حظي التعليم الإسلامي باهتمام كثير من الدارسين في الحقبة الحديثة، حيث ظهرت مؤلفات عديدة حاولت تناول طبيعة هذا النظام التعليمي المغاير للنظم التعليمية الغربية الحديثة، وجلها ركز على المؤسسات التعليمية في المشرق، على حين لم تحظ المؤسسات المغربية باهتمام مماثل، وعلى هذا سنعرف بإيجاز في السطور التالية بطبيعة النظام التعليمي في جامعة القرويين العتيقة، ونبين التشابهات والاختلافات بينه وبين أنظمة التعليم المشرقية.

نشأة الجامع وتطوره

تم الشروع في بناء جامع القرويين في منتصف القرن الثالث الهجري بمدينة فاس، وارتبط اسمه بالسيدة فاطمة الفهرية (أم البنين) التي وقفت سائر ما ملكت لاستكمال بنائه، ولا يعلم على وجه اليقين متى بدأت الدروس العلمية بالمسجد لكن المرجح أنها بدأت منذ وقت مبكر للغاية، إذ كانت المساجد الكبرى في العالم الإسلامي تعقد بها حلقات للعلم، ويذهب الدكتور عبد الهادي التازي أن أبا عبد الرحمن بكر ابن حماد التاهرتي (ت: 296 هـ) كان من أوائل الذين عقدوا مجالس علمية بالقرويين، ثم استقرت حلقات العلم به فيما بعد واستعت فكان وكلما سمع رواد المجالس العلمية بعالم جليل أو جديد ذهبوا إلى حضور دروسه كما هو الشأن مع دروس ابن تومرت في مسجد الطالعة، وبمضي الوقت أخذت المكانة المعرفية في البروز حيث انتقل ابتداء من القرن الخامس الهجري من مرحلة الجامع إلى المركز العلمي، وبدا ذلك واضحا في العصر المريني (ق: 7-9 ه)  عندما أنشأت مجموعة من المدارس والكراسي العلمية والخِزانات التي حوت آلاف الكتب.

وهناك عوامل تقف وراء ذلك، يأتي في مقدمتها الجوار الجغرافي لمدينة فاس مع الأندلس والقيروان وهما من حواضر العلم الإسلامي، وحول هذا المعني يقول عبد الواحد المراكشي (ت: 621 هـ) «إنها حاضرة المغرب في وقتنا هذا، وموضع العلم منه، اجتمع فيها علم القيروان وعلم قرطبة؛ إذ كانت قرطبة حاضرة الأندلس لما كانت القيروان حاضرة المغرب، فلما اضطرب أمر القيروان، كما ذكرنا بعيث العرب فيها، واضطرب أمر قرطبة باختلاف بني أمية بعد موت أبي عامر محمد بن عامر وابنه، رحل من هذه وهذه من كان فيها من العلماء والفقهاء من كل طبقة فرارا من الفتنة، فنزل أكثرهم مدينة فاس، فهي اليوم على غاية الحضارة…». ويضاف لذلك أسباب أخرى من قبيل: الاستقلالية المادية التي توفرت للقرويين بفضل الحبوس والأوقاف التي أوقفت على الجامع وطلابه، وكذلك الرعاية التي أولاها ولاة الأمر لتلك المؤسسة العلمية التي احتلت مكانة مؤثرة اجتماعيا، حتى غدت بيعة علماء القرويين أمرا حاسما لإقرار السلاطين على عروشهم فلم يتم إلغاؤها حتى عام 1913 عقب إعلان الحماية الفرنسية على البلاد.

مفردات المنظومة التعليمية

ينقسم النظام التعليمي بصفة عامة إلى ثلاثة أقسام: هي الطالب، المدرس، والبيئة التعليمية من مقررات ومناهج، ونظم تدريس وما إلى ذلك من عناصر.

الطالب: يعد الطالب الضلع الأول في النظام التعليمي، وكان التحاق الطالب للدراسة بجامع القرويين يخضع لاشتراطات واعتبارات مسبقة أهمها؛ إلمامه التام بالقراءة والكتابة، وقواعد اللغة العربية، وحفظ القرآن أو قسم منه على الأقل، وبعض المتون في مبادئ العلوم، وإجادة التجويد وما إلى ذلك. وهذه الاعتبارات كانت تراعى في جميع الجوامع ولم يختص بها القرويين، إذ ينبغي على الطالب الانخراط في أحد الكتاتيب أو المدارس الأولية قبيل الالتحاق بالجامع، وعلى هذا أنشئت في محيط القرويين عدة مدارس وأشهرها المدرسة البوعنانية.

وكان الطلبة من ذوي الأصل الفاسي يقطنون مع أهاليهم في منازلهم بالمدينة ولا ينتقلون للإقامة بالمسجد، أما الطلبة الوافدون من الجزائر وتونس وبعض الجهات المغربية فكانوا يلجاؤن إلى المدرسة التي يرغبون فيها، وبها “يشترون” الاستفادة من غرفة ليقيموا فيها. وتيسيرا على الطلبة كان الجامع يوفر لطلابه الخبز من الأوقاف المحبسة على الجامع، أما في المساء فكان على الطالب أن يوفر لنفسه وجبة العشاء حسب قدرته المالية وكان الفقراء منهم يحظون برعاية الأسر الفاسية الكريمة التي توفر لهم الطعام ليتفرغوا للعلم. وقد تمتع الطالب في القرويين بحرية مطلقة في اختيار المدرس الذي يود الحضور عليه، واختيار المواد التي يرغب دراستها إذ ربما ركز بعضهم على علوم العربية والبعض الآخر العلوم الدينية، وربما درس أحدهم في أحد المساجد ليلا علما أو كتابا لا يدرس بالقرويين دون أن يثير ذلك حفيظة إدراة الجامع والمدرسين، وبعبارة أخرى لقد انتفى عنصري الإجبار والإكراه الذان يميزان النظام التعليمي الحديث، كما انتفت اللوائح الإدارية والقوانين المدونة ولم يكن سوى القانون الأخلاقي، غير المدون، الذي يحكم علاقته بأساتذته وأقرانه.

