التوافق بين الزوجين من أبرز أسباب الحياة السعيدة في تكوين الأسر، حيث يمثل قدرة الزوجين على التكيف مع ظروف وصعوبات الحياة الزوجية.كما تتصف هذه العلاقة بقدر تها على الثبات والامتثال للمعايير الاجتماعية. ويعد التوافق الزواجي من الأسباب المهمة لاستمرار الحياة الزوجية الناجحة ومدى تأثيره على الأسرة، فماذا نعني بالتوافق بين الزوجين؟ وما هي مستوياته ومظاهره؟.
يعتبر تحقيق التوافق بين الزوجين من أهم ركائز الصحة النفسية للزوجين لإسهامه في إشباع الحاجات المعنوية والمادية لكلا الطرفين. ومفهوم التوافق بين الزواجي يعني الاتفاق النسبي بين الزوجين في علاقتهما الزوجية و التفاعل الإيجافي تحقيق أهدافهما المشتركة في حياتهما الزوجية.
بناء العلاقة .. وتحقيق التآلف بين الزوجين
يقول الحق جل وعلا في كتابه الكريم: (وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا)، فما المقصود بالإفضاء؟ وهل الفعل في الآية يقف فقط عند حدود الجسد وإفضاءاته كما يتصور الكثيرون؟ أم أن اللفظ جاء مطلقًا، ليشع كل معانيه، ويلقي كل ظلاله، ويسكب كل إيحاءاته، ليشمل العواطف والمشاعر والوجدانات والتصورات، والأسرار والهموم، والتجاوب في كل صورة من صور التجاوب؟ في كل اختلاجة حب إفضاء، وفي كل نظرة ود إفضاء، وفي كل لمسة جسم إفضاء، وفي كل اشتراك في ألم أو أمل إفضاء، وفي كل تفكر في حاضر أو مستقبل إفضاء[1].
وفي موطن آخر من القرآن يصف الحق العلاقة الزوجية بقوله: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة) ، فالله الخالق البارئ، جلت قدرته وتنزهت حكمته، خلق كلاً من الجنسين على نحو يجعله موافقًا للآخر، ملبيًا لحاجاته الفطرية: النفسية والعقلية والجسدية، بحيث يجد عنده الراحة والطمأنينة والاستقرار، ويجدان في اجتماعهما السكن والاكتفاء والمودة والرحمة؛ ليكون ائتلافهما وامتزاجهما مقدمة لإنشاء حياة جديدة.
ما هو الإفضاء؟
الإفضاء: التآلف أو التوافق أو الحميمية، ويمكن تعريفه على أنه العملية الديناميكية التي توفر للشريكين الأمان الذي يدفعهما للانفتاح كل منهما على الآخر على كل الأصعدة والمستويات، معبريْن بأمانة عن المشاعر والاحتياجات والأحلام والتخيلات والمخاوف والآمال والضعف والعيوب.
وبمعنى آخر، أن يتعرف كل زوج على شريكه جيدًا من خلال عملية التواصل، ويتعرف كل منهما على احتياجات الآخر؛ حتى يصلا لمرحلة الامتزاج سويًّا، مع احترام رغبة كل طرف من الطرفين في أن يكون له بعض المساحات الخاصة به.
ولا يستطيع الإنسان منا أن ينفتح على شريكه بهذه الصورة والكيفية إلا بعد أن يشعر بتمام الأمان مع الشريك، وأنه لن يتعرض لأي شكل من أشكال سوء الاستخدام من قِبَل هذا الشريك.
وتتأثر درجة التوافق أو التباعد والشد والجذب بين الزوجين على العوامل الآتية:
- مدى قدرة العلاقة بينهما على تلبية احتياجات طرفيها.
- مدى قدرتهما على إدارة التوازن بين الانفتاح على الشريك والامتزاج به مع الاحتفاظ بالخصوصية الفردية.
- مدى قدرتهما على تفهم الفروق بينهما كجنسين مختلفين، وكفردين لكل منهما سماته الشخصية وظروف تنشئته. وفي الأغلب يعتبر الرجال أن الإفضاء يشير بالأساس إلى الحميمية الجنسية، بينما تعتقد النساء أن الحديث ينصرف للعواطف والمشاعر وكلمات الحب والقرب والترابط.
والوصول إلى مرحلة التوافق الحقيقي يحتاج من الزوجين إلى:
- بذل الجهد للوصول إلى منطقة وسط بين فكر الرجال وفكر النساء.
- تعرف كل طرف منهما على احتياجاته الشخصية واحتياجات شريكه، ليعملا سويًّا على تلبية هذه الاحتياجات.
