التفكير النقدي هو أساس التطوير لأن مسايرة ما هو واقع تؤدي به إلى التعفن وفي النهاية إلى التلاشي والاندثار، ولكن ما هو التفكير النقدي؟ هل يعني النقد إبراز المساوئ وغض الطرف عن المحاسن؟ ثم ما هي عوائق التفكير النقدي؟ وكيف نحلل الواقع بروح نقدية بناءة وكيف نعيد بناءه كذلك؟
التفكير النقدي هو التفكير الذي ينشد التطوير في اتجاه الأحسن؛ أي إعادة النظر وطرح الأسئلة العميقة حول النطلق والمسار والعوائق، من خلال تعزيز الإيجابيات وتنميتها وتبيين السلبيات وتغييرها، هو إذن عملية متفوقة جدا، حيث تحتاج “وعيا متحررا من البيئة والنماذج الشائعة ومتحررا من برمجة التيار الاجتماعي العام”.
تحتاج الأمم دائما لمفكرين راشدين يقومون مسارها ويرسمون لها ملامح المستقبل، يقول المؤلف:”تحتاج الأمم دائما إلى من يفحص لها مساراتها، ويتحسس مآلات أعمالها، ومن يمد لها قرون الاستشعار في جوف المستقبل حتى يضبط لها إيقاع حركتها اليومية برؤيتها المستقبلية”
وحسب المؤلف في كتابه تكوين المفكر فإن “الرؤية النقدية للمجتمع وأوضاعه بما فيها من إيجابيات وسلبيات هي الشيء الجوهري الذي يميز (المفكر) عن (العالم) و(الداعية) و(المتخصص)، لأن صناعة المفاهيم هي الشغل الشاغل للمفكر”، لذلك نحتاج إلى تنمية هذه المهارة حتى نستطيع تجاوز العقبات والدخول بأمان إلى المستقبل.
ولكن هناك سؤال سينبثق من هذه المسلمات والأحكام السابقة هو : كيف نؤسس للعقلية النقدية؟ يحاول عبد الكريم بكار الإجابة على هذا السؤال مقدما ثلاث مرتكزات أساسية:
1 ـ الشعور بالمسؤولية
ويعرفه المؤلف د. عبدالكريم بكار بأنه:”ذلك الشعور النبيل الذي يحول الصغير إلى كبير والهامشي إلى محوري، إنه فيزياء العظمة، ذلك أنه إذا لم يقم الذين حباهم الله بالوعي الصحيح ومن ملكة محاكمة الأمور بموضوعية وعمق، إذا لم يقوما بالواجب فإن ذلك سيحتم تخبط المجتمع بفعل آراء ونظريات آخرين غير مؤهلين.
ويورد المؤلف كلمة معبرة لمارتن لوثر كينج حيث يقول:”لست فقط محاسبا على ما تقول، أنت محاسب أيضا على ما لم تقل حيث كان لابد لك أن تقول”، نعم؛ إن الفرض الكفائي قد يتحول في لحظة ما بالنسبة لشخص ما فرض عين.
إن الشعور بالمسؤولية يدفع ويحمي، يدفع المفكر إلى الانغماس في مشاكل المجتمع من أجل حلها وتحليلها، ويحميه من تقديم الأفكار غير الناضجة ومن فطير الرأي، لأنه يدرك أهمية كلمته أو بحثه أو دراسته وخطرها في التوجيه والتأثير.
2 ـ رؤية ما هو خارج المألوف
قديما قيل إن العادة حجاب، لذلك يحتاج المفكرون إلى الخروج عن المألوف والتعالي عليه من أجل فهمه وتجاوزه، والمفكر صاحب البصيرة النقدية هو الذي يجب عليه القيام بذلك، إن عليه المقارنة بين أي شيء يريد فحصه وبين نظرائه، بالإضافة إلى شيء من الدراسة الكمية، أي معرفة نسبة انتشار الظاهرة.
إن غير المبدعين لا يحصلون على دهشة الاكتشاف لأنهم لا يفرقون بين ما هو طبيعي وما هو غير طبيعي، وبين ما هو عادي وما ليس كذلك، لكن المفكر المبدع له حاسة يستشعر بها الخلل ويعرف من خلالها نقاط القوة.
