يعتبر الترمذي من أعلام الحديث النبوي الشريف وصاحب أحد كتب الحديث الستة المشهورة، بكتابه المعروف بـ “سنن الترمذي”. كما له عدة مصنفات مثل “الشمائل” و”أسماء الصحابة. وقد عاش الترمذي في عصر إزدهار علم الحديث، وهو وأول من تحدث في علم “الفقه المقارن”.
تلقى الترمذي العلم عن بعض شيوخ البخاري ومسلم، ومن شيوخ لم يلتقوا بهم أيضا، وكان البخاري أحد ابرز شيوخه، فروي أنه بكى كثيرًا لما توفى الإمام البخاري. ارتحل كثيرا لطلب العلم وسماع الحديث، فيقول عنه الحافظ المزي: طاف البلاد، وسمع خلقا كثيرا من الخراسانيين والعراقيين والحجازيين وغيرهم، وعلى الرغم من أن الترمذي لم يذهب إلى مصر والشام، إلا أنه روى عن علماءهم بالوساطة، وقيل أيضا أنه لم يدخل بغداد ويرجع ذلك إلى اضطراب الأحوال وانتشار الفتن.
وتقول بعض المصادر أن الترمذي ولد ضريرا، وتقول أخرى أنه أصيب بالعمى وهو طفل، فيما يقول طرف ثالث أن الترمذي أصيب بفقدان البصر في آخر عمره حسبما أورد البغدادي وابن كثير الذي قال: والذي يظهر من حال الترمذي أنه إنما طرأ عليه العمى بعد أن رحل وسمع وكتب وذاكر وصنف. ومن دلالات ذلك ما ورد في القصة التي تدل على سعة حفظه، حيث كان ينظر إلى ورقة بيضاء.
مولده ونشأته
هو محمد بن عيسى بن سورة بن موسى بن الضحاك، المشهور بالإمام الترمذي، وكغالب العلماء في زمانه، فاسمه منسوب إلى موطنه ببلدة “ترمذ”، التي تقع اليوم على مجرى نهر جيحون بالجهة الشرقية لجمهورية أوزباكستان حاليا.
ولد الترمذي في أوائل القرن الثالث الهجري وتحديدا عام 209 هجريا، في إحدى قرى مدينة ترمذ تسمى (بُوغ)، وقضى طفولته بها، ومن ثم ارتحل إلى خراسان طلباً للعلم، وأعقب ذلك بالسفر إلى العراق والحجاز، لكنه لم يزر مصر والشام، بخلاف ما هو سائد في زمانه.
وقد عاش في القرن الثالث الهجري إبان الدولة العباسية، وذلك القرن كان قرن الحديث النبوي بلا منازع، حيث ظهر فيه علماء الحديث الذي بذلوا جهداً في جمعه، وأبرزهم البخاري إلى مسلم إلى الترمذي وابن ماجه والنسائي وأبو_داود.
أخلاقه وصفاته وعلاقته بالبخاري
كانت علاقة الإمام الترمذي بالبخاري وثيقة، فقد تفقه على يد البخاري وتعلم منه استنباط الأحكام، فيقول في كتاب العلل في آخر كتابه الجامع: وما كان فيه من ذكر العلل في الأحاديث والرجال والتاريخ فهو ما استخرجته من كتب التاريخ، وأكثر ذلك ما ناظرت به محمد بن اسماعيل (البخاري) ومنه ما ناظرت به عبد الله بن عبد الرحمن (الدرامي) وأبا زرعة (الرازي) وأكثر ذلك عن محمد (يقصد البخاري)..ولم أرى أحدًا بالعراق ولا بخرسان في معنى العلل والتاريخ ومعرفة الأسانيد كبير أحد أعلم من محمد بن اسماعيل”.
تفقه الترمذي على شيخ الحديث الإمام البخاري، الذي عاصره، وبذل في جمع الأحاديث عن المحدثين، وعمل على تصنيف كتابه “سنن الترمذي”.
وقد بلغ مبلغاً يذكره التاريخ في الإتقان في عمله، كذلك ضرب به المثل في الحفظ، ويعلم أن علم الأحاديث كان يتطلب هذه المهارة التي نجدها عند جل علماء الحديث وهم يتنقلون بين البلدان في مهام لم تكن بالسهلة في زمن كانت الحياة فيه ليست كاليوم.
وقد وصفه ابن حبان وهو من علماء الحديث الذين عاشوا في نهاية القرن الثالث والرابع الهجري، بأنه “كان من الأئمة الستة الذين حرسوا سنة رسول الله ﷺ، وأصبحت كتبهم في عالم السنة هي الأصول المعتمدة في الحديث، ومن الذين نضّر الله وجوههم لأنه سمع حديث رسول الله فأداه كما سمعه”.