والوصول لهذه الغاية، والوصول بالعلاقة لهذه الصورة التي ارتضاها الحق سبحانه، العلاقة التي يتحقق فيها الإفضاء بهذا العمق والتي تحقق السكن لطرفيها، يحتاج لبذل الجهد المستمر، ولكنه جهد لا مفر منه؛ لأن العلاقة الزوجية التي لا تكون على غير هذه الصورة لا تحقق الإرضاء والإشباع لطرفيها، كما أن خطر الانفصال المادي أو المعنوي (اللا علاقة) يهدد بشدة هذا الزواج الذي لم يتحقق فيه هذا المستوى من الإفضاء والألفة والحميمية.
كيف تزيد مساحة التوافق بين الزوجين؟
أولاً: خطوة البدء.. التواصل مع النفس:
هذا المستوى من الحميمية والتآلف مع الشريك لن يتحقق إلا في وجود قدر من المعرفة والتآلف مع النفس، وعلى هذا الأساس يصبح تحقيق التوافق بين الزوجين متعلقًا بالقدرة على التآلف مع النفس والتخلص من رواسب الماضي، مع القدرة على التواصل الفعال مع شريك الحياة. وبمعنى آخر، لن يتحقق التوافق بين الزوجين إلا بعد توافر القدرة على التواصل الفعال مع النفس ومع الشريك. والتواصل الفعال مع النفس يتم من خلال الوعي بما في النفس، وذلك بالتأمل في المعاني التالية، ومحاولة استكشافها والإجابة عنها بصدق.
فكر في هذه الأسئلة وإجاباتها، وسجل هذه الإجابات، ولا تبخل بوقتك وأنت تبحر في داخل نفسك للتعرف على ما بها:
- ما الذي أفكر فيه؟ وما هي مشاعري؟ وما احتياجاتي؟
- ما هو المفضل لدي؟ وما هي معتقداتي الأساسية؟ وما هي أولوياتي؟
- ما الذي يسبب لي التوتر والقلق؟ ولماذا؟
- لماذا وُجدت على الأرض؟ وما هي أهدافي من الحياة؟
وقائمة الأسئلة التي ينبغي علينا أن نسألها لأنفسنا ونجيب عليها بصدق لا تنتهي، ولكن التواصل الفعال مع النفس والتعرف عليها هو أول خطوة نحو بناء علاقة سوية مع الحياة؛ وبالتالي مع شريك الحياة.
ثانيًا: التواصل الفعال مع شريك الحياة:
ويكون ذلك باستخدامنا كل المهارات التي تعلمناها في دروس الأسبوع الأول؛ ومنها الوعي والغوص بعمق للتعرف على احتياجات النفس والتأكيد على هذه الاحتياجات، مع الاستماع الفعال لشريك الحياة… إلخ، لأن غياب التواصل الفعال بين الزوجين يؤدي إلى مشاكل مختلفة في التوافق والحميمية بين الزوجين.
وحتى يمكننا التواصل سويًّا بفعالية علينا أن نتعرف على بعض الأفكار والتصورات والمعتقدات والسلوكيات التي تؤثر على تواصلنا مع شريك الحياة؛ لنعمل جاهدين على استبدالها بغيرها، (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).
ومن هذه التصورات التي تصبغ سلوكياتنا: اعتقادنا أن احتياجاتنا أهم من احتياجات الآخرين، أو أن احتياجات الآخرين أهم من احتياجاتنا، ومن المهم أن يتم تحويل هذا التصور إلى: “احتياجاتنا نحن الاثنين لها نفس الأهمية”.
ومن الاعتقادات الخاطئة أيضًا أن نتصور أن الخلاف بين الزوجين سيء ومدمر وغير مقبول على أي وضع، إلا أن حقائق الواقع وتجارب الحياة تدلل على أن الخلاف مع شريك الحياة يمكن أن يكون له نتائجه الإيجابية لو تمكنا من إدارته بفاعلية. وأعتقد أن لكل منا خبراته التي توضح أن حسن إدارة الخلاف بين الزوجين يؤدي إلى زيادة الثقة في النفس مع دعم العلاقة بين الزوجين.
وقد يكون الحوار التالي مثالاً لتواصلٍ بين زوجين بدأ بخلاف وانتهى بمزيد من القرب والحميمية:
الزوج: أنا محبط، مكتئب لأنني لا أفهمك، أشعر أنني لا أعرف من أنت بالضبط؟ (هذه هي المشكلة السطحية).
الزوجة: أنت تحتاج لشيء ما مني ولكنك لم تحصل عليه أليس كذلك؟ (استماع تعاطفي) الزوج يومئ موافقًا.
تكمل الزوجة: “ما الذي تريده مني حتى تتمكن من التعرف على من أكون؟” (بداية الغوص بعمق داخل النفس).
الزوج: أنت تعرفين، أريد أن أعرف كيف تفكرين؟ وبم تشعرين؟ وأين تقفين؟ (أفكار مشوشة).
