يَقُولُ جون سي ماكسويل في كتابه (أساسيَّات العلاقات): سمعت أحدَ المُحامين يقُول: (نصفُ الخلافات والنِّزاعات التي تنشأ بين النَّاس لا يتسبب فيها الخلاف في الرأي، أو عدم القُدرة على الاتِّفاق؛ وإنَّما يتسبب فيها عدم فهم النَّاس بعضهم لبعض)، وعلَّق قائلًا: (فإذا استطعنا أن نُقلِّلَ سوء الفهم فلن تُصْبِحَ المحاكم بهذا القدر من الازدحام)؛ انتهى كلامه.

نحتاج إلى فهم الآخرين قبلَ أن نتسرَّعَ ونحكُم عليهم، وقبل أن نقوم بتفسير تصرفاتهم وتحليل دوافعهم وسلوكياتهم؛ فنَقْص المعلومات والمُعطيات التي نستطيع مِنْ خلالها تكوين فهم واضح للمُشْكِلَة يُبعدنا كثيرًا عن الحل.

إنَّ التَّفسير الخاطئ لموقف ما، قام به أحد الطرفين، واتخاذ قرار سريع بناءً على هذا التفسير يُعد واحدًا مِن أهمِّ أسباب المشاكل الزَّوْجِيَّة، فبعض الأزواج، وباستعجال، قد يبدأ في تفسير الأمور من وجهة نظره القاصرة، ويبدأ في المُحاسبة؛ مما يؤدي إلى تفاقم المُشْكلَة، ورُبَّما أنَّ ما قام به الطرف الآخر حدث بعفويَّة تامَّة، ولم يكن لديه أي مقصِد مما حصل.

وحتَّى يَتِمّ تصوُّر وفهم أبعاد المُشْكلَة جيدًا، أروي لكم هذه القصَّة التَّصويرية التي توضِّحُ أهميَّة عدم الاستعجال في الرَّدِّ، حيث كان هُنَاكَ حَطَّابٌ يجمع الحطب، وكان لدى هذا الحطَّاب كلبٌ، يُحبُّه كثيرًا، ويثق به؛ لأنَّه يحرس طفله الصَّغير عندما يذهب لجَمْع الحطب، فعاد يومًا مِن الأيام، فاستقبله الكلب عَلَى غَيْر عادته، وهو ينبح، وكان مُلَطَّخًا بالدماء، فظنَّ الحطَّابُ أَنَّ الكلبَ قد خانه وقتل طفله، فانتزع الفأس وضربه ضربةً قويَّةً خَرَّ بعدها الكلب صريعًا.

وبمجرد دخوله الكوخ اغرورقت عيناه بالدموع؛ حَيْثُ وجد طفله منهمكًا في اللَّعب وحوله ذئب مقتول والدماء مِن حوله، فندم ندمًا كَبِيرًا عَلَى سوء ظنِّه بكلبه؛ حيث كان هذا الكلبُ فرِحًا بمقتل الذئب، ويريد أن يخبر صاحبه بالخبر، ولكن ماذا سيفعلُ الندم؟ هل سيُرجِع له كلبَه الوفيَّ! يقودنا هذا الموقف إِلَى أنَّه يَجِبُ ألَّا نُفسِّر تصرُّفات مَن حولنا في لحظة غضب وتهوُّر؛ بل علينا أن نَدرُس تصرُّفات الآخرين وردَّات أفعالهم، ونتريَّث قبل إصدار الحكم النهائي، وقبل تنفيذ هَذا الحُكْم.

أحيانًا يَكُوْن لدينا تصوُّرٌ وفهمٌ خاطئ مُلتصق بذاكرتنا، ومرسوم في أذهاننا كصورة نمطية ذهنية مُتَعَلِّقَة بالطرف الآخر، فقد يلتصق بالذاكرة فكرة كانت تساورنا عنه، ويأتي ما يُبرِّرها بتصرُّفه تصرُّفًا يثير الشَّك، فتتم المُطابقة بين الفكرة والحدث، ويتم الرَّبط الخاطئ بينهما؛ مما يفتح مجالًا لسوء الظَّن. فهذه الصورة النمطية غَيْرُ صادقة؛ بَلْ إنَّها ستزرع الشِّقاق في الأسرة.

وهناك أيضًا مِن ينقل التصوُّرات الذهنية للآخرين ويصدِّقها ويطبقها بدون تمحيص عَلَى من حوله.

ومنهم مِن لديه تجارب سابقة، وبفهم خاطئ قد يُقولب إحدى هَذِهِ التَّجارب، ويعيد تصوُّر المشهد بنفس تجربته هو بدون تقييم، وفهم لما يدور حوله؛ فتحدث المُشْكِلَة، فعَلَى سبيل المثال: يرتسم في أذهان الكثيرين صورة زوجة الأب النَّمطيَّة التي صوَّرها الإعلام، ورسَّختها المورُوثات الثقافية عَلَى أنَّها امرأةٌ شريرةٌ، والواقع يعكس ذلِكَ في كثير من الأحيان؛ بَلْ قد تَكُوْن زوجةُ الأب أرفقَ بالأبناء من أُمِّهم؛ كزوجة الأب التي ليس لديها أبناء، وهذا واقع ومشهود.

ويحيط بنا في المُجتَمَع من لديهم اضطرابات نَفسيَّة، وسلوكيَّة، وانفعاليَّة، وقد تتفاوت المدارك من شخص إلى آخر، فمن المُهم علينا أن نفهم المحيطين بنا، وأَن نتعرَّف على شخصياتهم حَتَّى نُدْرِكَ ما سيحدث لنا مِن تصورات قادمة، وفهم خاطئ، وشخصياتُنا قد تعكس تصوُّرات الآخرين عنَّا، فَمِن المُهِم أَلَّا نزرع الشَّك فيمن حولنا، وعلينا أَن ندير تصرفاتنا بشكل سليم.

