يعد التفسير النبوي للقرآن الكريم من أعمق جوانب الدراسات الإسلامية، حيث يمثل الأساس الذي بُنيت عليه علوم التفسير عبر العصور. في هذا البحث، نغوص في بحر التفسير النبوي لنستكشف كيف كان النبي يفسر آيات القرآن الكريم، ونحلل الأنواع المختلفة للتفسير النبوي، ونستعرض المنهج الذي اتبعه في تفسيره.

يهدف هذا البحث إلى تقديم رؤية متكاملة حول التفسير النبوي، استنادا إلى الأدلة والنماذج العملية من السنة النبوية. والتعرف على الكيفية التي كان النبي يوضح بها معاني الآيات للصحابة الكرام.

 تناقش هذه الدراسة أربعة مباحث رئيسة:

  • تفسير الرسول للقرآن الكريم
  • حدود تفسير النبي لنصوص القرآن الكريم
  • أنواع التفسير النبوي
  • منهج التفسير النبوي

ونبدأ بالمبحث الأول.

المبحث الأول : تفسير الرسول للقرآن الكريم

كان الصحابة [1] على عهد رسول الله يستقبلون الوحي وما أتى به الرسول فيعقلوه بعقولهم، فإن اختلط عليهم أمر راجعوا الرسول فيه؛ ليرفع عنه التناقض، أو يزيل ما لحق بالعقول من غشاوة، دون معارضة للنص بحجة أن العقل لا يستسيغه ولا يقبله، أو أنه غير مقبول ولا يتفق مع منطق أو فلسفة كما فعل أصحاب المدرسة العقلية من المعتزلة القدامى وخلفائهم في عصرنا الحديث أصحاب المناهج الغربية.

فعلى سبيل المثال لما قال الرسول إنه: “لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة” فاستفسرت السيدة حفصة منه عن قول الله عز وجل: { وإن منكم إلّا واردها } [2] فأجابها الرسول أن الله تعالى قال: { ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيًا } [3] ؛ فورود المؤمنين المتقين؛ لينجوا من عذابها لا ليعذبوا مثل المشركين الكافرين.

ولما نزل قول الله عز وجل{ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ } (الأنعام : 82) فقال : “ذلك الشرك ألم تسمع قوله قول العبد الصالح { إن الشرك لظلم عظيم } [4]

والمستفاد أنه يجب لرفع التناقض بين النصوص أن ينظر إليها إجمالًا، لا الحكم عليها مجزأة هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن ذلك يعد دليلًا على أن الصحابة لم يناقشوا ما جاء به القرآن، ولم يعرضوه على عقولهم لقبوله من عدمه، ولم تتطرق إلى أذهانهم مثل هذه الفكرة من قريب أو بعيد.

فلقد كان الرسول هو المرجع في إزالة الحيرة من نفس الحائر. وكان المسلمون يسألون مستفسرين، والمخالفون لدينه يسألونه معارضين، ومتعنتين، ومجادلين. وكانت الأسئلة متنوعة، وكان الرسول يجيب وفق ما يقتضيه المقام، ولكنه صلوات الله عليه كان يكره المراء في الدين، والجدل بين المسلمين. وقد رويت في هذا المعنى أحاديث كثيرة بعضها صحيح، وبعضها حسن، وبعضها ضعيف ولكنها في جملتها تثبت هذا المعنى بحيث لا تدع  للشك مجالًا في موقف الرسول بالنسبة للجدل بين المسلمين في مسائل الدين.

ومن هذه الأحاديث ماروي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: خرج رسول الله على أصحابه ذات يوم، وهم يتراجعون في القدر، فغضب حتى وقف عليهم. فقال:”يا قوم، بهذا ضلت الأمم قبلكم باختلافهم على أنبيائهم، وضربهم الكتاب بعضه ببعض، وإن القرآن لم ينزل لتضربوا بعضه ببعض، ولكن نزل القرآن فصدَّق بعضه بعضًا، ما عرفتم منه فاعملوا به، وما تشابه فآمنوا به.”

 وعن أبي سعيد قال: “كنا جلوسًا عند باب الرسول نتذاكر، ينزع هذا بآية، وينزع هذا بآية، فخرج علينا رسول الله كأنما يفقأ في وجهه حب الرمان، فقال:”يا هؤلاء، أبهذا بعثتم أم بهذا أمرتم؟ لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض.” رواه الطبراني في الكبيرو الأوسط، والبزار، وعن أنس مثله.[5]

لقد كانوا يؤمنون بلا جدال بقوله تعالى: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [6]

ليس هذا فحسب بل يجب التأكيد على أنهم لم يغفلوا الرأي سيما أن الاجتهاد كان حاضرًا، وأقره الرسول كما فعل مع سعد بن معاذ حين أرسله إلى اليمن، فقد أقر النبي معاذًا على اجتهاد رأيه فيما لم يجد فيه نصًّا عن الله ورسوله، فقال شعبة: حدثني أبوعون عن الحارث بن عمرو عن أناس من أصحاب معاذ عن معاذ أن رسول الله لما بعثه إلى اليمن، قال: كيف تصنع إن عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بما في كتاب الله، قال: فإن لم يكن في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله قال: فإن لم يكن في سنة رسول الله ؟ قال: أجتهد رأيي لا آلو، قال: فضرب رسول الله صدري، ثم قال: الحمد لله الذي وفق رسولَ رسول الله لما يرضي رسول الله .

