وجَّه الـمُصلح التركي الكبير سعيد النُّورسي (1873- 1960م) جزءًا كبيرًا من عنايته إلى مسألة “التَّربية الرُّوحية”؛ أو بالأحرى “التَّزكية”. كيف لا؟ وهي مفتاح الفهْم لكلِّ عملية تربوية تتغيَّا إخراجَ جيلٍ قرآنيٍّ ربانيٍّ يُساهم من خلال العمل الإيجابيِّ البنَّاء في خلافة الأرض وعمارتها، والقيام بمسؤوليات الأمانة الـمُلْقاةِ على عاتقه بحكم اختياره وحمله لها؟!
والواقع أن النُّورْسِي اتجه نحو طلب الـحقَّ والـحقيقة منذ صغره، أيامَ لجوئه إلى الـمغارات للاستماع إلى أنين قلْبه وآهاته، وإنابَةِ روحِه ومُناجاتها، حتَّى ذاق طعْم الطَّاعة، ورشف رحيقَ العبادة، واستشمَّ طيب التَّفكُّر، واستفاض في “التَّربية الرُّوحيَّة” والنفسيَّة فوصل إلى الطُّمأنينة والسَّكينة.
وبفضل “التَّربية الرُّوحية” وما تضمنتْهُ من مجاهداتٍ تشبَّع النُّورْسِي بالـحقائق الـمكنونة في القرآن؛ حتَّى أنه وصف كتابه “الكلمات” بأنّه كتابٌ “يبحثُ في علم الـحقيقة؛ حقيقة الشَّريعة، التي تمثِّل حكمةِ القرآن الكريم.
تلكم الـحكمة التي كانت بالنِّسبة إليه دليلا ومُرشدا، فأعلن على رؤوس الأشْهاد: “لأُبرْهِننَّ للعالم بأنَّ القرآن شمسٌ معنويةٌ لا يخبو سناها، ولا يمكن إطفاءُ نورها”.
ضمن هذا السِّياق العام يؤكِّد النورسي أنَّ ثمة ميزة أخرى في الطِّريق الـمختصر الذي اختطه للسَّالكين من طُلَّاب النُّور، تتعلَّق بكونه “أسلم من غيره، لأنَّه ليس للنَّفس فيه شطحاتٌ أو ادعاءاتٌ فوق طاقتها؛ إذ الـمرء لا يجد في نفسه غير العجز، والفقر، والتقصير، فيتجاوز حدَّه”. ولعلَّ هذا الـملمح كثير الشَّبه بفلسفة ابن عطاء اللَّه السَّكندري (658- 709هـ) وبمدرسة الشيخ أبي الـحسن الشَّاذُليِّ (571- 656هـ) الصُّوفية؛ خاصة فيما يتعلق بكتاب ابن عطاء اللَّه “التَّنوير في إسقاط التَّدبير”، ذلك أنَّ معنى التَّدبير الذي عناه صاحب “التنوير” هو تدبيرُ الدُّنيا للدُّنيا، أي أن يدبِّر الإنسان في أسباب جمْعها افتخارًا بها واستكثارًا، وكلَّما ازداد فيها شيئا ازداد غفلةً واغترارا. أمَّا تدبيرُ الدُّنيا للآخرة: كأن يدبِّر الإنسان الـمتاجر والـمكاسب، ليأكل منها حلالا ولينعم بها على ذوي الفاقة أفضالا وليصون بها وجهه عن النَّاس إجمالا؛ فذلك هو التَّدبير الـمحمود الذي يحبُّه اللَّه ورسوله.
وانطلاقا من القرآن الكريم، الذي حثَّ في الكثير من آياته على ضرورة التَّزكية، واتّساقًا مع تركيز الأستاذ النُّورسي على الـجانب العمليِّ في “التَّربية الرُّوحيَّة”، أكدَّ بديع الزَّمان أنَّ الطَّرائق إلى الـخالق عزَّ وجلَّ كثيرة ومتعدِّدة، لكنَّ مردَّها جميعا إلى القرآن الكريم، ويُتابع قائلا: “وقد استفدتُ من فيض القرآن الكريم طريقا قصيرا وسبيلا سويا هو: طريق العجْز، الفقْر، الشَّفقة، التَّفكُّر”.
ويدلّل النُّورسي على طريقه الـمختصر للسَّالكين بمنطق الثنائيات فـ “العجزُ كالعشْق طريقٌ مُوصِّلٌ إلى الله؛ بل أقرب وأسلم، إذ هو يُوَصِّلُ إلى الـمحبوبية بطريق العبوديَّة. والفقر مثله يُوصِّل إلى اسم الله (الرَّحمن)، وكذلك الشَّفقة كالعشْق مُوصِّلَةٌ إلى الله إلَّا أنَّها أنفذُ منه في السَّير وأوسعُ منه مدى؛ إذ هي تُوصِّلُ إلى اسم الله (الرَّحيم). والتَّفكُّر أيضا كالعشْق إلا أنَّه أغْنى منه وأسطع نورًا وأرحب سبيلا؛ إذ هو يُوصِّل السَّالك إلى اسم الله (الـحكيم)”.