وقال عنه أبو يعلى الخليل بن عبد الله: “محمد بن عيسى بن سورة بن شداد الحافظ متفق عليه، له كتاب في السنن، وكتاب في الجرح والتعديل، روى عنه أبو محبوب والأَجِلَّاء، وهو مشهور بالأمانة والإمامة والعلم”.
وقيل إنه لما مات البخاري صار هو العالم في خراسان الذي يشار إليه، ويروى أنه بكى كثيراً على موت البخاري، الذي توفى في 870م قبل وفاة الترمذي بـ22 سنة.
ويروى الترمذي نفسه أن الإمام البخاري قال له وقد تفقه عنه: “ما انتفعتُ بك أكثر مما انتفعت.
سنن الترمذي
بعد أن ألف كتابه المشهور الجامع أو السنن، المعروف بـ”سنن الترمذي” كان قد عرضه على علماء زمانه ممن تيسر له في الحجاز والعراق وخراسان فرضوا به. وقال الترمذي – نفسه – عن مؤلفه هذا: “من كان هذا الكتاب في بيته، فكأنما في بيته نبي يتكلم”… وهو دليل على الثقة والفخر بما أنجز من عمل، وقد كان معتزاً بمنجزه هذا وأن الفقهاء أخذوا به.
ويبلغ عدد أحاديث الكتاب 3956 حديثاً، وتضمن الحديث مصنفاً على الأبواب، والفقه، وعلل الحديث، ويشتمل على بيان الصحيح من السقيم وما بينهما من المراتب.
كذلك اشتمل على الأسماء والكنى، وعلى التعديل والتجريح، ومن أدرك النبي ومن لم يدركه ممن أسند عنه في كتابه، وذكر من روى ذلك.
وقد قال ابن رجب الحنبلي عن هذا الكتاب: “اعلم أن الترمذي خرج في كتابه الصحيح والحسن والغريب، والغرائب التي خرجها فيها بعض المنكر، ولا سيما في كتاب الفضائل، ولكنه يبين ذلك غالبا، ولا أعلم أنه خرج عن متهم بالكذب، متفق على اتهامه بإسناد منفرد، نعم قد يخرج عن سيئ الحفظ ومن غلب على حديثه الوهن، ويبين ذلك غالبا، ولا يسكت عنه”.
السبق في علم الفقه المقارن
كان للترمذي السبق في علم الفقه المقارن، فكان أول من تحدث فيه، بل يتميز كتابه “سنن الترمذي” الذي جمع الأحاديث فيه وأحد الكتب الستة، بأنه أوثق المراجع وأقدمها في الخلاف الفقهي، خاصة في المذاهب المهجورة كمذهب الاوزاعي والثوري وغيرهم، واستطاع أيضا ان يحفظ مذهب الشافعي القديم، فيقول عنه العلامة ابو الحسن الندوي: وكان أول من طرق موضوع ما يسميه الناس اليوم الفقه المقارن، وكان له فضل كبير يجب أن تعترف الأمة به في حفظه لفقه المدارس الإجتهادية في عصره ولولاه لضاع منه الشيء الكثير وعفا عليه الزمان، وتلك خصيصة لجامعه تفرد بها من بين مصنفات الحديث والسنة، فهو أوثق المراجع وأقدمها في الخلاف، سيما في المذاهب المهجورة.
ومن أشهر ما ترك الترمذي من المؤلفات هو كتابه “جامع الترمذي” واسمه الجامع المختصر من السنن عن رسول الله ﷺ ومعرفة الصحيح والمعلول وما عليه العمل، ويحتوي كتاب جامع الترمذي على حوالي اربعة آلاف حديث تقريبًا مقسمة على أبواب متفرقة: الطهارة، الصلاة، الزكاة، الصوم، الحج، الجنائز…إلخ.
مؤلفاته
ألف الترمذي بالإضافة إلى كتاب “السنن” الذي يعرف بـ”جامع الترمذي” كذلك، العديد من المؤلفات، تطرق ابن كثير إلى بعضها بقوله: “الترمذي أحد أئمة الحديث في زمانه، وله المصنَّفات المشهورة، منها: “الجامع”، و”الشمائل”، و”أسماء الصحابة”، وغير ذلك. ومن أبرز كتبه الأخرى بعد السنن:
- “الشمائل المحمدية: الذي يعتبر من مراجع السيرة النبوية، وقد ذكر فيه الترمذي أوصاف النبي، وبيّن الشمائل والأخلاق والآداب التي تحلى بها للتأسي به سلوكاً وعملاً واهتداءً، فقسمه إلى 55 باباً، وجمع فيه 397 حديثاً.