لكن المؤكد أنهم كانوا يدركون أمريين أن الاجتهاد العقلي له حدود، وأنه فقط لسد سكوت الشارع أو النص عن معالجة واقعة معينة أو حالة بعينها، فيرجعوا إلى سنة الرسول أو يجتهدوا في ضوء قصد الشارع ومراميه، ويقيسوا على العلة ليستخلصوا الحكم متفقًا مع النصوص لا من محض العقل البشري- وإن خالف النصوص- فأما أن يجتهدوا ليخلقوا حكمًا هو في حقيقته رأي بشري فهذا أمر غير جائز، هذا هو الحد الأول.

أما الحد الآخر الذي ما كان لأحد أن يناقشه في عهد الرسالة، فهو بعض القضايا، مثل: “خلق القرآن، وكيفية الخالق، وصورته، وهيئته” وغيرها من القضايا التي تولدت رويدًا رويدًا من الاحتكاك بالفلسفة اليونانية. وبالتأكيد أن وجود الرسول بينهم أو حتى الخلفاء الراشدين المهديين كان حائلًا دون طرح هذه القضايا التي حتى لو وجدت ما كانت لتجاوز عقول ومخيلة من تراوده مثل هذه الأفكار، بل يمكن تصور أنهم كانوا يسارعون للاستغفار؛ من باب أن هذه الأفكار ربما من قبيل الوسوسة، وعمل الشيطان، وربما كان حاضرًا في ذهن المسلمين قوله تعالى:{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [7]وقوله تعالى: { لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ } [8] فيتذكروا قول الرسول : “تفكروا في آلاء الله، ولا تفكروا في الله”. رواه الطبراني في الأوسط، وأبو الشيخ عن ابن عمر، وحسنه الألباني في الجامع.

وفي عهد الصحابة كان الأمر كذلك، فقد سأل سائل عمر عن آيتين متشابهتين فعلاه بالدرة، وكما أنه سأله سائل عن القرآن أهو مخلوق أم لا؟  فتعجب من قوله، فأخذ بيده حتى جاء به إلى علي رضي الله عنه فقال:  يا أبا الحسن استمع ما يقول هذا الرجل! قال: وما يقول يا أمير المؤمنين؟ فقال الرجل: سألته عن القرآن أمخلوق هو أم لا؟ فوجم لها رضي الله عنه، وطأطأ رأسه، ثم رفع رأسه، وقال: سيكون لكلام هذا نبأ في آخر الزمان، ولو وُليت من أمره ما وليت لضربت عنقه ” رواه أحمد عن أبي هريرة.

إذًا كان مرجع الصحابة في تفسير النص، والوقوف على معانيه، وما تضمنه من حكم هو الرسول وكان هذا أمرًا طبيعيًّا؛ فالرسول بينهم حيٌّ يرزق، ثم إن الرسول هو الذي نزل عليه وحي السماء، ولا يمكن أن يتصور عقل أو منطق أن تكون هناك مرجعية أخرى في ظل حياة الرسول يمكن الرجوع إليها لفهم النص، والوقوف عند أغراضه ومراميه.[9]

فما دام أن الرسول كان موجودًا حيًّا بين صحابته والمسلمين؛ فإنه المرجع الأول والأخير في فهم معاني النص القرآني، والوقوف على ما تضمنه من أحكام شرعية، ولا مجال لتفسير أحد غير الرسول .

 وفي الحديث حدثنا عبد الوهاب بن نجدة حدثنا أبو عمرو بن كثير بن دينار عن حريز بن عثمان عن عبد الرحمن بن أبي عوف عن المقدام بن معدي كربعن رسول الله -- أنه قال :ألا إني أوتيت الكتاب، ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه. ألا لا يحل لكم لحم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السبع، ولا لقطة معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها. ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه، فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه.

