سفيان الثوري وغيره، وكما كان يسأله الميموني عن مسائل الأوزاعي، وكما كان يسأله إسماعيل بن سعيد الشالنجي عن مسائل أبي حنيفة وأصحابه؛ فإنه كان قد تفقه على مذهب أبي حنيفة واجتهد في مسائل كثيرة رجح فيها مذهب أهل الحديث .. “[7].

وأحسن الشيخ محمد أبو زهرة الوصف حين قال عن الإمام أحمد: إنه يحق لنا أن نقول: أحمد إمام في الحديث، ومن طريق هذه الإمامة في الحديث كانت إمامته في الفقه، وإن فقهه آثار في حقيقته، ومنطقه، ومقاييسه، وضوابطه ولونه ومظهره، .. وما أثر عنه من أقوال وفتاوى في مسائل مختلفة تجعلنا نحكم بأنه كان فقيها غلب عليه الأثر ومنحاه[8].

ولعل هذا من الأسباب التي حملت بعض العلماء كابن جرير الطبري أن يرفض اعتباره فقيها، وعده ابن قتيبة من المحدثين ولم يعهده من الفقهاء، “ولكن النظرة الفاحصة لدراساته وما أثر عنه من أقوال وفتاوى في مسائل مختلفة تجعلنا نحكم بأنه كان فقيها علب عليه الأثر”.[9]

وقد بين الإمام أبو الوفاء على بن عقيل ضعف هذا القول الذي لا يقبل اعتبار الإمام أحمد فقيها، ونقضه بشكل صريح، ومما قال: ” ‌ومن ‌عجيب ‌ما ‌نسمعه عن هؤلاء الجهال أنهم يقولون أحمد ليس بفقيه لكنه محدث وهذا غاية الجهل لأنه قد خرج عنه اختيارات بناها على الأحاديث بناء لا يعرفه أكثرهم وخرج عنه من دقيق الفقه ما ليس نراه لأحد منهم وانفرد بما سلموه له من الحفظ وشاركهم وربما زاد على كبارهم”[10].

إمامته في الزهد والورع

تفوق الإمام أحمد على أقرانه لا يقتصر على جمعه بين علم الحديث وفقه الاستنباط فحسب بل سبقهم في الزهد والورع، وشاهد ذلك حياته في كفالة أمه يتيما، وسفره في طلب العلم على ضعف الزاد والمتاع، جاء في المدارك: وأما زهده وورعه فأشهر من أن يذكر، وقد حاز هو والثوري في ذلك قصب السبق، ومزيد الشهرة، وإن كان لبقية الأئمة من ذلك الحظ الأوفر، والنصيب الأكبر، قال الشافعي: خرجت من بغداد وما خلفت فيها أفقه ولا أورع ولا أزهد ولا أعلم من ابن حنبل.

 ومن شواهد ما وقع للإمام أحمد وسطره المصنفون عن زهده وورعه سواء في فترة طلب العلم أم بعدها ما يأتي:

– التعفف من سؤال الناس وقبول عطياتهم:

 قال الرمادي: سمعت عبد الرزاق وذكر أَحمد بن حنبل فدمعت عيناه، فقال: بلغني أَن نفقته نفدت، فأخذت بيده فأَقمته خلف الباب، وما معنا أَحد، فقلت له: إنه لا تجتمع عندنا الدنانير إذا بعنا الغلة أشغلناها في شيء، وقد وجدت عند النساء عشرة دنانير فخذها … فقال لي: يا أبا بكر لو قبلت من أحد شيئًا قبلت منك[11].

وحكى عبد الله قال: كنا في زمن الواثق في ضيق شديد، فكتب رجل إلى أبي: إن عندي أربعة آلاف درهم ورثتها من أبي وليست صدقة ولا زكاة فإن رأيت أن تقبلها مني. فامتنع من ذلك، وكرر عليه فأبى، فلما كان بعد حين ذكرنا ذلك فقال: لو كنا قبلناها كانت قد ذهبت.

وعرض عليه بعض التجار عشرة آلاف درهم ربحا من بضاعة جعلها باسمه فأبى أن يقبلها، وقال: نحن في كفاية، وجزاك الله عن قصدك خيرا، وعرض عليه تاجر آخر ثلاثة آلاف دينار فامتنع من قبولها وقام وتركه[12].