- “علل الترمذي الكبير”: وهو عبارة عن عدة أحاديث يرويها الترمذي بأسانيده، ثم يعقبها بالحكم على كل حديث منها إما بكلامه وإما بكلام شيوخه الذين يذكرهم، وقد كان النصيب الأوفر من الحكم على هذه الأحاديث من نصيب الإمام البخاري، وقد بلغت نصوص هذا الكتاب 484 نصا مسندا، وقد تم تنقيحه في “ترتيب علل الترمذي الكبير”.
- “العلل الصغير”: وهو ملحق بسنن الترمذي، جمع فيه الأحاديث المعللة على ترتيب الأبواب الفقهية، وبيّن فيه علة كل حديث.
وللترمذي مؤلفات أخرى (منها ما هو مفقود) ومن هذه المؤلفات عامة:
- الزهد
- كتاب التفسير
- كتاب التاريخ
- كتاب الأسماء والكنى
قالوا عنه
أثنى على الترمذي كثير من العلماء ومن ذلك ما ذكره ابن الأثير الجزري عنه: كان إماما حافظًا له تصانيف حسنة منها الجامع الكبير في الحديث، وقال أيضًا: هو أحد العلماء الحفاظ الأعلام، وله في الفقه يد صالحة، وأضاف: هو أحد أئمة هذا الشأن في زمانه، وقال أبو الفداء: كان إمامًا حافظًا وكان ضريرًا وهو من أئمة الحديث المشهورين الذين يقتدى بهم في علم الحديث.
وقال أبو سعد الإدريسي عنه: “أحد الأئمة الذين يقتدى بهم في علم الحديث ، صنف الجامع والتواريخ والعلل تصنيف رجل عالم متقن ، كان يضرب به المثل في الحفظ. وقال الحاكم: “سمعت عمر بن علك يقول : مات البخاري، فلم يخلف بخراسان[؟] مثل أبي عيسى، في العلم والحفظ، والورع والزهد، بكى حتى عمي، وبقي ضريرًا سنين”.
قال ابن العماد الحنبلي: “كان مبرزًا على الأقران آية في الحفظ والإتقان”، وقال المزي: “الحافظ صاحب الجامع وغيره من المصنفات، أحد الأئمة الحفاظ المبرزين ومن نفع الله به المسلمين”.
ووصفه السمعاني بأنه: “إمام عصره بلا مدافعة”. وقال الذهبي: “الحافظ العالم صاحب الجامع ثقة مجمع عليه ولا التفات إلى قول أبي محمد بن حزم في الفرائض من كتاب الإيصال أنه مجهول فإنه ما عرف ولا درى بوجود الجامع ولا العلل له.
ذكره ابن حبان: “كان محمد ممن جمع وصنف وحفظ والإمام الترمذي صاحب لجامع من الأئمة الستة الذين حرسوا سنة رسول الله ﷺ وأصبحت كتبهم في عالم السنة هي الأصول المعتمدة في الحديث ومن الذين نضر الله وجوههم لأنه سمع حديث رسول الله فأداه كما سمعه”.
قال ابن خلكان: “الترمذي الحافظ المشهور، أحد الأئمة الذين يقتدى بهم في علم الحديث، صنَّف كتاب الجامع والعلل تصنيف رجل متقن، وبه كان يُضرَب المثَل، وهو تلميذ أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، وشاركه في بعض شيوخه، مثل: قتيبة بن سعيد، وعلي بن حجر، وابن بشار، وغيرهم”.
قال إسماعيل الهروي: “جامع الترمذي أنفعُ مِن كتاب البخاري ومسلمٍ؛ لأنهما لا يقف على الفائدة منهما إلا المتبحر العالم، والجامع يصلُ إلى فائدته كلُّ أحدٍ”. وقال أبو يعلى الخليل بن عبد الله الخليلي القزويني: “محمد بن عيسى بن سَورةَ الحافظُ، متفقٌ عليه، له كتابٌ في السنن، وكلامٌ في الجرح والتعديل، روى عنه ابن محبوبٍ والأجلاء، وهو مشهورٌ بالأمانة والعلم”.
إصابته بالعمى وموته
رحل الترمذي عن العالم ضريرا، حيث أصيب بالعمى في مرحلة متقدمة من عمره، جراء حب العلم والقراءة والكتابة المتواصلة. وليس صحيحاً أنه ولد أعمى كما يرد في بعض القصص عنه، وقد رحل في 13 رجب 279هـ، في البلدة نفسها التي ولد بها ترمذ.