فهذا الحديث من الأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام ومعنى (ومثله معه) يعني: أن الله أعطاه وحيًا آخر وهو السنة التي تفسر القرآن وتبين معناه، كما قال الله تعالى: { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } [10] فهو أوحى الله إليه القرآن، وأوحيت إليه أيضًا السنة، وهي الأحاديث التي ثبتت عنه -عليه الصلاة والسلام- فيما يتعلق بالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والمعاملات، وغير ذلك. فالسنة وحي ثان أوحاه الله إليه -عليه الصلاة والسلام-، وهو يعبر عن ذلك بأحاديثه وكلامه موضحًا إياها للأمة، عليه الصلاة والسلام.

مثل قوله عليه الصلاة والسلام:”إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى” ومثل قوله : “لا تقبل صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ”. و”لا تقبل صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول”. ومثل قوله ”: الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، كفارات لما بينهن ما لم تغش الكبائر” إلى غير هذا.

فأحاديثه وحي ثان غير وحي القرآن، ومعناها وحي وألفاظها من النبي عليه الصلاة والسلام. وبعضها أحاديث قدسية من كلام الله -سبحانه وتعالى-أوحاها الله إلى نبيه عليه الصلاة والسلام وسميت أحاديث قدسية، وهي من كلام الله عز وجل فالأحاديث القدسية أنزلت لما فيها من العظة، والتذكير، والأحكام التي تنفع الأمة، فهي وحي ثان من الله إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: { والنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى *وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} .[11]

وبالتأكيد بعد وفاة الرسول سيكون هو المرجع الأساسي أيضًا لفهم النص طالما أن الصحابة عاصروه، واستفتوه في النص، فافتاهم .

صورة مقال التفسير النبوي للقرآن الكريم
كتاب (الإسلام والعقلانية) ، تأليف د. محمد عبدالفتاح عمار

كان من الطبيعي [12] أن يفهم النبي القرآن جملة وتفصيلًا، بعد أن تكفل الله تعالى له بالحفظ والبيان: { إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قرآنه * ثم إن علينا بيانه } [13] كما كان طبيعي أن يفهم أصحاب النبي -- القرآن الكريم في جملته من حيث ظاهره وأحكامه، أما فهمه تفصيلًا ومعرفة دقائق باطنه، فهذا غير ميسور لهم بمجرد معرفتهم للغة القرآن؛ بل لابد لهم من البحث، والنظر، والرجوع إلى النبي ؛ وذلك أن القرآن فيه المجمل، والمشكل، والمتشابه، وغير ذلك مما لا بد في معرفته من أمور أخرى يرجع إليها.

وقد كان الصحابة يتفاوتون في فهم القرآن الكريم؛ لأنهم لم يكونوا على مستوى واحد ودرجة واحدة في فهم معاني القرآن، بل تفاوتت مراتبهم، وأشكل على بعضهم ما كان يظهر لبعضهم[14] الآخر.

وأما السبب في ذلك، فيرجع إلى ما يأتي:

  1. تفاوتهم في الفروق الفردية والقوة العقلية والمدركات.
  2. تفاوتهم في العلم بأسباب النزول، فلم يلموا بها جميعًا.
  3. تفاوتهم في العلم بمعاني الكلمات واللغة.
  4. تفاوتهم في صحبة رسول الله --؛ لأن منهم من أسلم متأخرًا، أو كان كثير الأسفار، أو مجاهدًا في سبيل الله، أو مشتغلًا بأرض، أو تجارة، أو غياب، ولهذه الأسباب  لم يكن الصحابة على درجة واحدة في فهم القرآن الكريم؛ فقد يغيب عن واحد منهم ما لا يغيب عن الآخر.

مما يؤكد هذا، خلافهم حول معنى كلمة (أبًّا) في قوله تعالى: { وفاكهة وأبًّا } [15] وذلك أن عمر بن الخطاب قرأ على المنبر وفاكهة وأبًّا، فقال: هذه الفاكهة قد عرفناها، فما الأبّ؟ ثم رجع إلى نفسه فقال: إن هذا لهو التكلف يا عمر. وما أخرجه أبو عبيدة من طريق مجاهد عن ابن عباس قال: كنت لا أدري ما فاطر السموات والأرض،حتى أتاني أعرابيان يتخاصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، والآخر يقول: أنا ابتدأتها. وكذلك قصة عدي بن حاتم في فهمه لقوله تعالى: { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ } [16]فأخذ عقالًا أبيض وآخر أسود، وكان ينظر إليهما فلم يستبينهما. فلما أصبح، أخبر الرسول بشأنه؛ فأشار الى عدم فهمه المراد.

مما تقدم نلاحظ أن النبي هو أول من مارس التفسير وعلمه للصحابةرضوان الله عليهم وعلى ذلك فإن الرسول فسر القرآن الكريم، ولكن السؤال الذي اختلف الرأي حوله هو حدود تفسير الرسول للقرآن الكريم هل فسر الرسول القرآن كله أم فسر بعض الآيات؟ ثم المسألة الأخرى هو منهج الرسول في تفسير القرآن الكريم.