وفي الواقع؛ فإن الأمر لا يقتصر على الاختصار فحسب؛ وإنَّما يتجاوزه إلى شرف هذه الـمراحل الأربعة مقارنة بمثيلاتها في مسالك الآخرين من جهة، وارتباط تحقُّقها في نفس السَّالك بالوقوف على أسرار وتجليات “أسماء الله الـحسنى” من جهة أخرى. فإذا كانت طرق “الـخفاء” ذات خطوات عشر – كاللطائف العشر – وإذا كانت طرق “الـجهر” ذات خطوات سبع – بحسب النفوس السبعة – فإنَّ الطَّريق الـمختصر الذي اخطته النُّورسي هو عبارة عن أربع خطوات فحسب؛ فهو (حقيقةٌ شرعية) أكثر مما هو (طريقةٌ صوفية)، فالـمقصود بالعجز والفقر والتقصير إنما هو إظهار ذلك كلّه أمام الله سبحانه، وليس إظهاره أمام الـخلق.
وتأكيدًا على “مركزية التّزكية” في منهج الأستاذ النورسي التَّربويِّ العمليِّ نراه يشدِّد على ضرورة التَّزكية بوصفها تُمثِّل الـمنبع الأول للطَّريق الصُّوفي الصحيح. يقول في ذلك: “أمَّا منابع هذه الـخطوات الأربعة من القرآن الكريم فهي: ﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ﴾؛ تُشير إلى الـخطوة الأولى (العجز). وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّـهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ﴾؛ تشير إلى الـخطوة الثانية (الفقر). وقوله: ﴿مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّـهِ ۖ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ﴾ تشير إلى الـخطوة الثالثة (الشفقة). وقوله: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾؛ تشير إلى الخطوة الرابعة (التفكُّر).
أمَّا وجوب عدم تزكيَّة النَّفس – أي الـمبالغة في تعظيمها والافتخار بأعمالها وعدم رؤية تقصيرها – فذلك يقع بحسب النورسي لأنَّ الإنسان بحسب جبلَّته، وبمقتضى فطرته، مُحِبٌّ لنفسه بالذَّات، بل لا يحبُّ إلا ذاته في الـمقدِّمة. ويُضحِّي بكلِّ شيء من أجل نفسِه، ويمدح نفسَه مدحا لا يليق إلا بالـمعبود وحده، بل لا يقْبَلُ التَّقصير لنفسِه أصلا، ويُدافع عنها دفاعًا قويا بما يُشْبِه العبادة، فيصيبه وصف الآية الكريمة: ﴿مَنِ اتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ﴾، فلا بدَّ إذن من تزكيتِها. فتزكيتُها في هذه الـخطوة وتطهيرها هي بعدم تزكيتها.
وكما أنَّ التَّزكية – بهذا الـمعنى – ضروريةٌ في الـخطوة الأولى؛ فإنَّها ضروريةٌ وواجبةٌ أيضا في الـخطوة الثانية الـمتعلِّقة بالفقر؛ إذ مُقتضى النَّفس الأمَّارة بالسوء أنها تَذْكُر ذاتها في مقام أخْذ الأجرة والـحظوظ وتلْتزم بها بشدَّةٍ، بينما تتناسى ذاتَها في مقام الـخدْمة والعمل والتَّكْليف. فتزْكيتُها وتطهيرها وتربيتُها في هذه الـخطوة هي العملُ بعكس هذه الـحالة؛ أي عدم النّسيان في عين النِّسيان؛ أي نسيانُ النَّفس في الـحظوظ والأُجرة، والتَّفكُّر فيها عند الـخدمات والـموت.
والأمر ذاته فيما يتعلَّق بالـخطوة الثالثة “الشَّفقة”؛ “فتزكيةُ النَّفس في هذه الـمرتبة هي في سِرِّ الآية الكريمة: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا﴾؛ وهي أنْ تعلم بأنَّ كمالها في عدم كمالِها، وقُدْرتَها في عجْزها أمام الله، وغناهَا في فقْرها إليه.
أخيرًا يُشدِّد النورسي على ضرورة وأهمية التَّزكيَّة في الـخطوة الرَّابعة (التَّفكُّر)؛ فتزْكِيتُها في هذه الـخطوة هي معرفة أنَّ عدمها في وجودِها ووجودَها في عدمِها؛ أي إذا رأت ذاتَها وأعْطت لوجودِها وجودًا، فإنَّها تغرَق في ظلُمات عدَمٍ يسع الكائنات كلّها، كأنَّها اليَرَاعَة في ضيائها الفرديِّ الباهت في ظلُمات الليل البهيم. ولكنْ عندما تترك الأنانية والغرور ترى نفسها حقًّا أنَّها لا شيءَ بالذَّات؛ وإنَّما هي مرآةٌ تعْكِسُ تجليات مُوجِدها الـحقيقيّ، فتظْفر بوجود غير متناهٍ، وتربح وجود جميع الـمخلوقات.