3 ـ إتقان فن التساؤل
إن طرح الأسئلة حول أي شيء نريد فهمه ونقده، يشكل أداة نقدية مهمة للغاية، لأننا من خلال الأسئلة ومحاولة الإجابة عليها نمتلك نوعا من الإحاطة الشاملة بكل جوانب المسألة أو القضية أو النص الذي نود نقده.
إن الأسئلة هي أهم أدوات تفجير المقولات السائدة والمسلمات، والعقل النقدي هو ذلك العقل الذي يتساءل أمام كل ظاهرة؟ كيف؟ لماذا؟ أين؟ متى؟ لم؟ هل إذا؟ وكيف إذا؟ إلى غيرها من أسئلة تنطلق من شك منهجي في الصلاحية والجدوائية كي تبني إجابة أكثر تماسكا وعمقا وفائدة.
4 ـ السعي إلى الوضوح
المفكر مصلح لذلك يسعى لبسط أفكاره وتوضيحها، وليس الإغراب والغموض من الفكر في شيء، لأنهما من الناحية الفلسفية يدلان على نقص المعرفة أو نقص الإدراك أو بهما معا، يقول المؤلف:”إن المفكر يعمل على امتداد حياته على مكافحة العماء و(اللا تكون) مع أنه يدرك تماما أن الجلاء التام قد لا يكون متاحا في كل الأحيان”.
ثم إن الغموض من الناحية العملية يحول بين المفكر وبين مخاطبيه، ولذلك ما تزال أفكار كثير من المنظرين رهينة كتبهم لأنهم لم يستطيعوا إيصال مضامينها بطريقة تفهمها الناس، فما الفائدة من كلام غير مفهوم؟ إنه مجرد طلاسم غير مجدية في المعرفة ولا في الممارسة.
عقبات أمام الممارسة النقدية
رغم أن الوعي النقدي هو الذي يوقظ حس المجتمع على مشكلاته وقضاياه وأشكال قصوره؛ إلا أن ممارسة النقد ليست بالأمر السهل. هناك ثلاث عقبات ـ حسب المؤلف ـ تواجه الممارسة النقدية، هي:
1 ـ المحيط الثقافي
إن المحيط الثقافي يكبلنا بأكثر من وثاق، ويمدنا بالأفكار والرموز والمفاهيم، ولذلك يشكل أكبر عائق أمام نضج الوعي وممارسة النقد، الإنسان يميل دائما إلى التفكير في إطار الثقافة التي تشبع بها منذ الصغر، ويجد نفسه ـ من غير وعي ـ منخرطا في الدفاع عن صوابيتها وجمالها وتفردها وتفوقها على الثقافات الأخرى.
إن المحيط الثقافي يمنعنا غالبا من مساءلة السائد والمألوف، ويقف عقبة أمام تغييرنا للمفاهيم والأفكار والرموز التي تربينا عليها وغلفت عقولنا ومشاعرنا، وقلة من الناس من يستطيعون وضع ثقافتهم الإجتماعية أمام سؤال النقد والغربلة.
2 ـ الخوف
وهو منبثق من العامل الأول إن كثيرا من المفكرين يملكون بفعل دراستهم وتكوينهم معرفة بجوانب قصور الثقافة السائدة في مجتمعاتهم ولكنهم لا يجرؤون على نقدها لأنهم يخافون.
يخافون من حراس المعبد الموهوم الذين يقفون عقبة دون أي محاولة تغيير أو نقد، فالمجتمع المتخلف يقوم بعزل الناقد الجريء وبالتحذير من أفكاره ورؤاه حتى يكون عبرة لغيره، وبالتالي يخاف من يأتون بعده، ويظل القطيع يواصل سيره على وقع حداء الراعي الذي لا يتغير.
إن الممارسة النقدية هي المدخل الرئيس للوعي النقدي ومن ثم لتغيير المجتمعات نحو الأفضل، والمجتمعات التي لا تعرف إلى أمجادها تظل في المؤخرة لأنها افتقدت عامل التقدم والاستمرار وهو إصلاح الأعطاب والاختلالات.