-الأستاذ: وهو الوسيط بين الطالب وبين المنهج الدراسي، ولعله أهم أركان النظام التعليمي إذ بدونه لما أمكن انتقال المعرفة من مصادرها الأصلية إلى الطلبة ولما حظي التعليم الإسلامي بالاستمرارية، وبطبيعة الحال فإن الأستاذ هو شخص تمكن من ناصية العلم وبلغ مرتبة في الفهم تؤهله للتدريس، إذ لم يكن بمقدور أحدهم التصدر للتدريس بدون أن يكون حاصلا على إجازات من مشايخه، وهو متبره بعلمه لا يتلقى أجرا إلا من الأوقاف المحصصة للجامع، وكانت الهيئة التعليمية بالقرويين مؤلفة من أساتذة يتوزعون على خمس طبقات أعلاها أساتذة الدرجة الأولى، وهم كبار مشائخ الجامع، ويحق لهم وحدهم الجلوس على منابر مرتفعة أثناء إلقاء الدرس، بينما يجلس من دونهم على الأرض، وكان الطلبة يتحلقون حول الأستاذ وهم يصغون إليه بكل انتباه، ولا يوجهون الكلام إليه عندما يكون منهمكا في الشرح، فإذا أراد أحدهم توضيحًا أو سؤال فعليه انتظار نهاية الدرس ووقوف الأستاذ للانصراف، عندئذ يمكنه طرح سؤاله، والأساتذة وحدهم، لهم صلاحية إعطاء ” الإجازة” أو الشهادة لطلبتهم، ولا يحق لأحد غيرهم منح مثل هذه الشهادة، بما في ذلك القاضي أو سلطات المدينة.

وبصورة عامة كان جل أساتذة الجامع من المالكيين الذين توافروا جيلا بعد جيل على نصوص المذهب المالكي وخصوها بالشرح والتحشية والتعليق، حتى فاقوا نظرائهم المشرقيين في ذلك بعد أن كانوا يستندون في ذلك أوائل عهد الجامع على المؤلفات المشرقية.

المناهج: أما عن المناهج التي تدرس في الجامع فكانت حرة يختارها الأساتذة بأنفسهم، ولم تكن هناك جهة ما خارج الهيئة التدريسية تحدد ما يدرس وما لا يدرس، وقد بلغت تلك المناهج قرابة العشرون في مفتتح القرن التاسع عشر كما رصدها الباحث الفرنسي دليفان، وأهمها: التفسير، الحديث، الفقه، الأصول، التوحيد، التصوف، المنطق، البديع والمعاني، النحو، البلاغة، فضلا عن علوم أخرى مثل: الحساب والجدول، القضاء والأحكام، والطب، والجغرافيا. وبصفة عامة كانت المناهج تتوزع على فترتين صباحية ومسائية وبينهما استراحة للطلاب، وكانت الفترة الصباحية مخصصة للتفسير والفقه والحديث والقضاء، أما فترة الظهر فكان يدرس خلالها علوم العربية من نحو وبلاغة وبديع ومعاني، ويختتم اليوم الدراسي عند العصر حيث يذهب الطلبة لاستظهار دروسهم.

الكراسي العلمية بالقرويين

يتشابه جامع القرويين إلى حد بعيد مع غيره من المراكز التعليمية في المفردات السابقة، وإلى جوار هذه التشابهات هنالك بعض الخصائص التي ميزت القرويين، ولعل أهمها نظام الكراسي العلمية؛ وهي نظام أخذ به الجامع في القرن السابع الهجري، وتعني منصب يتولاه أحد العلماء لتدريس علوم أو كتب بعينها، وكان مبدأ ظهورها في القرن السابع الهجري وخصص أول كرسي للتفسير ثم توالى إنشاء الكراسي العلمية وخصص كل منها لمادة بعينها وربما تكرر الكرسي للمادة الواحدة وبخاصة في علم الحديث حيث اعتنى القروييون به اعتناء خاصًا، وبعضها الآخر خصص لتدريس كتاب بعينه ومن أمثلته كرسي البخاري بشرح فتح الباري لابن حجر العسقلاني وكان من بين مدرسيه الشيخ الونشريسي، وكانت ولاية الكرسي بالقرويين نعتبر منصبا ساميا ولهذا كانت لا تصدر إلا عن السلطان، أو ولي عهده خاصة، وكانت لكل كرسي أوقاف مخصصة للإنفاق عليه، وكان على الأستاذ الذي يتولى الكرسي مراعاة شروط الواقف في وقفه.

الخلاصة، أن جوهر نظام التعليم بالقرويين كان يتشابه مع أنظمة التعليم الإسلامية الأخرى، إلا أنه اختلف عنها في بعض الجزئيات مثل نظام الكراسي العلمية الذي استبقت به القرويين الجامعات العالمية.