ويُحذِّر ديننا الحنيف من سوء الظَّن، فقال سُبْحانه: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ﴾ [الحجرات: 12]، والقرآن ينمي فينا النظرة الإيجابية، ويُربِّي النفس على تجنُّب الظَّن السيئ، يَقُولُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إيَّاكُمْ والظَّنَّ؛ فإنَّ الظَّنَّ أكْذَبُ الحَديثِ))؛ [مسلم: (2563)].

ولحل هذه المُشْكِلَة، ولتجنُّب سوء الفهم يَتِمُّ التحدثُ مع الشَّخص المعنيِّ بصراحة تامَّة، وأخذ ما لديه مِن أقوال وتبريرات حَتَّى يَتِمَّ إزالة اللبس؛ لأنَّه عند نقص المعلومات والمعطيات عن الآخرينيَتِمُّ إعطاء فرصة للتسرُّع في الحكم الذي لا يعتمد عَلَى مؤشرات ودلائل حقيقيَّة؛ فيكون معول هدم للأسرة، والمُصارحة في مثل هَذِهِ المواقف تئد المُشْكِلَة في مهدها، وتُقرِّب وجهات النَّظَر، وتُنهي النِّزاع.

ومن الأهميَّة كتمان الأمور الزَّوْجِيَّة، والبُعْد عن التَّسرع في نشر المثالب، حَيثُ تنتشر الأخبار بسرعة، ويتم الزيادة عليها، وبعد هَذَا لن ينفع الندم؛ لأنَّه ليس هُنَاكَ سُلْطة تعيد الأمور عَلَى ما كانت عَلَيْهِ قبل النَّشْر، وقد يؤدي ذلِكَ إلى قطع خط الرجعة بين الزَّوجين، والأمر كَمَا ذكرنا سابقًا لا يعدو كونه سوءَ فهمٍ وتسرُّعًا في الحكم، وإصدار قرار، وقد يكون أحد أهداف نشر المثالب تبرير هذا القرار الخاطئ. ومن الجميل التنازل عن بعض المواقف التي يستطيع الإنسان التَّنازُل عنها لدرء المُشْكِلَة، والسَّيطرة عَلَى الخلاف بشكل تام.

صورة توضح مطرقة قاضي فوق أوراق مكتوبة تحتوي على كلمة "عائلة" مقطوعة إلى نصفين، مع رسومات لأشخاص و خاتمي زفاف بجانبها، بالإضافة إلى وثائق الطلاق وأداة كتابة. تعكس الصورة موضوع الطلاق وتفكك الأسرة.
لمشاكل الحياة الزوجية عواقب وخيمة

مما سبق يتبيَّن لنا أهميَّة البُعْد عن سوء الظَّن وعدم التَّسَرُّع في الحكم، لما له مِن آثار سَيِّئَة، ومنها:
أولًا: الوقوع في الاثم، والغيبة، وهي كبيرة من كبائر الذُّنُوب.

ثانيًا: البحث عن الزلَّات، وتحميل الكلام أسوأ المحامل، وهناك مع الأسف من يدَّعي أنَّ ذلِكَ مِن الفطنة والذكاء.

ثالثًا: الأثر النفسي المدمِّر؛ حَيثُ تفتقد الأُسْرَة توازنها، ويسودها القلق وعدم الاستقرار.

إذًا يَجِبُ أن نلتمسَ الأعذار، ولا بُدَّ أن يكون التماسُنا للأعذار بمنهجيَّة واضحة، حَيثُ لا يكون له أيّ تأثير سلبي في الذات بإذابة الشخصية، وتجرُّع أو كبت الألم؛ بَلْ يكون التماس العذر للتحقُّق من واقعيَّة الحدث بكونه عارضًا أو غيرَ مقصود، أو فهمًا خاطئًا، أو أنَّ الطرف الآخر قد مرَّ بحالة نَفسِيَّة، وظروف مُتعبة، أو غير ذلِكَ مما قد يحصل في حياتنا اليومية، ويتم هَذَا الأمر بمناقشة هادئة، في بيئة مناسبة، وبأسلوب لطيف، حَتَّى نصل إِلَى أَنَّنا فعلًا قد أصبنا في التماس العذر باكتشاف الحقيقة، لتعود المياه لمجاريها، ويسود الهدوء في الأُسْرَة.

وبعد التماس العذر، وجلاء الحقيقة لا بُدَّ أن نُظهرَ “ثقافة الاعتذار”، فهي كالبلسم الذي يُعالج الجراح، فأثرها عظيم في سرعة إعادة التَّوازن للأُسْرَة، ولمِّ الشمل، والاستمرار في تقديم العطاء، وهي من القيم التي لها أثر كَبِيْر في مَدِّ جسور التَّعاون والتسامح، وتتطلب شجاعةً ووعيًا بأهمية العلاقات، ولا تعني الضعف والانكسار؛ بل هي تعبير عن النُّضج وثقافة احترام الآخرين.

تَريَّثْ قليلًا قل أن تُصدر قرارًا تَعَضُّ عَلَيْهِ أصابع الندم، ولن ينفع النَّدم إذا خسرت علاقاتك وأصدقاءك، وجميع من حولك، ولن ينفع البُكاء عَلَى ما سبق بعد فوات الأوان، فسوء الفهم، ونتيجته القاسية ستجعلك تشعر بالألم، والحسرة طويلًا، ففكِّر ألف مرة قبل أن تُقدِم عَلَى قرار تندم عليه طول عمرك.