وأمثلة من هذا القبيل كثيرة تدل على صدق عزيمته وزهده فيما عند الناس والقناعة بالقليل الذي يكتسبه من عمله

– رفضه جائزة السلاطين:

فقد عرض عليه الإمام الشافعي – كما سبق – القضاء فأبى ورفضه رفضا شديدا.

وروي أنه كان لا يصلي خلف عمه إسحاق بن حنبل ولا خلف بنيه، ولا يكلمهم أيضا؛ لأنهم أخذوا جائزة السلطان[13].

قال ابنه عبد الله: قال عبد الله: قلت لأبي: بلغني أن عبد الرزاق عرض عليك دنانير؟

قال: نعم، وأعطاني يزيد بن هارون خمس مائة درهم – أظن – فلم أقبل، وأعطى يحيى بن معين، وأبا مسلم، فأخذا منه[14].

ومكث مرة ثلاثة أيام لا يجد ما يأكله حتى بعث إلى بعض أصحابه فاستقرض منه دقيقا، فعرف أهله حاجته إلى الطعام فعجلوا وعجنوا وخبزوا له سريعا، فقال: ما هذه العجلة! كيف خبزتم سريعا؟ فقالوا: وجدنا تنور بيت صالح مسجورا فخبزنا لك فيه. فقال: ارفعوا. ولم يأكل، وأمر بسد بابه إلى دار صالح. قال البيهقي: لأن صالحا أخذ جائزة المتوكل على الله.

– نشر العلم والحديث مع ضعف ذات اليد:

ذكر ابن كثير: نفدت نفقة أحمد وهو في اليمن، فعرض عليه شيخه عبد الرزاق ملء كفه دنانير، فقال: نحن في كفاية ولم يقبلها. وسرقت ثيابه وهو باليمن فجلس في بيته ورد عليه الباب، فافتقده أصحابه فجاءوا إليه فسألوه فأخبرهم، فعرضوا عليه ذهبا فلم يقبله ولم يأخذ منهم إلا دينارا واحدا ; ليكتب لهم به فكتب لهم بالأجر، رحمه الله.

وقال أبو داود: كانت مجالس أحمد مجالس الآخرة، لا يذكر فيها شيء من أمر الدنيا، وما رأيت أحمد بن حنبل ذكر الدنيا قط[15].

قال ابن كثير: وقد صنف في الزهد كتابا حافلا عظيما لم يسبق إلى مثله، ولم يلحقه أحد فيه. والمظنون بل المقطوع به أنه كان يأخذ بما أمكنه من ذلك، رحمه الله، وأكرم مثواه، وجعل جنة الفردوس منقلبه ومأواه.

– حبه للوحدة والعزلة:

قال عنه ابنه عبد الله: كان أَصبر الناس على الوحدة، وبِشْرٌ لم يكن يصبر على الوحدة، كان يخرج إلى ذا إلى ذا وكان يقول: أَشتهي مكانًا لايكون فيه أَحد من الناس ويقول رأيت الخلوة أَروح لقلبي.

وقال تلميذه إبراهيم الحربي: كان يجيب في العرس، والِإملاك والختان، ويأكل.

وذكر غيره أَن أَحمد ربما استعفى من الإجابة، وكان إذا رأى إناء فضة، أو منكرًا، خرج.

وكان يحب الخمول والانزواء عن الناس، ويعود المريض. وكان يكره المشي في الأَسواق، ويؤثر الوحدة.

وقال محمد بن الحسن بن هارون: رأيت أَبا عبد الله إذا مشى في الطريق، يكره أَن يتبعه أَحد.

تفاعل الشيخ بكر أبو زيد وهو يشيد بهذه الخصلة في الإمام أحمد، قائلا: إن أعظم صفة أخذت بمجامع قلبي، هي ما أَفاض به مترجموه – رحمه الله تعالى – في أخبار تعبده، وزهده، وتألُّهه، وقراءته القرآن، وورعه، مما لا ينقضي منه العجب، لكنها المعونة الربانية، والعناية الِإلهية، وهي بحق تقضي له بالإمامة في العلم والدِّين، إِذ العالم لا يكون عالمًا حتى يكون عاملًا، تَقَبَّلَ الله مِنَّا ومنه، آمين[16].