الزوجة: هذا يعني أنك ستكون أفضل عندما أتحدث عما بداخلي. (استماع تعاطفي مرة أخرى)، والزوج يومئ موافقًا، مع شعور بأنه محترم ومسموع.
الزوجة لم تلم، ولم تدافع، ولم تغير الموضوع، ولم تصرخ، ولكنها أضافت: “أنا أريد أن أفعل ذلك، ولكنني أريد منك شيئا ما”.
الزوج: ما هو؟
الزوجة: “عادة عندما أتحدث معك عما أشعر به، أجدك تحكم عليَّ، أو تنتقدني أو تلومني، وهذا يحبطني ويشعرني بعدم الأمان”.
الزوج: “تقصدين أنني أنا المخطئ”. الزوج يشعر أنه ملام ويبدأ في الدفاع.
الزوجة: “بالطبع لا، فأنا لا أقصد هذا، ولكنني فقط أحاول أن أحدد احتياجاتي؛ وبالتالي يمكنني أن أقدم لك احتياجاتك، ما رأيك في أن يحاول كل منا أن يحدد ما يريده بالضبط من الآخر حتى نتمكن من دعم علاقتنا سويًّا؟”.
أعتقد أنه من المفيد أن تتوقف الآن عن القراءة؛ حتى تهدأ وترتاح من القراءة قليلا، وتبذل بعضًا من الوقت في التفكر فيما قرأته، وتغوص بداخل نفسك للتعرف على احتياجاتك المختلفة، وتسأل:
كم مرة تجاهلت احتياجات نفسي ولم أؤكدها؟
وكم مرة تجاهلت احتياجات شريكي ولم أحاول التعرف عليها أو تلبيتها؟
وكم مرة حاولت أن أبرر لنفسي إهمالي لاحتياجات شريكي بحجج مختلفة؛ منها الانشغال وضغوط الحياة، وما شابه، رغم أن تلبية هذه الاحتياجات لم يكن يكلفني كثيرًا؟
وكيف كان أثر هذا علي وعلى شريكي؟.
ثالثًا: الخصوصية واحترام المساحة البينية:
كل يوم من أيام الحياة يعني الكثير من التواؤمات والتسويات التي لا تنتهي، لتحقيق شكل من أشكال التوازن بين الحاجة لمزيد من الحميمية والألفة والمودة، بما في ذلك من الانفتاح على الآخر، مع الرغبة في الحفاظ على الخصوصية الفردية والكيان الفردي.
ولذلك فمن الضروري منذ البداية مناقشة إمكانية أن تظل بعض الأمور دون أن يطلع الشريك عليها، ونتفق على أنها مساحات خاصة وليست أسرارًا. فيجب أن ندرك مواصفات هذه المساحات، ولنعلم أن عدم اتفاقنا على هذه الأمور يؤدي إلى إغفال هذه المساحات أو إلى الشك والوسواس والصراع حولها.
رابعًا: تخصيص مساحة للتواصل والتغلب على المعوقات:
صناعة هذه الأوقات والابتكار في هذا الصدد أو استغلال الأوقات البينية للتواصل بين الزوجين مهم جدًّا، وخصوصًا في ظل ظروف حياتنا المزدحمة بشدة. كم أن التغلب على المعوقات التي تعترض طريق التوافق والتآلف والتناغم بين الزوجين، وهذه المعوقات تشمل:
- المشاكل النفسية الناجمة عن مرحلة التنشئة؛ كنتيجة لاحتياجات غير ملباة في الصغر، مع عدم الوعي بهذه الاحتياجات، وعدم الوعي بالاحتياج لتلبيتها.
- الاتصال غير الفعال.
- تجاهل الفروق بين الجنسين من حيث الاحتياجات وسبل تلبيتها.
- عدم الاتفاق المسبق على سياسة معينة نحو مساحات الخصوصية في حياة كل من الزوجين. (من المهم الاتفاق والوصول لحل مقبول لطرفي العلاقة حول ما يمكن إخفاؤه، ومهم أيضا الاتفاق على المساحات التي يتحرك فيها كل طرف من طرفي العلاقة بمفرده ومساحة هذه المنطقة مقارنة بالمساحات التي يتشارك فيها الزوجان، كالعلاقة مع الأصدقاء أو ممارسة هواية أو نشاط أو ما شابه).
التعرف على الاحتياجات والتواصل الفعال مع النفس والشريك هو البداية لعلاقة زوجية تنمو وتزدهر مع الوقت، وهو البداية لعلاقة زوجية ترضي طرفيها وتحقق لهما الإشباع المطلوب. فتعالوا معنا نرتقي سلم التوافق والتآلف بين الزوجين، عبر مستويات التوافق بين الزوجين.