قواعد وأصول فقه الحنابلة

اهتم فقه الحنابلة اهتماما كبيرا السنة والآداب، والإقتداء بالسلف لم يكن إلا صورة منعكسة لما كان عليه أحمد بن حنبل – رضي الله عنه – في هذا الجانب، فقد ألزم نفسه أن لا يكتب حديثاً إلا وقد عمل به، حتى مر به أن النبي – صلى الله عليه وسلم – احتجم وأعطى أبا طيبة ديناراً، فأعطى الحجام ديناراً حين احتجم.

قال الذهبي: وإلى الإمام أحمد المنتهى في معرفة السنة علماً وعملاً، وفي معرفة الحديث وفنونه، ومعرفة الفقه وفروعه، وكان رأساً في الزهد والورع والعبادة والصدق.

وهكذا كان الإمام أحمد يفضل لنفسه أن يعيش حياة سلفية خالصة، مع أنه كان في عاصمة الحضارة الإسلامية التي قد تجمعت فيها كل أسباب النعيم والرفاهية، وقد تجرد من جميع ملابسات العصر، ومناحراته، وما يجري من منازلات فكرية وسياسية أو اجتماعية أو حريية، واختار أن يحلق في جو الصحابة والصفوة من التابعين، ومن جاء بعدهم، ممن نهج نهجهم، واختار سبيلهم.

ولأجل ذلك كان علمه وفقهه هو السنة بعينها، لا يخوض في أمر إلا إذا علم أن الصحابة خاضوا فيه، فإن علم بذلك اتبع رأيهم، ونفى غيره، وإن لم يعلم أن الصحابة خاضوا في ذلك الأمر كف عنه، واستعصم متوقفاً حذراً، فلا يقفو ما ليس له به علم لأنه يعتقد أن الخروج عن تلك الجادة زيغ عن منهاج السلف، وإلحاد في دين الله سبحانه وتعالى[17].

أما طريقة الإمام في أصول المذهب الحنبلي فقد كانت طريقة الصحابة والتابعين لهم بإحسان لا يتعدى طريقتهم ولا يتجاوزها إلى غيرها كما هي عادته في مسالكه في التوحيد والفتيا في الفقه وفي جميع حركاته وسكناته.

وقد صرح المجتهدون من أهل مذهبه التابعين له في الأصول أن فتاواه رضي الله عنه مبنية على خمسة أصول:

الأصل الأول: النص كان إذا وجد النص أفتى بموجبه ولم يلتفت إلى ما خالفه لا إلى من خالفه كائنا من كان ولهذا لم يلتفت إلى خلاف عمر في المبتوتة لحديث فاطمة بنت قيس، ولا إلى خلافه في التيمم للجنب لحديث عمار بن ياسر المصرح بصحة تيمم الجنب..

ولم يكن يقدم على الحديث الصحيح عملا ولا رأيا ولا قياسا ولا قول صاحب ولا عدم علمه بالمخالف الذي يسميه كثير من الناس بالإجماع ويقدمونه على الحديث الصحيح

وقال الإمام ابن القيم وغيره من علماء الأصول قد كذَّب أحمد من ادعى هذا الإجماع ولم يسغ تقديمه على الحديث الثابت وكذلك الشافعي أيضا نص في رسالته الجديدة على أن ما لم يعلم فيه خلاف لا يقال له إجماع.

الأصل الثاني من أصول فتاوى الإمام أحمد ما أفتى به الصحابة فكان رضي الله عنه إذا وجد لبعضهم فتوى لا يعرف له مخالف منهم فيها لم يتجاوزها إلى غيرها ولم يقل إن ذلك إجماع بل من ورعه في العبارة يقول لا أعلم شيئا يدفعه أو نحو هذا.

الأصل الثالث من أصوله إذا اختلف الصحابة تخير من أقوالهم ما كان أقربها إلى الكتاب والسنة ولم يخرج عن أقوالهم فإن لم يتبين له موافقة أحد الأقوال حكى الخلاف فيها ولم يجزم بقول.

الأصل الرابع الأخذ بالمرسل والحديث الضعيف إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه وهو الذي رجحه على القياس وليس المراد بالضعيف عنده الباطل ولا المنكر ولا في روايته متهم بحيث لا يسوغ الذهاب إليه فالعمل به.

الأصل الخامس القياس كان الإمام أحمد يستعمله للضرورة على ما علمت مما سبق ففي كتاب الخلال عن أحمد قال سألت الشافعي عن القياس فقال إنما يصار إليه عند الضرورة أو ما هذا معناه فهذه الأصول الخمسة من أصول فتاوى الإمام أحمد وعليها مدارها[18].

وهذه الأصول تلتقي في المبدأ مع قواعد مذهب الإمام الشافعي، ولعل السبب قوة الاتصال الذي وقع بين الشيخين، والعلاقة العلمية التي تجعل الإمام الشافعي يطلب تصحيح الحديث عن الإمام أحمد، وكذا تتلمذ أحمد بن حنبل في الفقه وتخرج على يد الإمام الشافعي رحمة الله عليهما جميعا.

قال الحجوي الفاسي: مبدؤه قريب من مبدإ الشافعي؛ لأنه تفقه عليه حتى إن الشافعية يعدونه شافعيا، ولكن الحق أنه مذهب مستقل وأن نسبته للشافعي كنسبة أبي يوسف لأبي حنيفة غير أن مذهب أبي يوسف ألف مع مذهب أبي حنيفة، فامتزجا بخلاف أحمد، فقد ألف مذهبه مستقلا[19].

قال ابن تيمية: وموافقة الإمام أحمد للشافعي وإسحاق ‌أكثر ‌من ‌موافقته ‌لغيرهما وأصوله بأصولهما أشبه منها بأصول غيرهما وكان يثني عليهما ويعظمهما ويرجح أصول مذاهبهما على من ليست أصول مذاهبه كأصول مذاهبهما. ومذهبه أن أصول فقهاء الحديث أصح من أصول غيرهم والشافعي وإسحق هما عنده من أجل فقهاء الحديث في عصرهما[20].

إِن هذين الإمامين يشتركان في خدمة الحديث الشريف وفقهه، مما صار له الَأَثر على فقههما، وتلاقي فُهُوْمِهِمَا في الاستنباط والتعليل، وصار له أَثر على أتباعهما في خدمة السنة النبوية؛ ولهذا برز في كلا المذهبين أَعلام على قدم الإمامة في علم الحديث

فمن الشافعية: الخطيب، والنووي، وابن كثير والذهبي، وابن حجر.

ومن الحنابلة: عبد الغني بن سرور المقدسي، وابن تيمية، وابن القيم، وابن عبد الهادي.

وكان من أَثر الفقه الشافعي بالفقه الحنبلي، سلوك بعض الأصحاب طريقة بعض الشافعية في صناعة التأليف في الفقه، وذلك من لدن أَول متن في المذهب: ” مختصر الخِرَقي “؛ إذ أَلَّفهُ على طريقة المزني في ” مختصره “[21].


[1]  ابن أبي يعلى، طبقات الحنابلة (1/15).

[2]  سير أعلام النبلاء (11/180).

[3]  البداية والنهاية (14/382).

[4]  سير أعلام النبلاء (11/186).

[5]  المصدر السابق (11/188).

[6]  البداية والنهاية (14/387).

[7]  مجموع الفتاوى (34/114)؛ المذاهب الفقهية الأربعة .. أئمتها  – أطوارها – أصولها  – وآثارها (168).

[8]  ابن حنبل: حياته وعصره وآراؤه الفقهية، أبو زهرة (178)

[9]  المصدر السابق.

[10]  المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل، لابن بدران (107).

[11]  سير أعلام النبلاء (11/192).

[12]  البداية والنهاية (14/389).

[13]  البداية والنهاية (14/387).

[14]  سير أعلام النبلاء (11/193).

[15]  البداية والنهاية (14/389).

[16]  المدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد وتخريجات الأصحاب، بكر أبو زيد (1/337).

[17]  المذهب الحنبلي دراسة في تاريخه وسماته، عبد الله بن عبد المحسن التركي، (1/ 338)

[18]  منقول باختصار من كتاب المدخل لابن بدران (119).

[19]  الفكر السامي (2/25).

[20]  مجموع الفتاوى (34/113).

[21]   المدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد وتخريجات الأصحاب، بكر أبو زيد (1/374).